الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: فإن خلق نبي الله ﷺ القرآن[1] رواه مسلم في جملة حديث طويل.
فإن خلق نبي الله ﷺ القرآن يعني أن ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في كتابه، مما ينبغي أن يتحلى به أهل الإيمان من الأوصاف والأعمال والكمالات والأخلاق، كان ذلك متحققًا برسول الله ﷺ فمن أراد أن يعرف خلقه -عليه الصلاة والسلام- فكما قالت عائشة -رضي الله عنها-: ألست تقرأ القرآن؟.. فإن خلق نبي الله ﷺ كان القرآن[2]
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن، أن يعرض نفسه على القرآن، فقد ذكر الله فيه محابه، والأوصاف التي ينبغي أن يتحلى بها أهل الإيمان، والأمور التي يكرهها ويسخطها، الله -تبارك وتعالى- يقول: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا [الفرقان:63-65] يعني هذه الأشياء من مشيتهم، سواء كانوا على الأقدام، أو كان في سيارة، من الناس من يركب سيارته، ويكون يسير سيرًا يدل على خفة في العقل، وسوء في الخلق يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان:63] من الناس من لا يكلم، بل حتى النظر إليه لربما يكون مبعثًا لكثير من الإشكال، وذلك لما يبدر منه من سيء القول، والفعل، لمجرد النظر إليه في الطريق، وهكذا: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان:64] ومع ذلك هم في غاية الخوف، يقولون: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا[الفرقان:65].
فهل نحن نبيت لربنا سجدًا وقياما؟ وهل هذا الخوف من الله يعمر قلوبنا، وندعو الله أن يعيذنا من النار؟ وهكذا بقية الأوصاف التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يتحلى بها المؤمن، أن يكون خلقنا هو هذا القرآن، ما ذكره الله فيه، كل مؤمن يعرض نفسه على القرآن، ويعرف ما هو عليه، والله يقول: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ لَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15].
وعنها قالت: قال رسول الله ﷺ: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقلت: يا رسول الله أكراهية الموت فكلنا نكره الموت؟ قال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه، كره لقاء الله، وكره الله لقاءه[3] رواه مسلم.
وقد مضى الإلمام بشيء مما دل عليه هذا الحديث، أن المقصود ليس بذلك كراهية الموت، فالناس يكرهون الموت؛ أهل الإيمان، وغير أهل الإيمان: يكره الموت، وأكره مساءته كما في الحديث القدسي: ما ترددت في شيء ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، وأكره مساءته أو كما جاء في الحديث[4].
ولكن المقصود هنا أن الإنسان في حال النزع والاحتضار عند الموت يبشر، يرى الملائكة، ويعرف ما يصير إليه، فهنا الكافر والمنافق يكرهان لقاء الله لأنهم يعلمون أنهم لا حظ لهم عنده، وأما أهل الإيمان فيحبون لقاءه؛ لأنهم عاينوا وشاهدوا ما هو خير من الدنيا وما فيها، ولهذا يقول الله عن اليهود، وعن المنافقين لما تولوا اليهود: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13] يعني على أحد المعنيين: كما يئس المقبورون الكفار في قبورهم حينما شاهدوا الحقائق، من ثواب الله في الآخرة، وهؤلاء، وهم أحياء -يعني اليهود- قد يئسوا من ثواب الله تعالى في الآخرة؛ لأنهم يعرفون أنهم على باطل -يعني: اليهود- تمامًا كيأس من عاين الحقائق وشاهدها من موتى الكفار الذين ضمتهم القبور.
وعن أم المؤمنين صفية بنت حيي -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي ﷺ معتكفًا، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني، فمر رجلان من الأنصار -رضي الله عنهما- فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا، فقال ﷺ: على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا، أو قال: شيئًا[5] متفق عليه.
هنا صفية -رضي الله عنها- زارت النبي ﷺ وهو معتكف، وهذا يدل على أن المعتكف يمكن أن يزار، وأن يتحدث مع من زاره، ولربما تحدث مع معتكف آخر، لكن ذلك لا يغلب عليه، ولا يطول، فقد كان أزواج النبي ﷺ يزرنه في معتكفه، فيتحدث إليهن، ويتحدثن إليه.
ثم قامت هنا صفية -رضي الله عنها- لتنقلب، يعني لترجع إلى بيتها، ولم يكن بيتها ضمن الحجر الملاصقة في المسجد، وإنما كان ناحية قريبًا من دار أسامة بن زيد فالنبي ﷺ قام معها ليقلبها، يعني ليرجعها إلى بيتها، يحتمل أنه أراد أن يمشي معها إلى باب المسجد، وكان ذلك ليلاً، ويحتمل أنه أراد أن يصل معها إلى بيتها ليأمن عليها، فيكون ذلك دليلاً على جواز خروج المعتكف من معتكفه لحاجة كهذه لا تطول، فيكون ذلك من جملة حوائج الإنسان، كخروجه للطعام والشراب، ونحو ذلك.
فمر رجلان من الأنصار -رضي الله عنهما- يعني في هذا الأثناء في ليل، النبي ﷺ مع امرأة يمشي معها "فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا" يعني شعروا أن هذا الموقف، وهذا المقام لربما يكون في المجيء إلى رسول الله ﷺ أو الوقوف، أو إدامة النظر، أن ذلك يكون فيه نوع من الفضول، أو الحرج، فأسرعا في المشية، فقال: على رسلكما ما تركهم النبي ﷺ وهو أشرف الخلق، وأفضل الخلق، وأطهر الخلق، وأصحابه يعرفونه، ويعرفون حاله، وطهارته، وزكاءه ﷺ فقال: على رسلكما كما نقول الآن: على هونك، يعني لا تسرع لا تستعجل.
إنها صفية بنت حيي ليدفع الشبهة والتهمة، وليقطع الطريق على الشيطان، هؤلاء الأنصار يعني هم ينزهون النبي ﷺ ويعرفون قدره -عليه الصلاة والسلام- ونزاهته، ولكن أراد النبي ﷺ أن يقطع الطريق على الشيطان، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، يعني: هل يُظن، هل يخطر بالبال أن نظن بك سوءًا، الإنسان يقول: سبحان الله إذا كان يتعجب من شيء فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم مجرى الدم من العروق، كيف الدم يجري في الشرايين والأوردة والشعيرات الدموية في كل مكان، يحتمل أنه يجري حقيقة مع هذه المجاري للدم، ومن ثم فإن الإنسان إذا أكثر من الطعام والشراب كان الشيطان عليه أقدر، ومجاري الطعام والشراب والغذاء إنما هو من مجاري الدم، يعني ما يصل منه إلى البدن فينتفع به.
ويحتمل أن يكون المراد تصوير جريان الشيطان، وتسلل الشيطان إلى النفوس كجريان الدم إلى داخل الإنسان في كل موضع من جسده، فالشيطان يتحرك، ويحرك هذه النفوس، ويلقي فيها الخواطر، والوساوس، والأفكار، والواردات السيئة، فينبغي للإنسان أن يقطع دابرها، هذا هو الطريق في كل شيء، إذا كان ذلك في أمر يرد عليه من غيره، كالذي يقول مثلاً: إنه مبتلى، بعض النساء تقول: أنا مبتلاة، بعض الرجال يقول: أنا مبتلى بعلاقة محرمة، باتصالات محرمة، ونحو ذلك، نقول: اقطع الدابر، من أين يأتيك هذا؟ من الإنترنت؟ ما تستطيع تتوب؟ اترك الإنترنت، من هذا الجوال غير الرقم.
وإذا كان هذا يأتي من أشياء يلقيها الشيطان في قلب الإنسان ابتداء كالوساوس، ونحو ذلك فإنه ينشغل عنها، لا يسترسل معها، ولا يتمادى، وإذا كان في موقف يمكن أن يُساء الظن به فإنه ينبغي أن يبين حاله، وأن يوضح هذا الأمر الذي يحصل به الالتباس على الناس، من أجل ألا يساء الظن به، فالناس قد لا يلامون إذا كان الإنسان يدخل مداخل الريب، ثم بعد ذلك يطلب من الناس أن يحسنوا الظن به، فهذا شاهد لهذه المسألة.
كل من كان في مقام ريبة، أو مقام تهمة، أو مقام يمكن أن يتسلل إلى النفوس تساؤلات: لماذا جاء في هذا المكان؟ فيوضح ذلك، ويبينه لئلا يسيء الناس الظن به، وقد ذكرت في بعض المناسبات أشياء من هذا القبيل.
قلنا في عام الحديبية، لما بركت ناقة النبي ﷺ قالوا: خلأت القصواء، يعني انقطعت، فقال النبي ﷺ: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل[6] إذا وجّهوها إلى مكة حرنت، وإذا وجّهوها إلى جهة أخرى انطلقت، فخلأت القصواء، الانقطاع في الإبل مع طول السفر، والتعب أمر معروف، القصواء جيدة لا يحصل لها هذا الانقطاع، فظنوا أنها كغيرها من الإبل التي يحصل لها هذا الانقطاع، فيقال: حرنت، تبرك، ولا تقوم بحال من الأحوال، ولو قطعت، قال النبي ﷺ: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق ما لامهم، ما قال: لماذا أنتم تقولون هذا من عند أنفسكم، لكن بيّن لهم أمرًا آخر، وهكذا في سائر المواضع.
الملائكة لما جاءوا إلى إبراهيم وذبح لهم عجله، وأنضج الطعام، وأشغل أهله بصنعه، فلما قربه إليهم ما أكلوا، فخاف، ولا يلام: أَلَا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] فهنا بينوا حالهم، وبينوا له أنهم ملائكة، فسُري عنه.
أما أن يبقى الإنسان في مواقف الناس يشكون، أو يتكلمون، أو يطعنون في عرضه، ثم يقول: لماذا يسيئون الظن بي؟ هذا إذا كانت مواقف عارضة، غير مقصودة، كيف إذا كان هذا الإنسان يتصنع هذا، ويقول: أريد أن أنظر ماذا تقولون؟ يختبر الناس، أو يمزح كما يقول، فهذا يكون اللوم متوجهًا إليه، ولذلك ينبغي للإنسان ألا يدخل مداخل الريب، فإن وقع له شيء يوجب الالتباس عليه أن يبين.
ثم ذكر الحديث حديث أبي الفضل العباس بن عبد المطلب قال: شهدت مع رسول الله ﷺ يوم حنين شهد الوقعة، وكانت في شهر شوال في السنة الثامنة من الهجرة، النبي ﷺ فتح مكة في رمضان في السنة الثامنة، ثم بعد ذلك بلغه أن هوازن، ومن دخل معهم قد جمعوا له في وادي حنين، اجتمعوا، يريدون يقصدون النبي ﷺ لأنهم يعرفون أنه ما عاد بقي إلا هم الآن، فيريدون أن يبدؤوا به قبل أن يبدأ بهم، فنزلوا من الطائف، ومن جبال الطائف، ووصلوا إلى وادي حنين، ووادي حنين قريب من عرفة، فجاءوا يقودهم مالك بن عوف النصري، ومعهم النساء، والأطفال، والإبل، والبقر، والغنم، يعني جاءوا بالنساء، والذرية، والأموال، ولما سألهم كبيرهم ومقدمهم وشيخهم الذي كان شاعرًا قائدًا محنكًا، لكنه كبر، وكف بصره هو دريد بن الصمة، جاءوا به إلى المعركة لينتفعوا برأيه، فسمع ثغاء الشاء، ورغاء البعير، وخوار البقر، وصياح الصغير، فقال: ما هذا؟
فقالوا: هذا مالك بن عوف أمر الناس أن يخرجوا بأموالهم، وذراريهم، يجعلونها من ورائهم من أجل ألا ينهزموا، تكون المعركة نهائية، أهله، وماله وراءه، جاءوا بالغنم، وكل شيء جاءوا به، معركة وجود وعدم، ما في مجال أنه يفر إلى الطائف، وكذا، أهله خلفه، وماله خلفه، الموت خير له، إما أن يموت، وإما أن ينتصر، فنبر بفمه، يعني صوت بالفم معروف، يستهزئ دريد بن الصمة، وقال: رويعي شاء ورب الكعبة، يعني ما هو مدبر حرب، فإن المنهزم لا يرده شيء، المنهزم لا يلوي على شيء.
المهم: كلموا مالك بن عوف في هذا الموضوع، بأن يرجع هؤلاء، فأبى، وقال: لأن لم تفعلوا لأتكئن على رمحي هذا، وأتحامل عليه، يعني ينتحر، هذا القائد الآن، تقبلون، ولا أنا الآن الرمح هذا أتكئ عليه، فقبلوا على مضض، وبدأت المعركة، وكانوا قد كمنوا في هذا الوادي، فلما دخل النبي ﷺ وأصحابه، وإذا بالسهام –كمين- كأنها مطر تزعزعه الريح، الرياح الشديدة في مطر كيف يتوجه المطر بقوة، فالسهام كانت كمطر تزعزعه الريح، فانهزموا لا يلوون على شيء، وما بقي مع النبي ﷺ إلا نحو عشرة، منهم: العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث، ليس أبو سفيان بن حرب والد معاوية -رضي الله عن الجميع- سيد قريش لا، هذا ابن عم النبي ﷺ وكان يشبهه جدًا، وهو الذي كان يهجوه هذا الشاعر، هذا الذي قال فيه حسان :
ألا أبلغ أبا سفيان عني | مغلغلة فقد برح الخفاء |
هجوت محمدًا فأجبت عنه | وعند الله في ذاك الجزاء |
أتهجوه ولست له بندّ | فشرّكما لخيركما الفداء[7] |
يقصد هذا، ألا أبلغ أبا سفيان عني، ابن عم النبي ﷺ كان شديد العداوة، فأسلم، وهو الذي وقف معه، وأخذ بركابه، والعباس آخذ بخطام، أو بزمام بغلته البيضاء دلدل.
يقول: يوم حنين، وحنين هذا قيل: سمي بحنين على اسم رجل، يقول: فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله ﷺ فلم نفارقه، ورسول الله ﷺ على بغلة له بيضاء، البغلة ما تستعمل في الحرب، لا تصلح لا للكر ولا للفر، ولكن رسول الله ﷺ لشدة وثوقه بالنصر جاءهم على بغلة، فلما التقى المسلمون والمشركون؛ ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله ﷺ يركض بغلته قبل الكفار، يركضها، يعني يضربها برجله، أو بشيء؛ من أجل أن تسرع تنطلق نحو الكفار، والسهام كالمطر، ويقول بأعلى صوته:
أنا النبي لا كذب | أنا ابن عبد المطلب[8] |
يعرفهم بنفسه -عليه الصلاة والسلام- لشجاعته، والعباس يقول: أنا آخذ بلجام بغلة رسول الله ﷺ أكفها إرادة ألا تسرع، هو يريدها أن تنطلق إليهم، والناس انهزموا، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ: أي عباس، ناد أصحاب السمرة[9] يعني الذين بايعوا النبي ﷺ تحت الشجرة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:17] بيعة الرضوان، فهذه الفئة التي تلقت التربية هي التي تثبت في أرض المعركة، لكن الذين أسلموا عام الفتح في الغالب حدثاء العهد بالإسلام، هؤلاء يسرعون الهزيمة، كما كان في يوم اليمامة، لما التقوا مع جيش مسيلمة حصلت مقتلة عظيمة، وانهزم الأعراب الذين كانوا في مقدم الجيش، فروا، فكان من تدبير خالد بن الوليد أنه نحى الأعراب، وجاء بأصحاب رسول الله ﷺ من أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، من السابقين الأولين، ووضعهم في المقدمة، فثبت الناس، وانتصروا، وقتل مسيلمة.
فهنا ما أمر أن ينادي الناس كل الناس، لا، أصحاب السمرة الذين بايعوا بيعة الرضوان، الذين كانوا في غزوة حنين كان عددهم اثنا عشر ألفًا، عشرة آلاف من جاءوا مع النبي ﷺ لفتح مكة، وألفان من مسلمة الفتح، اثنا عشر ألفًا، حتى قال قائلهم: لن نغلب اليوم من قلة[10] أكبر جيش يغزو مع النبي ﷺ في سيرته من أولها إلى آخرها، اثنا عشر ألفًا، ومع ذلك هزموا هزيمة ساحقة في أول المعركة، فأمر أن ينادى أصحاب بيعة الرضوان، فالذين تربوا هم الذين يبقون في النهاية، وكم عدد الذين بايعوا بيعة الرضوان؟ كم يبلغون؟ بيعة الرضوان، تحت الشجرة، في عام صلح الحديبية، في السنة السادسة للهجرة، ذهبوا معتمرين، وصدهم المشركون في الحديبية، فكم كان عدد الذين مع النبي ﷺ؟ عدد قليل، يعني لا يبلغ ربع هذا العدد اثنا عشر ألفًا، ما يبلغ الربع، وناداهم، كان رجلاً صيتًا، قيل: كان يبلغ صوته ثمانية أميال، قيل: كان يطلع على جبل سلع، جبل سلع تعرفونه في المدينة أول طريق السيح، منطقة السيح من المساجد السبعة، المساجد السبعة على سفح جبل سلع، الذي كانت عنده الخندق، جبل صغير، الآن متغطي بين البيوت، ما يظهر، فيطلع عليه العباس، وينادي غلمانه، وهم في الغابة ثمانية أميال، آخر الليل، يكلمهم، يناديهم تعالوا.
يقول: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ يقول: فو الله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، مالوا عليه مباشرة، وهذا يدل على أنهم ما ذهبوا بعيدًا في الهزيمة، قريب، سمعوا صوته فمباشرة رجعوا، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، انظر إلى هؤلاء من أهل الإيمان الذين وهذا يدل على الإنسان في أوقات الشدة العصيبة أنه قد يحصل له ذهول، فينهزم، لكنه لا يستمر في ذلك، بمجرد ما يذكر يرجع، يا أصحاب السمرة! يا لبيك يا لبيك، وجاءوا إليه وأرضاهم. فاقتتلوا هم والكفار.
يقول: والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، الأنصار ينادي بعضهم بعضًا -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، ينتخون بأهل النجدة، والقوة، والبأس، والصبر في القتال، وأهل الإيمان، كما كان في يوم اليمامة: يا أصحاب سورة البقرة! أصحاب سورة البقرة هم الذين يثبتون، ليس فقط الذين يحفظونها، الذين يفهمونها، ويتربون على معانيها، يا أصحاب سورة البقرة! اليوم أهل القرآن هم الذين يثبتون، أهل الإيمان.
فنظر رسول الله ﷺ وهو على بغلته كالمتطاول عليها، ينظر إلى الناس، ما الذي يحصل في الساحة، في المعركة، كالمتطاول عليها، ينظر إلى قتالهم، فقال: هذا حين حمي الوطيس الآن حميت المعركة، أول كان رشق سهام سريع، مقابلة سريعة، صدمة عنيفة، ثم هزيمة، ثم رجع، وبدأوا يجتلدون بالسيوف -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- فرآهم يجتلدون بالسلاح، فقال: هذا حين حمي الوطيس حمي الوطيس التنور، أو شيء يشبه التنور، أو حجارة ملساء تحمى، تكون حارة، ويقال النبي ﷺ هو أول من قال هذا، فصار يضرب، صار مثلاً سائرًا، إذا اشتد الأمر قيل: الآن حمي الوطيس.
ثم أخذ رسول الله ﷺ حصيات، حصباء، فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا، ورب محمد كما فعل ﷺ في يوم بدر، رماهم، وقال: ألا شاهت الوجوه فما بقي أحد إلا دخل في عينه[11] هنا رماهم، وقال: انهزموا، ورب الكعبة[12].
يقول العباس: ذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، ما تغير، الكفة ما مالت للمسلمين، يقول: فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرًا[13] رواه مسلم.
كل واحد منهم دخل في عينه من هذا التراب، والحصى، وصار مشغولاً، المعركة، الحال لا تسمح فيها؛ لأن الإنسان يعرك عينه؛ لأن الرؤوس تطير في ثواني، بل أقل من الثواني، ثانية واحدة يطير الرأس، فما أن يحرك عينه، إلا ورأسه يتدحرج.
يؤخذ من هذا الحديث معجزة للنبي ﷺ لأنه ما كان للحصى أن يصل، والله يقول: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] وكذلك يؤخذ منه: فضل هؤلاء الأطهار، فعليهم رضوان الله، وأخزى الله، ولعن من لعنهم، هؤلاء هم الذين فتحوا الدنيا، تعرفون رافضيًا واحدًا فتح قرية! الفتوحات الإسلامية من أولها إلى آخرها، يوجد رافضي واحد فتح بلدة واحدة، تعرفون رافضيًا في التاريخ الإسلامي كله قائدًا، أبدًا لا شيء، هم طفيليات، رأيتم القراد، طفيلي يعيش على غيره، يمص الدماء من هذه البهائم، والدواب، وغيرها، هذا مثله، طفيليات تعيش على حساب غيرها، هؤلاء الذي فتحوا البلاد، ونشروا الهدى في أرجاء المعمورة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم.
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، برقم (746).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، برقم (746).
- أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، برقم (2684).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502) ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، برقم (2685).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتكاف، باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد، برقم (2035) ومسلم، كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به، برقم (2175).
- أخرجه مسلم، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، برقم (2731).
- انظر: العقد الفريد، لابن عبد ربه (6/146).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاد دابة غيره في الحرب، برقم (2864) ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1776).
- أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1775).
- أخرجه الطبري في تفسيره، برقم (16576) قال الهيثمي: رواه البزار، وفيه علي بن عاصم بن صهيب، وهو ضعيف لكثرة غلطه وتماديه فيه، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي (6/179).
- أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1777).
- أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1775).
- أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، برقم (1775).