الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن سهل بن سعد قال: شهدتُ من النبي ﷺ مجلسًا وصف فيه الجنة، حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ثم قرأ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] إلى قوله: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]. رواه البخاري ومسلم[1].
هذا الحديث أو هذا المجلس وصف فيه النبي ﷺ نعيم الجنة الذي لا يقادر قدره، ثم قال ﷺ في آخره ليبين أن تلك الأوصاف، وما يمكن أن يقال في الجنة لا يعبر عن حقيقة الحال، وإنما يُقرب للسامعين فحسب؛ وذلك أن ما يتصوره الإنسان، إما أن يكون قد شاهده، أو سمع به، أو أنه تخيله بقلبه، فهو لا يخرج عن هذه الأمور الثلاثة، إما أمور متخيلة يتخيل الإنسان مثلاً حصانًا يطير، أو سيارة تطير، أو يتخيل قصرًا معلقًا في الهواء مثلاً، أو جنة معلقة في الهواء، فالذهن يتخيل، ومداه في ذلك واسع، أو أن يكون الإنسان قد شاهد أشياء مهما كان قدرها، وعلت مرتبتها، وتفننت أعاجيبها، أو يكون الإنسان قد سمع أشياء، وقُصَّ له من خبرها، فهنا الجنة شيء آخر تمامًا، لا يمكن أن يكون هذا في عالم المشاهدات، ولا في عالم المخبر عنه (المسموعات) ولا يمكن أن يكون ذلك مما يتصل بالوهم أو الخيال، أو ما يخطر على قلب الإنسان، مهما تعاظم قدره.
ولا خطر على قلب بشر هناك أشياء لا تخطر لك على بال، يعني مهما سرحت الذهن فإنه لا يصل إلى مداها، هذا معناها، يعني: أن العقل البشري لا يمكن أن يستوعب ذلك، أو أن يتصوره على حقيقته، وإنما تلك الأشياء المذكورة هي تُقرِّب لك هذا النعيم، والله المستعان.
فقرأ النبي ﷺ هذه الآية تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17] كما جاء عن بعض السلف: أن هؤلاء لما كانوا يُخفون أعمالهم تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا فهم يصلون الليل لا يراهم الناس، ولا يطلعون على قيامهم، جازاهم الله بهذا النعيم الذي لم تره العيون، ولم يخطر على قلب بشر، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] أخفوا أعمالهم، فأخفى الله جزاءهم، والجزاء من جنس العمل.
وعن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي منادٍ إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا رواه مسلم[2]، نفى عنهم الآفات بجميع أنواعها ما هذه الآفات؟
الآفة الأولى: هي الموت، هذا الذي نغص على أهل النعيم نعيمهم، وهو الهاجس الأكبر لدى أكثر الناس، يتخوفون من الموت، ويقربونه، وإذا أصاب واحد منهم الضر أخذه ما قرُب وما بعُد؛ لأنه يحاذر الموت ويخشاه، هناك لا خشية من الموت؛ لأنه لا يوجد موت، وما قال لهم: إن لكم أن تحيوا، وأن تصحوا، وإنما قال: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا لأنهم لو قالوا: إن لكم أن تحيوا فقد تكون هذه الحياة يعتورها الموت، ولو بعد زمن طويل؛ ولهذا يقول الله : خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:57] فهذا خلود بلا انقطاع.
الآفة الثانية: وهي أيضًا مما يقلق الناس كثيرًا: وهي أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا فالحياة آفتها الموت، والصحة آفتها المرض، فالأسقام تتوارد على الناس بأنواعها، والناس يحاذرونها، ولربما تركوا كثيرًا من الطيبات من المطعوم والمشروب وغير ذلك، حذرًا من الاعتلال والمرض، وهناك في الجنة لا يوجد مرض، ولا يوجد مريض، ولا يوجد أحد يعاني من مرض يسير، ولا من مرض خطير، الأمراض تنتفي هناك جميعًا، والناس في كمال الحال، وكمال العافية والصحة، وهذا لا شك أنه من النعيم، والإنسان حينما يكون مريضًا فإنه لا يلتذ ولا يتنعم، ولا يهنأ له الطعام، ولا النوم، ولا يهنأ له العشرة مع الناس، ولربما انعزل وأصابه البؤس والاكتئاب، وما أشبه ذلك، بسبب هذا الاعتلال، وهناك لا يوجد شيء ينغص عليه من هذه الحيثية، ولا من غيرها.
الآفة الثالثة: وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا أنه لا يتطرق إليهم الهَرَم، والهرم علة لا دواء لها، يعني: الموت والهرم لا دواء لهما، ومهما حاول الإنسان أن يذهب إلى الأطباء، أو إلى العطار ليصلح ما أفسده الزمن، كما يقال، فإن هذا لا يجدي عنه شيئًا، ففي الهرم تبدأ خلايا دماغ الإنسان وجسمه تموت، ولا تتجدد كما يتجدد خلايا الشباب في أبشارهم وأعضائهم، وما إلى ذلك، فيضعف أداء هذه الأجهزة التي في جسم الإنسان، كالقلب والكلى والكبد، وما إلى ذلك، فيعسر عليه هضمه، وتتكدر عليه عافيته، ويضعف بصره، وتتلاشى أطرافه، ثم بعد ذلك: ينوء إذا ما رام القيام ويُحمل، ولا تحمله رجلاه، ولا يستطيع الحراك والقيام والنهوض، وإنما يحتاج إلى من يعينه في هذا كله، فهذا الهرم لا علاج له، ولا يوجد أدوية في الدنيا، ولا يمكن للناس أن يكتشفوا علاجًا لهذه الآفة للهرم؛ لأن ذلك أمر جبل الله عليه الخليقة لا خلاص منه يرد إلى أرذل العمر هذا من عمر ومن وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ [يس:68] والإنسان كما قيل:
المَرْءُ يَأَمُلُ أَنْ يَعِيشَ وَطُولُ | عَيْش قَدْ يَضُرُّه |
تَفْنَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْقَى | بَعْدَ حُلْوِ العَيْشِ مُرُّهْ |
وَتَصَرَّفُ الحَالاتُ حَتَّى | مَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهْ[3] |
والنبي ﷺ استعاذ من الهرم، وليس المقصود من قول النبي ﷺ عندما سئل: من خير الناس؟ فقال: من طال عمره، وحسن عمله[4]، وإنما المقصود الحالة التي يصير الإنسان فيها عِبئًا وعالة على الآخرين، حيث تتلاشى القوى العقلية المدركة، وكذلك أيضًا القوى العضلية والبدنية، وما إلى ذلك، فلا يستطيع النهوض ولا القيام، ويخرج وينسى لماذا خرج؟ بل لربما يخرج ولا يستطيع الرجوع، يخرج عند الباب لا يعرف أين يتجه؟ وهذا مشاهد، فيتحول إلى حال كالطفل الصغير، ذي السنتين أو الثلاث، يقفل دونه الباب، ويقفل دونه الأماكن الخطرة، ولا يترك وحده، ونحو ذلك، والشاعر يقول:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ، وَمن يعِشْ | ثمانِينَ حَوْلاً لا أبَا لكَ يَسْأم[5] |
والله المستعان، ففي الجنة الهرم لا يحصل، فكلهم شباب، وهذا الشباب دائم وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا البؤس هو وقوع الضُّر بالإنسان، فتقع له مكاره، ويقع له فقر ومسغبة، وما إلى ذلك، فهنا ينتفي عنه البؤس، ولا يوجد شيء يُكدّر خاطره، ولا في شيء مزعج، ولا مشاكل ولا أحزان ولا قلق ولا علل وأوصاف، ففي كل ذلك ينتفي عنه، فالناس في غاية السعادة والرغد والراحة والنعيم الطيب، وليست المسألة سبعين مليون سنة، المسألة بلا انتهاء، ونحن الجيد منا الذي يقدر له طول العمر لربما يصل إلى سبعين أو ثمانين أو تسعين، فيسأل الناس عنه دائمًا إذا بلغ الثمانين هو يصل دورة المياه؟ هو يستطيع أن يقوم بشؤونه بنفسه؟ خلاص كلّت قواه، وهناك لا يوجد شيء من هذا، فهل يعقل -أيها الأحبة- أن الإنسان يفرط بهذا النعيم الدائم بلذة فانية في هذه المدة اليسيرة التي يعيشها كأنها أحلام؟! هذا لا يعقل، العاقل لو نظر وفكر فإنه لا يختار لنفسه سوى هذا، ومَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت:46] وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لقمان:12] حينما يشكر الإنسان ويكون على تقوى واستقامة وتدين وصلاح وعبادة، هو لا يقدم لله إحسانًا ومعروفًا، فالله ليس بحاجة إلى عمله، ولا إلى عبادته، فالله غنى عنا وعن عملنا، فهو الغني الغنى الكامل المطلق، لكن مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا فهذه أشياء تستوجب أن يقف الإنسان معها، ويفكر في عمله الماضي، وماذا سيعمل في المستقبل؟ وأين هذا النعيم منه؟ وهل سيدرك ويحصل، أو أنه مفرط مضيع؟ طالما أن الفرصة ممكنة، والله المستعان.
أختم بهذا الحديث، وهو حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له: تمن فيتمنى، ويتمنى، فيقول له: هل تمنيت؟ فيقول: نعم، فيقول له: فإن لك ما تمنيت، ومثله معه[6]، رواه مسلم، ما تمنيته مثله معه، هذا لا يعارض ما مضى في بعض الأحاديث السابقة من أن آخر واحد يدخل الجنة يقال له: فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها[7] يعني: الدنيا من أولها إلى آخرها فيقول: أتسخر بي وأنت الملك يعني: هو لا يكاد يصدق هذا الكلام، هنا هذا الذي يقال له: تمنى لا يخالف ما سبق، فقد يلهمه الله أن يتمنى مثل الدنيا مثلاً عشرة أمثالها، فيعطيه الله ذلك، ويضاعف له في العطاء، ففضل الله واسع، وهناك إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] هناك ما في حساب للريال، وعلى الخمسين وعلى العشرة وعلى الهللة وعلى المائة وعلى الألف، أقل واحد يقال له: تمنى، ويش تتمنى؟ فيعطى ضعف ما تمنى، هذا أين يوجد؟ وأين نعيم الجنة من نعيم الدنيا؟ ومن الذي يستطيع أن يقول لك في الدنيا مهما عظم شأنه، وكثر ماله، يقول لواحد من الناس فقط: تمنى، وإذا جاء قال له: تمنى كل ما تحت يدك، يعقل هذا؟ سيعطيه عشر معشاره، أبدًا، هو يقدر في نفسه إنه إذا قال: تمنى، قال: أتمنى زوجة وسيارة وفيلا، هذا الذي يتمناه، ومليون، هو يتمنى هذا، يعني يتمنى شيئًا معقولاً بالنسبة إلى أهل الدنيا، لكن لو جاء واحد وقال له: أنا أتمنى الجنة، الجنة لا يملكها، ولما دخل سالم بن عبد الله مع بن عبد الملك البيت، فقال له هشام: سلني حاجتك، قال: أكره أن أسأل في بيت الله غير الله[8].
وقال أحدهم: والله أني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملك الدنيا، فكيف أسألها من لا يملكها[9].
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة ووالدينا وإخواننا المسلمين، وأن يغفر لنا أجمعين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، وأنها مخلوقة برقم (3244) عن أبي هريرة، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم (2825) عن سهل.
- أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في دوامِ نعيم أَهل الجنة وقوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] برقم (2837).
- الأبيات للبيد كما في الوحشيات = الحماسة الصغرى (ص: 155) وفي أمالي القالي (2/8) للنابغة الجعدي، وفي شرح نهج البلاغة (8/293) والكشكول (2/105) لأبي العتاهية.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن برقم (2329) وصححه الألباني.
- ديوان زهير بن أبي سلمى (ص:5).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية برقم (182).
- أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار برقم (6571) ومسلم في الإيمان، باب آخر أهل النار خروجا برقم (186).
- البيان والتبيين (3/127).
- البيان والتبيين (3/127).