الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن مرداس الأسلمي قال: قال النبي ﷺ: يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله باله[1] رواه البخاري.
مرداس الأسلمي من أهل بيعة الرضوان، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، يقول: قال: النبي ﷺ: يذهب الصالحون الأول فالأول يعني تباعًا متتابعين وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر والحثالة من كل شيء هي رديئه، الرديء من كل شيء: البقية الرديئة يقال لها: حثالة كحثالة الشعير أو التمر وحثالة الشعير أو التمر هي: ما يبقى من الشعير حينما ينقى، فيبقى كالقشر، ونحوه، وكذلك حثالة التمر، إذا وضع التمر في مكان، ثم بعد ذلك جف، ثم بعد ذلك أخذ أو رفع فيبقى مكانه بعض القشور والأقماع، ونحو ذلك، هذا شيء لا ينتفع به، ولا شأن له، ولا فائدة، ولا قيمة.
لا يباليهم الله باله ومعلوم أن أهل الإيمان، يكون آخرهم بعد أن تأتي الريح الطيبة التي تأخذ المؤمنين من تحت آباطهم، بعد زمن عيسى ثم تقوم الساعة على شرار الناس كما جاء في الأحاديث[2].
وعن رفاعة بن رافع الزرقي قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ قال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال، وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة[3]رواه البخاري.
رفاعة بن رافع الزرقي هو من شهد بيعة العقبة، وشهد بدرًا، وأحدًا، والخندق، وسائر المشاهد، يقول: جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ يعني ما منزلتهم؟
فقال: من أفضل المسلمين ومعلوم في مراتب الفضل بالنسبة لهذه الأمة، أن الأفضل بعد النبي ﷺ: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم بقية العشرة، ثم بعد ذلك أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، فجبريل قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة.
فأهل الإيمان يتفاوتون، وكذلك الملائكة يتفاوتون، والملائكة -كما هو معلوم- شهدوا غزوة بدر، وشاركوا في القتال، كما قال الله : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9] فهؤلاء الألف نزلوا، وشاركوا في القتال، في الأول قال: ألف هذه التي ذكرناها أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ هذه في سورة الأنفال، وفي سورة آل عمران قال: بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:124-125].
فبعض أهل العلم قال: هذا كله في غزوة بدر، وليس محل اتفاق، ولكن الله قال في غزوة بدر: بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9] يعني يتبعهم غيرهم، يأتي آخرون يردفونهم، بعد ذلك ينزل ملائكة آخرون بعد الألف، فهؤلاء الثلاثة، ثم خمسة، وهذه مشروطة، هذا على أحد الأقوال بأن ذلك جميعًا كان في غزوة بدر.
وبعضهم قال: كان الألف في غزوة بدر، والثلاثة ألاف، والخمسة في غزوة أحد وعد الله بهم، لكنهم لم يشتركوا في القتال، يعني نزلوا ثلاثة ألاف في أحد، لكن ما اشتركوا في القتال، في بدر اشتركوا في القتال، كما قال الله : إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12] التثبيت سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] فالملائكة قاتلت في يوم بدر، ولم تقاتل في غيرها من المشاهد. وعلى كل حال، هؤلاء الملائكة هم خيار الملائكة الذين شهدوا بدرًا، وهذا يدل على تفاضل الملائكة، وتفاوتهم، وأنهم ليسوا على مرتبة واحدة.
ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: إذا أنزل الله تعالى بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم[4] متفق عليه.
إذا أنزل الله تعالى بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم يعني حتى من الصالحين ثم بعثوا على أعمالهم) بعد ذلك يبعثون هؤلاء إلى الجنة، وهؤلاء إلى النار، ولكن البلاء، والمصيبة تعم، وقد دلت النصوص الأخرى على أن الله -تبارك وتعالى- ينجي المصلحين الذين ينهون عن الفساد في الأرض: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ [هود:116] وقال الله في قصة أصحاب السبت، الذين يعدون في السبت، قال: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [الأعراف:165] فهؤلاء أنجاهم، وسكت عن الذين سكتوا، وقال الله بعدما ذكر القرى المهلكة، والأمم المستأصلة بالعذاب: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116] فهؤلاء ينجيهم الله -تبارك وتعالى- وغيرهم قد يأخذهم العذاب مع من يعذب، يعني يستأصل في الدنيا بالعذاب، والأخذ العام، ثم بعد ذلك يبعثون يوم القيامة، كما جاء عن النبي ﷺ في الحديث الذي مضى في أوائل هذا الكتاب، في الكلام عن النية، أن القوم الذين يخسف بهم في الجيش يخسف بأولهم وآخرهم، الذين يغزون الكعبة[5] فهذا الجيش يخسف بجميعهم، ولكنهم يبعثون بعد ذلك على نياتهم، يبعثون على نياتهم، وفي هذا على كل حال، ما ينبغي من أن المؤمن عليه أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
وعن جابر قال: :كان جذع يقوم إليه النبي ﷺ" والجذع معروف، هو الذي تقوم عليه النخلة، يعني ساقها "يقوم إليه النبي ﷺ" يعني في الخطبة "فلما وضع المنبر" المرأة التي من الأنصار اقترحت على النبي ﷺ أن يعمل ولدها -وهو نجار- للنبي ﷺ منبرًا يقوم عليه في الخطبة، فوضع المنبر للنبي ﷺ فلما جاء أول مرة بعدما وضع هذا المنبر، يريد أن يقوم على المنبر، قال: "سمعنا للجذع مثل صوت العشار" الآن الجذع فقد النبي ﷺ والعشار جمع عشراء، وهي الناقة التي مضى عليها عشرة أشهر من حملها، أو الناقة حديثة الولادة، فأخذ ولدها منها، صاحت، صياح هذا الجذع، صياح هنا حن، قال: "سمعنا للجذع مثل صوت العشار حتى نزل النبي ﷺ فوضع يده عليه؛ فسكن"[6].
وفي رواية: "فلما كان يوم الجمعة قعد النبي ﷺ على المنبر، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق"[7] يعني من صياحها، وهذا الصياح كان بصوت يسمعه الجميع، بصوت مرتفع، كما جاء في رواية أخرى: "فصاحت صياح الصبي" كيف يصيح الصبي؟ بأعلى صوته "فنزل النبي ﷺ حتى أخذها، فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر"[8] رواه البخاري.
فهذا جذع جاف ليس فيه حياة، ويحن، ويصيح كصياح الصبي، لما فقد النبي ﷺ.
كان الحسن البصري -رحمه الله- إذا حدث بهذا الحديث يخاطب من سمعه، يقول: "هذا جذع حن إلى النبي ﷺ أما تحنون، وتشتاقون إلى نبيكم ﷺ"[9].
وهذا يدل على أن هذه الجمادات قد يخلق الله لها من الإدراك ما تعي به، كما قال الله -تبارك وتعالى- كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] فكل شيء يسبح لله من الجمادات، والنباتات، والحيوانات، وغير ذلك، وكذلك أيضًا سليمان سمع النملة تقول: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ [النمل:18] وهذا الهدهد قال: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22] إلى آخر ما ذكر.
وهكذا أيضًا: خرج نبي من الأنبياء يستسقي، فوجد نملة رافعة قوائمها إلى السماء مستلقية يعني تقول: اللهم إنا خلق من خلقك وتستغيث ربها -تبارك وتعالى- وتستسقي، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم[10]نملة تستسقي، والنبي ﷺ كان يقول: إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث[11] إلى غير ذلك من تسبيح الطعام، فهنا هذا الجذع كان يحن إلى رسول الله ﷺ.
لعل هذا القدر يكفي، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ذهاب الصالحين، برقم (6434).
- أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، برقم (2949).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، برقم (3992).
- أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب إذا أنزل الله بقوم عذابا، برقم (7108) ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، برقم (2879).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، برقم (2118).
- أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، برقم (918).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب النجار، برقم (2095).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب النجار، برقم (2095).
- أخرجه الأصبهاني في دلائل النبوة، برقم (24) وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (6473).
- أخرجه الطبراني في الدعاء، برقم (968) وضعفه الألباني في إرواء الغليل، برقم (670).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2277).