الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء من أحاديث الدجال مما أورده المصنف في هذا الباب: ما جاء عن أنس قال: قال: رسول الله ﷺ: ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: ك ف ر[1]متفق عليه.
قوله: ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب هذا يدل على شدة خطر الدجال، وعظم فتنته، ويدل على أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أيضًا لا يعلمون الغيب، فكانوا ينذرون قومهم الدجال، ولا يعرفون متى يخرج، وإنما أنذروهم من فتنة الدجال خشية أن يظهر في زمانهم، فلا يعلم الغيب إلا الله -تبارك وتعالى- ومهما بلغت مرتبة العبد من القرب من ربه -تبارك وتعالى- فإنه لا يعلم الغيب، فالله هو وحده عالم الغيب: فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27] فيكون ذلك بوحي من الله ومن أدعى أن أحدًا يعلم الغيب سواء الله -تبارك وتعالى- فهو كافر، والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هذا نوح لما قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود:45] فكان جواب الله له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود:46].
وكذلك أيضًا إبراهيم جاءه الضيوف من الملائكة، فذبح عجله، وأشغل أهله، وأنضجه لهم، ثم قربه إليه، وقال ألا تأكلون، ثم أوجس منهم خيفة، لما امتنعوا من الأكل، ما كان يعلم عن شأنهم، وأنهم ملائكة، ولما جاءوا إلى لوط قال لهم مقالته المشهورة: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80] فأخبروه أنهم ملائكة: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ [هود:81] فهؤلاء الأنبياء الكرام -عليهم الصلاة والسلام- ما كانوا يعلمون الغيب.
فهنا يقول: ما من نبي إلا وقد أنذر أمته من الأعور الكذاب أعور في صفته الظاهرة، والعور -كما هو معلوم-: علة في العين بحيث يكون بذهاب العين، أو بذهاب بصر العين الواحدة، فهذا هو العور، والشاهد: أنه وصفه بالأعور الكذاب، والكذب هذا من صفته في خُلقه، فالأول في الخَلق، والثاني في الخُلق، وكل ذلك ليس من الكمال في شيء، بل هو من العيب، وإذا كان الأمر كذلك: ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب وكما سبق أيضًا في الحديث أنه ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال كما في صحيح مسلم، فيرد هنا سؤال، وهو لماذا لم يذكر الدجال في القرآن؟ هذه الفتنة العظيمة، ومع ذلك لم يذكر في القرآن.
فبعض أهل العلم قال: ترك ذكره تحقيرًا لشأنه، ولكن يرد على هذا أن كثيرًا من الحقيرين: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] وفرعون الذي ادعى الربوبية، وهامان، وقارون، كل هؤلاء ذكروا في القرآن، وبعضهم قال: هؤلاء ممن مضى، ولكن هذا سيأتي، وهذا جواب ليس بذاك، ويرد عليه يأجوج ومأجوج، ففتنتهم تأتي، ومع ذلك ذكرهم الله، وصرح بهم في القرآن، وهؤلاء يقولون: بأن يأجوج ومأجوج أمة سابقة بنا ذو القرنين السد دونهم، فهم ليسوا بشيء يوجد، أو يحصل، أو يحدث في ذلك الوقت في مستقبل الزمان، وإنما هي أمة ممتدة، هذا الجواب فيه نظر.
وبعضهم يقول: إنه ذكر، وذلك في قوله -تبارك وتعالى-: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] قالوا: المقصود بالناس الدجال، وأنه من العام المراد به الخصوص، وهذا فيه نظر لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الناس باعتبار أن هذا من الاحتجاج بخلق السماوات والأرض هذه المخلوقات العظيمة على البعث، والقدرة على البعث، أن الله قادر على بعث الأجسام مرة ثانية، فهو الذي خلق هذه الأجرام العلوية، والسفلية، العظيمة، الهائلة، فهو قادر على خلق هؤلاء الناس، وإعادتهم ثانيًا.
وبعضهم يقول: إنه ذكر في قوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158] قالوا: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ الدجال، وفي الحديث المشهور: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها فذكر النبي ﷺ: الدجال، والدابة، وخروج الشمس من مغربها[2] قالوا: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ هذا ذكر في القرآن.
فعلى كل حال لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا وهناك سؤال معروف في الحديث: وهو أن خروج الدجال ينفع معه العمل، فالجواب عنه أن هذه الآيات تخرج متتابعة، يعني متقاربة جدًا، فالأشراط الكبرى كالعقد الذي انفرط تتابع هذه الآيات، ولهذا جاء في الحديث: إن أول الآيات خروجا، طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى[3] أو نحو ذلك، يعني الأمر في غاية التقارب.
الله أعلم بذلك، يعني: لماذا لم يذكر الدجال في القرآن؟ فالنبي ﷺ ذكره ذكرًا وافيًا.
هنا قال: ألا إنه أعور هذه صفة يدركها كل أحد وإن ربكم ليس أعور فإذا كان العور ذهاب إحدى العينين، فقوله: وإن ربكم ليس بأعور احتج به أهل السنة على إثبات العينين لله مع النصوص الأخرى، له عينان تليقان بجلاله وعظمته إن ربكم ليس بأعور إذًا هذه علامة لا تخفى، والعلامة الثانية: مكتوب بين عينيه ك ف ر[4] كفر، هذه الحروف هنا مفرقة في رواية مسلم، والحديث متفق عليه. وفي رواية البخاري، في لفظ البخاري: مكتوب بين عينيه كافر[5] وبعض أهل العلم كابن العربي قرأ هذه، أو عدها، أو اعتبرها التي هي: كاف فاء راء من قبيل الفعل، كفر، أنها فعل، وليست اسم.
هذا المكتوب يقرأه كل أحد كما ثبت في بعض الروايات: كل مؤمن[6] وفي بعضها: كل مسلم[7] يعني ممن يكون قارئًا، أو من ليس كذلك، الأمي، من يقرأ ومن لا يقرأ، الكل يقرأ ذلك يقرؤونه بماذا؟
بعض أهل العلم يقول: يقرؤونه بعين البصيرة، بخلاف المنافق والكافر، فإنه لا يقرأ ذلك، أو أنه يقرأ ذلك حيث إن الله يخلق له قدرة على القراءة في هذا الشأن فقط، وهو لا يعرف القراءة، بمعنى أن ذلك لا يتلبس على أحد فيقرأه حتى الأمي.
يقول: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أحدثكم حديثًا عن الدجال ما حدث به نبي قومه ألا أحدثكم، بطريق العرض، يرغبهم بذلك -عليه الصلاة والسلام- ثم هذا الحديث: ما حدث به نبي قومه هذا زيادة على ما أنذرت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أممهم إنه أعور، وإنه يجيء معه بمثال الجنة والنار مثال الجنة والنار، بعض أهل العلم يقول: لعله يسحر الناس، يعني من باب سحر التخييل، فيرون الشيء على غير حقيقته، يرون الجنة نار، ويرون النار جنة، أو نحو ذلك، وبعضهم يقول: إن الله يخلق له قدرة على هذا فتنة للناس يأتي بمثال الجنة، والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار[8] يعني: أنه يموه، فالتي هي الجنة تكون في صورة النار، والتي تكون نارًا تكون في صورة جنة.
وعن ابن عمر -وهذا هو الحديث الأخير في الدجال- ثم تأتي أحاديث أخرى في الفتن، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله ﷺ ذكر الدجال بين ظهراني الناس" يعني بحضرتهم، بينهم فقال: إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى هنا وصفه العور أين هو أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية[9] متفق عليه.
كأن عينه عنبة طافية وبعضهم ضبطه هكذا في بعض الروايات طافئة[10] بالهمزة، طافية قلنا: بمعنى البارزة، تكون إحدى العنب ظاهرة، بارزة من بين سائر العنب، ظاهرة عن عنقود العنب، أو مجموع العنب، عين طافية، عنبة طافية، فهي بارزة، وطافئة، يعني: قد ذهب نورها، بمعنى: العنبة الطافئة هي: التي ذهب ماؤها، انكمشت، يعني ليست بحال من الامتلاء والكمال، وإنما فيها ذبول كأن عينه عنبة طافئة والذي عليه الأكثر في ضبطه طافية يعني أنها: بارزة.
وبعض أهل العلم قال: لعل المراد أن التي ذهب نورها هي: الطافئة، كالعنبة الطافئة، فيها ذبول، والتي يرى فيها هي التي تكون بارزة، وهذا في غاية القبح، يعني عين يبصر بها ظاهرة، خارجة، بارزة، والتي لا يبصر بها تكون ذابلة كالعنبة التي ذهب ماؤها كأن عينه عنبة طافية.
وجاء في بعض الروايات ما يدل على أن العين التي لا يرى بها، العين الأخرى يعني هذه طافية على هذا الضبط التي عليه الأكثر طافية يعني بارزة، وأن الأخرى ممسوحة، يعني: ليس فيها شيء أصلاً؛ ولهذا قال بعضهم: إن المسيح الدجال؛ لأن عينه الأخرى ممسوحة، فكون الإنسان يرى بإحدى العينين أيًا كان حال الأخرى هذا هو العور، والله تعالى أعلم.
على كل حال هو بهذه الهيئة يعني إنسان أعور، ومكتوب بين عينيه كافر، وجعد الشعر، ومكتنز البدن، قوي، شديد، ممتلئ هذه صفاته.
ونسأل الله أن يعيذنا، وإياكم منه، ومن كل فتنة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125]، برقم (3355) ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، برقم (2933).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان، برقم (158).
- أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض، ونزول عيسى وقتله إياه، وذهاب أهل الخير والإيمان، وبقاء شرار الناس وعبادتهم الأوثان، والنفخ في الصور، وبعث من في القبور، برقم (2941).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125]، برقم (3355) ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، برقم (2933).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] ((تُغَذَّى)) وقوله جل ذكره: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] برقم (7408).
- أخرجه الحاكم في مستدركه، برقم (8612) وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (6742).
- أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، برقم (2933).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1] -إلى آخر السورة- برقم (3338) ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، برقم (2936).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، برقم (4402) ومسلم، كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم، والمسيح الدجال، برقم (169).
- أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، برقم (2937).