الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

في باب بيان ما أعد الله للمؤمنين في الجنة قال المصنف -رحمه الله-: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة -عود الطيب- أزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدام، ستون ذراعًا في السماء[1] متفق عليه.

وفي رواية للبخاري ومسلم: آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقِها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا[2].

قوله ﷺ: أول زمرة يدخلون الجنة أول زمرة يعني: أول جماعة، أو مجموعة من الناس يدخلون الجنة، والزمرة قيل لها: زمرة؛ لأن المجموعة يكون لهم صوت، كما قال الله : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73] جمع زمرة، فقيل: إن ذلك لما في الجماعة من الناس المجتمعة من صوت يصدر عنه، وقيل غير ذلك.

فالشاهد: أن هؤلاء أول مجموعة تدخل الجنة، ما هيأتهم وما صفتهم؟ قال: على صورة القمر ليلة البدر يعني: في الجمال والوضاءة والحسن والبهاء، والقمر في ليلة البدر يكون في غاية الاكتمال، ويضرب به المثل، أو يشبه به للحسن الكامل، يقال: فلان وجهه كالبدر، وهكذا جاء عن جابر بن سمرة قال: "رأيت رسول الله ﷺ في ليلة إضحيان، فجعلت أنظر إلى رسول الله ﷺ وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو عندي أحسن من القمر[3]، فعادة القمر يذكر ينظّر به بالحسن والجمال والبهاء والإضاءة.

ليلة البدر وهي ليلة التمام، ليلة الرابع عشر؛ وذلك في أكمل حالاته، وقيل له: بدر لأنه يبدر الشمس في غروبها، فيخرج قبل الغروب، كما أنها تبدره في الطلوع، فيكون غروبه بعد طلوعه، يعني يكون متقدمًا على الشمس على غروبها في طلوعه، ويكون متأخرًا عنها في طلوعها، فيغرب بعدها بعد طلوع الشمس، قيل له: البدر.

قال: ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة الكوكب الدري دون القمر، والدري بعضهم يفسره بالكوكب الكبير، وهذا يكون أشد إضاءة من غيره من الكواكب، وبعضهم فسّر الدري بشديد الإضاءة، وبعضهم يفسره بغير ذلك، وهو يقال بالهمز دريء، ويقال بلا همز دري، ويقال أيضًا بالضم وبالفتح وبالكسر للدال دُري دَري دِري، فالدُري بعضهم يقول هو الكبير، والدَري المضيء، وبالكسر لشدة اندفاعه، فيكون له من التوهج والإضاءة، المقصود أن هؤلاء يكونون على هيئة هذا الكوكب أشد الكواكب إضاءة، الكوكب الدري الكبير المضي المتوهج.

ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون وهذه أشياء ذكرناها، وسبق الكلام عليها؛ وذلك لطيب طعام أهل الجنة؛ ولأن الأذى منتفٍ عنها وعنهم، فلا يوجد فيها أذى، ولا نجاسات، ولا قذر ولا آفة، ولا تعتورهم الآفات، فهذا الطعام الذي يأكلونه ليس فيه فضلة، فيمتص الجسم ما ينفع منه، ثم بعد ذلك يخرج ما لا فائدة فيه، وإنما يكون ذلك بحالٍ مختلفة تمامًا، ثم يظهر منه على شكل أو على صورة التجشي أو الجشاء الذي كرشح المسك، كما جاء في الحديث الذي قبله ولكنْ طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك[4].

قال: أمشاطهم الذهب يعني: والفضة؛ لما جاء في بعض الروايات: أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك يعني: العرق، ومجامرهم الألوة وتضبط أيضًا بالفتح، يقال: الأَلوة، والمجامر: جمع مجمرة، والمجمرة هي التي أصلاً يوضع بها الجمر الذي يوضع عليه العود الطيب، فهؤلاء مجامرهم الأُلوة بعض أهل العلم فهم منه أن نفس المجامر مصنوعة من الطيب العود المعروف، وبعضهم فهم منه أن المقصود بمجامرهم ما يوضع فيها من الطيب، فعبر عنها بذلك؛ لأنه هو المقصود، فيقال: الألوة بالفتح والضم، يعني ما يوضع فيه من العود، ولا يرد على هذا أن الجنة ليس فيها نار مثلاً، فالدنيا تختلف عن الجنة، والله على كل شيء قدير، وقد توجد نار في هذه المجامر لا تحرق ولا تؤذي، وليس فيها أذى، وقد يكون هذا الطيب يصدر بغير نار، فالله تعالى أعلم.

مجامرهم الألوة فسر هنا بالحديث بـعود الطيب وقد يقول قائل: إن هؤلاء أمشاطهم الذهب، مع أنهم في الجنة لا يشعثون، ومجامرهم الأُلوة، ورائحتهم في غاية الطيب، يعني رشحهم المسك، فما الحاجة للتطيب والمجامر، وما الحاجة للأمشاط، وهم لا يشعثون في الجنة؟ فالجواب عن هذا: هو أنه -كما سبق في ليلة مضت- من أن الله رادف لهم ألوان النعيم، فمما يتنعم به في الدنيا هذه الأشياء، وقلنا لكم: بأن الجنة فيها هذه الأنواع من النعيم، وإن كانت حقائقها مختلفة، فحينما يمتشطون فإن ذلك ليس لشعث، وإنما ذلك لزيادة التنعم، وحينما يتطيبون بهذه الأُلوة، فليس ذلك لأن الجنة يوجد فيها روائح غير جيدة، أو نحو ذلك، وإنما زيادة في النعيم.

قال: أزواجهم الحور العين وعرفنا من قبل أن الحوراء بعضهم يفسرها بأنها شديدة بياض الجزء الأبيض من العين، مع شدة السواد، وأن هذا هو الجمال، والعين: جمع عيناء، وهي واسعة العين.

قال: على خَلق رجل واحد فهؤلاء على خَلق رجل واحد، وضبطه بعضهم بالضم على خُلق رجل واحد يعني في الصورة -في الجمال- والكمال، ما في واحد ضئيل وضعيف، وواحد طويل، وواحد قصير، وواحد بدين، وواحد نحيل، لا صورتهم في غاية الكمال، يؤيد هذا الضبط بالفتح خَلق رجل واحد ما بعده على صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء المقصود خلق يعني صورة هيئة رجل واحد، على صورة أبيهم آدم، هذا معنى على خلق رجل واحد ومن ضبطه بالضم على خُلق رجل واحد فإن هذا يشهد له الرواية الأخرى، وهي في الصحيح من قوله ﷺ: لا  اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد فهذا يؤيد أنهم على خُلق رجل واحد، وبعض أهل العلم كالنووي -رحمه الله- حمله على المعنيين، كما في شرحه لصحيح مسلم[5].

قال: على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء يعني: من جهة الطول، يعني يوسف أوتي شطر الحسن، نصف الحسن؛ ولما رأينه أولئك النسوة من شدة الذهول وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] يعني: صارت الواحدة لا تشعر بالسكين تقطع يدها، وهي لا تحس، بهرت بهذا الجمال، ولك أن تسرح الذهن كم بلغ هذا الجمال، بحيث أذهل هؤلاء النساء عن الإحساس، وطاشت عقولهن، فكيف إذا اكتمل الحسن.

أما الطول فستون ذراعًا في السماء، يعني ستون ذراعًا، أي: أنه يبلغ ثلاثين مترًا، سقف هذا المسجد، الآن كم يبلغ من الأمتار؟ ثمانية أمتار، عشرة أمتار، يعني ثلاثة أضعاف هذا السقف، هذا طول الواحد في الجنة، وهذا لا شك أنه من الكمال، والرواية التي في الصحيحين: آنيتهم فيها الذهب[6]، ليس المقصود في الآنية الذهب، وإنما الضمير يرجع إلى الجنة آنيتهم فيها يعني في الجنة الذهب، وهذا بعض آنية أهل الجنة، كما في حديث أبي موسى : جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما[7]، وهنا قال: آنيتهم فيها الذهب أي: في الجنة ورشحهم المسك يعني: عرقهم، ولكل واحد منهم زوجتان وهناك قال: أزواجهم الحور العين ما صفة هؤلاء الزوجات، هناك زوجات من نساء الدنيا لكل واحد زوجة، أو زوجتان من نساء الدنيا، وهناك الحور العين كما قال الله : وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:54] وردت روايات: أن الواحد يزوج بسبعين، ورد في غير ذلك، لكن كثيرًا من هذه الروايات لا يصح، حتى قال ابن القيم: إن هذه الروايات بجموعها يعني: لا كأنه يميل إلا أنه لا يثبت منها شيء[8]، إلا الشهيد فهؤلاء يزوجون بالحور العين، لكنه الثابت أنه يزوج بزوجتين، وابن القيم -رحمه الله- كأنه يميل إلى أن ذلك يكون الحد الأدنى لأقلهم مرتبة زوجتين، وما زاد فبحسب مرتبته.

وهنا قال: لكل واحد منهما زوجتان وذكر صفتها من الوضاءة وصفاء الجلد، وفي الذي قبله قال: من الحور العين وصف جمالها في أعينها، والمرأة تمدح بهذا؛ ولذلك يقال لها: تشبه عند الشعراء يقال لها: نعجة، كما في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا [ص:23] بعض السلف فسره بالزوجات، وإن كان الراجح أنه يحمل على الظاهر المتبادر، يعني النعاج المعروفة، لكن الذي حملوه من السلف على أن المقصود النعجة يعني الزوجة أرادوا ليس النعجة التي هي من الضأن، وإنما قصدوا بالنعاج المها، فهذه هي التي تسمى عندهم بالنعاج، وانظروا إن شئتم في أشعار العرب، وفي منثور كلامهم، حينما يشبهون المرأة بالنعجة من جهة عنقها وطوله وجماله، ومن جهة حسن عيونها، إنها في غاية الجمال، فالعرب كما يقال: فلانة كالمها، ولا زال الناس يسمون المرأة مها، وفلانة كالظباء أو ظبي، أو نحو ذلك، في جمالها، وحسن عيونها، وما إلى ذلك، والمفسرون الذين قالوا: المقصود بالنعجة المرأة، قصدوا هذه الظباء من المها ونحوها، هذا الذي أرادوه، والنساء لم يرد أحد منهم أنها أنثى الضأن، هنا وصف هؤلاء الزوجات قال: يُرى مخ سوقها من وراء اللحم من الحسن يعني: شدة الصفا يرى مُخ الساق كأن البشرة بلطافتها وصفائها الشديد، يرى مخ الساق، لا يحجبه جلد ولا لحم ولا عظم، هذا صفاء لا يعرف في الدنيا، كالزجاج من شدة الجمال، والإنسان حينما يكون فيه صفاء بالبشرة، ونحو ذلك، والنساء تعرفون يضعن أنواع الأدوية والأطعمة والعسل والليمون وأشياء كثيرة ويسألن عنها يجوز أو لا يجوز؟ عمل شديد وتضعه لربما بالساعات، ولربما تنغمس في بعض الأخلاط، وكل هذا من أجل أنها قرأت أنه يصفي البشرة، ومع ذلك لا يحصل لها ولا قريب من هذا، أما في الجنة فلا تحتاج إلى مثل هذه الأعمال، ولا إلى مثل هذه الجهود، ولا مثل هذه الأوقات التي تصرف لتصفية الأبشار، وإنما هي بهذه المثابة.

لا اختلاف بينهم لاحظ هذا من كمال النعيم، أن تكون القلوب مجتمعة لا تباغض بينهم قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيًا بمعنى: أنهم على وفاق ومحبة على تقارب، بل على اتفاق تام، مما يدل على أن الاختلاف الذي يورث التفرق والتنافر أنه من العذاب، وأن الغِل الذي يوجد في القلوب من العذاب، والكراهية من العذاب؛ ولهذا فإنه أخبر الله عن أهل الجنة وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43] فدل على أن نزعه والتخلص منه من النعيم، فمن أراد أن ينعم قلبه في الدنيا، فليتخلص من ذلك، قوله: يقول النووي: قوله: على خلق رجل واحد رواه بعضهم بفتح الخاء، وإسكان اللام، وبعضهم بضمهما، وكلاهما صحيح، يعني: حمله على المعنيين[9].

فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة ووالدينا وإخواننا المسلمين، وأن يغفر لنا ولكم أجمعين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -صلوات الله عليه وذريته- برقم (3327) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، برقم (2834).
  2. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3245) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًا برقم (2834).
  3. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الأدب، باب ما جاء في الرخصة في لبس الحمرة للرجال برقم (2811).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًا برقم (2835).
  5. شرح النووي على مسلم (17/172) حيث قال: "قد ذكر مسلم في الكتاب اختلاف بن أبي شيبة وأبي كريب في ضبطه، فإن بن أبى شيبة يرويه بضم الحاء واللام، وأبو كريب بفتح الحاء وإسكان اللام، وكلاهما صحيح، وقد اختلف فيه رواة صحيح البخاري، ويرجح الضم بقوله في الحديث الآخر: ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد)) وقد يرجح الفتح بقوله -صلى الله عليه وسلم- في تمام الحديث: ((على صورة أبيهم آدم أو على طوله))".
  6. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة برقم (3245).
  7. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] برقم (4878) ومسلم في الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى برقم (180).
  8. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ط العلمية (ص:106).
  9. شرح النووي على مسلم (17/172).

مواد ذات صلة