الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس قال: قلت لرسول الله ﷺ: يا رسول الله، غفر الله لك، قال: ولك قال عاصم: فقلت له: استغفر لك رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19][1] رواه مسلم.
قوله هنا: "قلت لرسول الله: يا رسول الله غفر الله لك" وهذا كما قال الله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] الآية التي قرأها النبي ﷺ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] بعض أهل العلم يقول إنها نازلة قبل نزول قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] فكان الله -تبارك وتعالى- قد أمره أن يستغفر لذنبه، ثم أعلمه أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويمكن أن يكون ذلك من الأسباب التي هيأها الله ورتب عليها هذه المغفرة، حيث أمر لنبيه ﷺ بأن يستغفر لذنبه، فغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وعلى كل حال، ولو كانت هذه الآية نازلة بعد قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] فإنه لا إشكال أيضًا، فإن النبي ﷺ مع مغفرة الله -تبارك وتعالى- له، فإنه يستغفر ربه -تبارك وتعالى-.
يقول: "قلت لرسول الله ﷺ: يا رسول الله غفر الله لك، قال: ولك" يعني: ولك غفر، دعا له ﷺ بالمغفرة، ثم تلا هذه الآية: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] فهذا استغفار منه ﷺ وامتثال لأمر الله .
وعن أبي مسعود قال: قال النبي ﷺ: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت[2] رواه البخاري.
مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى يعني مما نقل عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مما أثر عنهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت هذا يحتمل –كما يقول بعض أهل العلم- أن يكون المراد: إذا لم تستح، يعني: مما هو مباح لك فعله، إلا أنه يستحيا منه، فأنت في سعة، إن لم يمنعك منه الحياء فافعل إذا لم تستح فاصنع ما شئت هكذا قال بعض أهل العلم.
والظاهر أن ذلك ليس بمراد، وأن المراد: إذا لم تستح فاصنع ما شئت بمعنى: أنه إذا ترحل الحياء فإن الإنسان لا يردعه رادع، ولا يقف عند حد، ولا يدع ما يشينه، يحتمل أن يكون المقصود به التهديد والوعيد: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ويحتمل أن يكون ذلك: إذا لم تستح فاصنع ما شئت فإنك محاسب ومجزي عليه.
وعن ابن مسعود قال: قال النبي ﷺ: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء[3] متفق عليه.
أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء والحديث الآخر: أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة[4] فهل بين الحديثين تعارض؟
الجواب: لا، فإن هذا الحديث: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء المراد بذلك فيما يتصل بحقوق الخلق، ومطالباتهم، وما يكون بينهم من مظالم، فأول ما يقضى بينهم في الدماء، وهذا يدل على عظم شأنها، حيث قدمت على غيرها من الأموال والأعراض، وما أشبه ذلك.
وأما قوله: أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة فإن ذلك فيما يتصل بحقوق الله -تبارك وتعالى- فهذا وجه الجمع بين هذه الأحاديث.
ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم[5].
خلقت الملائكة من نور فهي مخلوقات لطيفة، نورانية، أعطاها الله من القدر، والإمكانات ما الله به عليم، ومن ذلك القدرة على التصور والتشكل، كان جبريل يأتي النبي ﷺ بصورة دحية الكلبي[6] وجاء مرة بصورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر.[7] الحديث، وكذلك أيضًا الملائكة الذين جاءوا على صورة أقرع، وأبرص، وأعمى[8] وغير ذلك مما ورد في النصوص.
فهنا: خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار الجن أصلهم من نار، والمارج: المشهور أنه تلك الألوان المختلطة التي تكون في أعلى النار، حيث يختلط فيها الحمرة، والخضرة، ولربما شيء من سواد، أو نحو ذلك، يكون فيه حركة، واضطراب، وخفة، واختلاط، هذا هو المارج الذي يكون في أعلى النار، من أخلاط من نار.
وبعضهم يقول: من مارج من نار يعني الأحمر، وبعضهم يقول: من مارج من نار هو مثل القبس المتوقد، شديد التوقد، والإضاءة، قبس من النار، شعلة من نار، ولكن المشهور هو ما سبق، أنها تلك الأخلاط من ألوان شتى، وهذا يدل على الخفة، وبخلاف خلق آدم، كما قال النبي ﷺ: وخلق آدم مما وصف لكم ما الذي وصف لنا؟
أخبرنا الله أنه خلقه من تراب، خلقه من طين، خلقه من صلصال كالفخار، خلقه من طين لازب، والجمع بين هذه الأوصاف الواردة في أصل آدم : أن الله خلقه من تراب، وبُلَّ هذا التراب، وخلط فصار طينًا، فترك مدة، فتغير، فصار بهذه الصفة: مِنْ طِينٍ لَازِبٍ ثم بعد ذلك جف حتى صار صلصالاً كالفخار، فهذه أطوار لهذا التراب، تحول حتى صار بهذه الصفة.
وإبليس الذي هو أبو الجن على المشهور، وبعضهم يقول: هو أبو الشياطين، وهو الذي خلق من نار، ويدل على ذلك أنه قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76] والعلماء -رحمهم الله- تكلموا في المفاضلة بين العنصرين، وردوا على قياس إبليس، وعلى اعتراضه على النص من وجوه كثيرة، من شاء فليطالع على سبيل المثال ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان، في الرد على إبليس في قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76][9].
فمما ذكروا في الرد أن النار فيها خفة، وهذا مظنة الطيش، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن الجن: "حتى المؤمنين منهم هم أهل خفة، وظلم في الغالب" ولذلك لا يصدقون إذا تكلموا، وقالوا: نحن كذا، ونحن كذا، ونحن جئنا لمساعدتك، فهم أهل خفة وظلم، هذا أصل العنصر، إلا من هذبه الإيمان، بخلاف الطين، فإن الطين فيه الرزانة ثقيل، والنار لا تأتي على شيء إلا وأتلفته وأحرقته، وأما الطين فتوضع فيها الحبة فتكون شجرة مثمرة، إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكروها، فهذا خلق أصل خلق هذه المخلوقات الثلاثة من النور، من النار، من الطين، لكن هل معنى هذا أن الجن الآن عبارة عن نار تتوهج؟
الجواب: لا بطبيعة الحال، كما أننا لسنا أجسادًا من الطين، وإنما تحول الخلق، وتغير بعد ذلك، لكن هذا أصل الخلقة، فالجن الله -تبارك وتعالى- أعلم بطبيعة أجسامهم، وما صارت إليه، ولكن ما يدعيه بعض الناس أحيانًا، وأن هذه صورة لأحد من الجن، ولربما التقطت في مغارة، أو في مكان، أو نحو ذلك هذا كله من الكذب، ومثل هؤلاء لا يمكن التقاط الصور لهم، ولا للملائكة، هؤلاء الذين يصورون أحيانًا شخصًا عليه هالة من نور، أو إلى آخره، واليوم الصور هذه لا يوثق بشيء منها، يعمل لها عمليات من "الفوتشوب"، والأشياء التي تجرى عليها بعض البرامج، فتغير تمامًا، فيمكن أن يصور لك الإنسان الحي الذي يرزق صورته مقتول، ومشوه، وهكذا يصورون الأشياء، فهذه الأشياء التي تروج أحيانًا، أو يصور إنسان في الحرم أنه جالس، وهذا ما شاء الله نور أكيد أنه ملك، وهذا في ميدان الجهاد ملك نزل، وما إلى ذلك، هذا كله لا صحة له، ولا ينبغي للمؤمن أن ينساق مع مثل هذه الأكاذيب.
نعم، نحن نؤمن بأن الملائكة قد يرسلهم الله لتأييد أهل الإيمان: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12] كما في بدر، لا ننكر هذه الأشياء، لكن هذه اللقطات التي تصور، وتنشر، هذا يحتاج إلى برهان، ودليل، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات خاتم النبوة، وصفته، ومحله من جسده -صلى الله عليه وسلم- برقم (2346).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3483).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة، برقم (6533) ومسلم، كتاب الأيمان، باب المجازاة بالدماء في الآخرة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، برقم (1678).
- أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الطهارة، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، برقم (413) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (1330).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة، برقم (2996).
- أخرجه أحمد في مسنده، برقم (25097) وصححه الألباني في مختصر السلسلة الصحيحة برقم (67).
- أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، برقم (8).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، برقم (3464) ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم (2964).
- انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشنقيطي (1/33).