الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
(188) أذكار النوم شرح معاني آيتي سورة البقرة " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..."
تاريخ النشر: ٠٨ / شوّال / ١٤٣٥
التحميل: 2047
مرات الإستماع: 1884

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

نواصل الحديث -أيّها الأحبّة- في معاني هذه الآية الكريمة من آخر سورة البقرة، وهي الآية الأخيرة، وقد مضى الكلامُ على الآية التي قبلها؛ وذلك ضمن الكلام على الأذكار التي تُقال عند النوم.

فالله -تبارك وتعالى- يقول: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، التَّكليف: بمعنى إلزام ما فيه كُلفة ومشقّة، وهذه الكُلفة إذا كانت مما يُحتمل فهذا يرد ويقع في الشَّريعة؛ لأنَّ التَّكاليف لا تخلو من مشقَّةٍ، وكما يقول الشَّاطبي -رحمه الله-: "إنَّ الشَّريعة موضوعة لإخراج المكلَّف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله"[1]، وهذا أمرٌ لا شكَّ أنَّه تحصل به مشقَّة على الإنسان، مع أنَّ من أهل العلم مَن لم يستسغ تسمية الشَّرائع والأمر والنَّهي ونحو ذلك بتكاليف؛ وذلك أنَّهم نظروا إليها من جانبٍ آخر: وهو أنَّ العبد إنما شُرع ذلك لمصلحته، كما أنَّه يلتذّ بذلك، ويُقبل عليه بانشراحٍ، كما هو مُقتضى العبودية، ولا يستثقل ذلك كعبد السُّوء، وإنما يفعل ذلك وهو مُغتبطٌ، فنظروا بهذا الاعتبار، ولكن لا يمنع ذلك من تسمية التَّشريعات: التَّكاليف، كما درج عليه عامَّةُ أهل العلم، ولا مُشاحةَ في الاصطلاح.

فالتَّكليف: إلزام ما فيه مشقّة، يعني: مُحتملة، أمَّا المشقّات التي لا تُحتمل؛ فهذه غير موجودةٍ في هذه الشَّريعة، فهي شريعة سهلة مُيسرة؛ ولهذا قال الله : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، ونفسًا هنا نكرة في سياق النَّفي، فهي تعمّ جميع النفوس؛ ولذلك بُنيت هذه الأحكام والتَّشريعات على رفع الحرج، وكان ذلك من ضمن القواعد الخمس الكبرى: قاعدة رفع الحرج، وما يندرج تحتها من القواعد: كالمشقّة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمرُ اتَّسع، ونحو ذلك من القواعد المعروفة: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فهي شريعة مُيسرة في مُتناول المكلَّفين، لا يلحقهم بسبب ذلك عنتٌ عند النُّهوض بهذه التَّشريعات، والقيام بها، كما قال اللهُ : لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا يعني: ما تتسع له طاقتها، ويكون تحت قُدرتها.

ومن شروط التَّكليف المعروفة التي تشمل جميع التَّكاليف (الشُّروط العامَّة): القُدرة، فهي شرطٌ متَّفقٌ عليه؛ لأنَّ هناك شروطًا خاصَّة في العبادة المعينة، فمثلاً: الصَّلاة يُشترط لها الطَّهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، ونحو ذلك من الشُّروط الخاصَّة بهذه العبادة، وهناك شروط عامَّة في جميع التَّكاليف، والصَّلاة من ضمنها، ومنها: القُدرة، والعقل، وفهم الخطاب، وبلوغ الخطاب، فكلّ هذا يُذْكَر في الشروط العامَّة في التَّكاليف.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا فهذا من لُطفه وإحسانه ورحمته بعباده، وبعض أهل العلم يقولون: هذه الآية ناسخةٌ للآية الأخرى في سورة البقرة، وهي قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، وأنَّ ذلك لما شقَّ عليهم خفَّف اللهُ عنهم، فقال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

ولو قيل: بأنَّ هذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ غير منسوخةٍ، لكان أقرب -والله تعالى أعلم-؛ وذلك مما يتعلّق به التَّكليف، ومما يتَّصل بالنّيات والمقاصد والإخلاص: كالرياء، والسُّمعة، والشِّرك، والخوف من غير الله خوفًا لا يصلح إلا لله، والمحبَّة لغير الله التي تُزاحم محبَّة الله، ومُوالاة أعداء الله، كما قال الله -تبارك وتعالى-: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه [آل عمران:28]، فالله يعلم ما تُكنّه الصُّدور؛ ولذلك قال بعدها: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]، فهذا لا يخفى عليه منه شيء، ولا يخفى عليه خافيةٌ في الأرض، ولا في السَّماء.

فإذا كان القلبُ فيه ميلٌ إلى أعداء الله، وتولّي لهم، فإنَّ الله يعلم ذلك، وإن لم يظهر هذا للناس، فالذي يظهر -والله أعلم- أنَّ مثل هذا إنما المقصود به ما يتعلّق به التَّكليف، وأنَّ هذا على سبيل التَّهديد والوعيد، فالله يعلم ما يُخفيه الإنسان، وما يُسرّه، وليس معنى ذلك: أنَّ الله يُكلِّف العبادَ ما لا يُطيقون؛ إذ إنَّ خطرات النفوس، والخواطر، والوساوس، وما إلى ذلك، هذه لا يتعلّق بها التَّكليف، ولا تضرّ العبد.

لَهَا مَا كَسَبَتْ يعني: من الخير، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] أي: من الشَّر، وهنا فرَّق بين الخير والشَّر بزيادةٍ في اللَّفظ في الخير، فقال: لَهَا مَا كَسَبَتْ، بعض أهل العلم يقول: لأنَّ الثوابَ يقع لأدنى مُلابسةٍ: مَن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنةٌ[2]، وأمَّا في السَّيئة فإنَّها لا تُكتب إلا إذا عملها، ففي الشَّر يحتاج إلى مزيدٍ من التَّعني والتَّعاطي، فيُكتب ذلك عليه، أمَّا في الخير فلأدنى مُلابسةٍ، وبمجرد الهمِّ، ثم قال: لَهَا مَا كَسَبَتْ لأنَّ ذلك في رصيدها، قال: وَعَلَيْهَا لأنَّ ذلك يحمله على ظهره أوزار.

رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] عامَّة دُعاء الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- في القرآن هكذا: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا؛ لأنَّ المؤاخذةَ والحسابَ والجزاءَ وإجابةَ سُؤال السَّائلين، وما إلى ذلك، هذا كلّه من معاني الربوبية، فيأتي الدُّعاء باسم (الرب): رَبَّنَا، يعني: يا ربنا، لا تُؤاخذنا إن نسينا، أو أخطأنا، لَا تُؤَاخِذْنَا بمعنى المعاقبة والمحاسبة التي يترتب عليها الجزاءُ والعقاب، فهذا من لُطف الله -تبارك وتعالى- بعباده، فالإنسان مجبولٌ على النِّسيان، والنِّسيان يُقال لمعنيين:

المعنى الأول: وهو ذهاب المعلوم من الذِّهن، تحفظ الشَّيء، ثم تنساه، تقول: نسيتُ اسم فلانٍ، ونسيتُ المسألة الفلانية، ونحو ذلك. وهذا هو المراد هنا، فالإنسان قد ينسى فلا يُصلِّي صلاةً أخَّرها ليجمعها مثلاً: لعُذر السَّفر، أو المرض، أو نحو ذلك، وقد ينسى ويسهو، فهذا كلّه بمعنى واحدٍ هنا، وقد يطوف بالبيت ستًّا على سبيل الذهول والنِّسيان، أو يفعل شيئًا من محظورات الصِّيام ناسيًا، فهذا كلّه لا يُؤاخذ الإنسانُ عليه.

المعنى الثاني: النِّسيان يأتي بمعنى: التَّرك، فهذا ليس بمرادٍ هنا: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67] يعني: تركوا طاعتَه، وتركوا ذكرَه وعبادته، فلم يذكروه بقلوبهم، ولا بألسنتهم، ولا بجوارحهم، فأنساهم أنفسَهم، فهذا يُؤاخذ عليه الإنسانُ.

وأمَّا: لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا يعني: تركنا ما أمرتنا به، أو فعلنا ما نهيتنا عنه نسيانًا، على سبيل الذُّهول عن ذلك، أَوْ أَخْطَأْنَا فرق بين الخطأ والنِّسيان؛ فإنَّ الإنسان قد يقع منه الخطأ، وتقع منه المخالفة على سبيل الخطأ، كالرجل الذي قال: اللهم أنت عبدي، وأنا ربُّك[3]، أخطأ من شدّة الفرح.

فالإنسان يُخطئ في الأحوال التي يختلّ بها مزاجه من شدّة الفرح، أو من شدّة الحزن، أو في أحواله العادية يقع منه الخطأ في التَّكاليف، وفي التَّطبيق والامتثال، ونحو ذلك، لا سيّما مَن لم يكن له دُربة، فهنا قد يتأوَّل.

وكذلك حينما يجتهد إن كان مُؤهلاً في المسائل العلمية من جهة الاستنباط واستخراج الأحكام، كالحاكم والمفتي: إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ[4]، وكذلك أيضًا في تحقيق المناط قد يحصل الخطأ كذلك؛ لأنَّ الاجتهاد يقع في النَّوعين: استنباط الأحكام، واستخراج ذلك من الأدلة والقواعد، وما أشبه هذا، وهذا لأهل العلم. والثاني الذي هو: تحقيق المناط، بمعنى أنَّه يُقال مثلاً: ما حكم الزكاة؟ يُقال: الزكاة واجبة، فهذا هو الحكم من جهة الدليل، بقي تحقيق المناط: ما حكم الزكاة على فلانٍ؟ يقول لك: لا أدري هذا، لا بدَّ من تحقق الشُّروط، وانتفاء الموانع. فنقول: مَن ملك مالاً زكويًّا، وبلغ النِّصاب، ودار عليه الحولُ، وانتفى المانعُ عند القائل مثلاً بأنَّ الدَّين يمنع من الزكاة، ونحو ذلك؛ ففي هذه الحال يُقال: يجب عليه، فهو عليه أن يُطبق هذه الشُّروط على نفسه.

والمرأة حينما يلتبس عليها الدمُ الخارج: هل هو حيضٌ أو استحاضةٌ؟ فيُقال مثلاً: ما نزل في أيام عادتها للمرأة المعتادة، فإنَّ ذلك يكون من قبيل الحيض، وما كان خارجًا عنه، أو الصُّفرة، أو الكُدرة إذا كانت متَّصلةً بالدَّم، فهذا حيضٌ، وإذا كانت مُنفصلةً عنه فليست بحيضٍ، بقي عليها تحقيق المناط هي، فهي تنظر في الذي يخرج منها من كُدرةٍ أو صُفرةٍ: هل هي متَّصلة، أو غير متَّصلة؟ هذا اجتهادٌ، وهذا الاجتهاد يقع من المكلَّف، ويقع من العامّي، ففي هذه الحالة يُقال: إن وقع له خطأٌ بسبب ذلك، سواء العالم في استنباط الحكم، إذا استفرغ الوسعَ، والعامّي حينما يجتهد، هذا النوع الآخر من الاجتهاد في تحقيق المناط، فيكون معذورًا، لكن إذا كان ذلك من غير تفريطٍ: كإنسانٍ صائمٍ، ثم بعد ذلك سمع مُؤذنًا فأفطر في وقتٍ قريبٍ من الأذان، وتبيّن أنَّ هذا المؤذن من الإذاعة، ومن مكانٍ آخر يختلف في التَّوقيت عن المكان الذي هو فيه مثلاً، في هذه الحال ماذا يُقال؟

إذا كان هذا الإنسانُ لم يُفرِّط؛ يكون قد أخطأ، أو نظر إلى السَّاعة مقلوبةً، فقرأها قراءةً خاطئةً من غير تفريطٍ، فمثل هذا لا يُؤاخذ، وكذلك لو أنَّه أفطر في يوم غيمٍ، ثم طلعت الشمسُ، ففي هذه الحال يُقال: ليس عليه شيء؛ لأنَّه أخطأ، وكذلك الخطأ في دخول الشَّهر، فيصومون تسعةً وعشرين يومًا، والشَّهر في علم الله أنَّه قد ظهر الهلال، لكن لغيمٍ، أو قترٍ (غبارٍ)، أو نحو هذا؛ ذهب عليهم يومٌ، فلا إشكالَ، أخطؤوا يوم عرفة في دخول الشَّهر، فوقفوا يوم ثمانية، أو يوم عشرة، هذا المكلَّف غير مُؤاخذ، وحجّهم صحيحٌ، وتترتب عليه جميعُ أحكام عرفة؛ لأنَّ فطركم يوم تُفطرون، وأضحاكم يوم تضحون[5]، كما قال النبي ﷺ.

وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] يعني: لا تُكلِّفنا الأعمال الشَّاقة، هذا الإصر، والله يقول: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، والمقصود بها التَّكاليف الشَّاقة التي يلحق المكلَّف فيها العنت، وبنو إسرائيل في توبتهم المشهورة لما عبدوا العجلَ قيل لهم: اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:66]، يُقال: إنَّه أُلقي عليهم الغمام، وصار الرجلُ يضرب بالسيفِ وجه أخيه، أو أبيه، أو نحو ذلك، فقُتل منهم -فيما ذُكر- في يومٍ واحدٍ سبعون ألفًا، ثم تاب اللهُ عليهم، ورفع ذلك عنهم، فهذه توبة، لكنَّها توبة ليست كالتَّوبة التي في هذه الشَّريعة بين العبد وربِّه؛ فيندم ويعزم ألا يعود، ويُقلع عن الذنب، ويرد المظالم فيما كان من ذوات المظالم.

وهكذا أيضًا فإنَّ اليهود إذا وقعت النَّجاسةُ على شيءٍ من الثوب، فإنَّه يُقطع، ولا يُغسل؛ مُبالغةً في التَّنزه من النَّجاسات.

والرهبانية التي عند النَّصارى في أخبارهم وما يُذكر عنهم: أنَّ الواحد ربما وقف في بئرٍ، لا يجلس، في بئرٍ يحتبس بها، لا يقصّ أظفارَه، ولا يمشط شعره، يبقى أربعين سنةً وهو على هذه الحال، يقتات على ما يُقيم الصُّلبَ فقط.

فهذا لم تأتِ به هذه الشَّريعة، ولا يجوز التَّعبد بحرمان النَّفس من الطَّيبات تقرُّبًا إلى الله -تبارك وتعالى-، والثلاثة الذين أتوا بيوتَ النبي ﷺ، وسألوا عن عبادته، فقال أحدُهم: أنا لا أتزوج النِّساء. والآخر قال: لا آكل اللَّحم. والثالث قال: لا أنام على فراشٍ. أنكره النبي ﷺ[6].

رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا يعني: لا تُكلفنا من الأعمال الشَّاقة الصَّعبة، وإن أطقناها، كما شرعته على الأمم السَّابقة من الأغلال والآصار، فقد جاء من حديث أبي هريرة في "صحيح مسلم": أنَّ النبي ﷺ قال: قال الله: نعم[7]، وفي حديث ابن عباسٍ: قال الله: قد فعلتُ[8]، يعني: أنَّه استجاب هذا الدُّعاء، فالخطأ والنِّسيان مرفوعان، يعني: أنَّه لا يُؤاخذ عليهما.

رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]، يعني: الآصار والأغلال هي عبادات شاقَّة، لكنَّها تدخل تحت الطَّاقة، والمشقّة فيها كبيرةٌ جدًّا، ويلحق المكلَّف فيها العنت، بخلاف التَّكاليف التي تكون شاقَّةً، ولا يلحق المكلَّف من جرَّائها العنت، فصارت المراتب ثلاث: تكليفٌ شاقٌّ، والتَّكاليف لا تخلو من مشقّات. وتكليفٌ فيه عنت. والثالث: التَّكليف الذي لا يُطاق: وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وهذا يدخل فيه التَّكاليف، ويدخل فيه أيضًا الأحكام القدريّة: المصائب التي تقع للناس، والابتلاء، وما إلى ذلك.

وكما جاء: ينزل المعونة على قدر المؤونة[9]، فيُعان الناسُ، وتنزل عليهم من الألطاف في حال المصائب ما لا يُقادر قدره، حتى إنَّ الواحدَ منهم لربما يعجب كيف استطاع أن يتماسك؟! وكيف استطاع أن يصبر في هذه المصيبة؟!

وانظر الآن إلى الفواجع التي تقع في غزة على سبيل المثال، وإذا سمعت كلامَهم، ونظرتَ إلى حالهم، واجتماعهم في المجامع العامَّة والمساجد، وصلاة الجمع والتَّراويح، مع أنَّهم في حالٍ من الشدّة لا تخفى على أحدٍ؛ تنزل هذه الصَّواريخ على البيوت، وأُسَر كبيرة لا يبقى منها أحدٌ.

نسأل الله أن يرفع عنهم البلاءَ والضُّرَّ، وأن يلطف بهم، وأن ينصرهم على عدوه وعدوهم نصرًا مُؤزَّرًا، وأن يخذل عدوه، ويكسرهم، ويهزمهم، وأن يُفرِّق شملهم، ويُشتت جمعهم، وأن يجعلهم عبرةً للعالمين.

وأرجو أن تكون هذه الحربُ بدايةً بإذن الله لكسرهم، ولكني أراهم الآن انسحبوا لما بدؤوا يشعرون أنهم ليسوا بأهلٍ لها، فهم أذلّ وأرذل وأجبن خلق الله، لا يجرؤون، وليسوا بأهل حربٍ، ولا مُواجهةٍ، ولا يستطيعون القتال إلا من وراء جُدُرٍ، وإذا قُتِلَ واحدٌ منهم، فإنَّ أثر ذلك عليهم مُشاهَد، فالجنود في حال الضَّعف والبُكاء والخور، وأولئك يُقتل منهم المئات، بل الآلاف، كما في بلاد الشَّام، وتجد الناسَ في غاية الصَّبر والتَّحمل واحتساب الأجر عند الله -تبارك وتعالى.

وكلَّما تأمّلت في هذه الأمور والأحوال أقول: الله جمعهم لحتوفهم، لكن سيأتي اليوم حينما ننظر إلى صورهم، ومجامعهم، وجموعهم، والكنيست، وغيره من اجتماعات السياسيين أو العسكريين، أو غير ذلك، تقول: سبحان الله! لو أراد إنسانٌ أن يجمعهم من أقطار الدنيا في مكانٍ واحدٍ ما استطاع، وقد جُمِعوا، وسيأتي اليوم -إن شاء الله- الذي يُقتلون فيه قتل عادٍ وإرمٍ.

وَاعْفُ عَنَّا [البقرة:286] بعض أهل العلم يقول: يعني: فيما بيننا وبينك مما تعلمه من التَّقصير والزَّلل.

وَاغْفِرْ لَنَا [البقرة:286] فيما بيننا وبين عبادك من الإساءة، ونحو ذلك، بحيث يحصل السّتر؛ فلا تظهر هذه القبائح للناس بسبب الجنايات والذُّنوب، فإذا كان العبدُ مُسيئًا فيما بينه وبين الله ، فإنَّ الغفرَ يكون سترًا.

والواقع أنَّ الفرقَ بين العفو والغفر: أنَّ العفو أبلغُ من الغفر من جهةٍ؛ إذ إنَّ العفو هو محوٌ لأثر الذَّنب، فلا يبقى له أدنى أثرٍ، يُقال: عفت الريحُ الأثرَ.

وأمَّا الغفر: فإنَّه ينتظم معنيين:

الأول: السّتر، فلا يفتضح: لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

والثاني: الوقاية من شُؤم هذه المعصية، ومن تبعتها، والمؤاخذة على هذه الجنايات، ومن ذلك: المغفر، فإنَّه الذي يُوضَع على رأس المقاتل؛ فيقيه من ضرب الحديد والسِّلاح، ويستره أيضًا في الوقت نفسه.

وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا فرحمة الله -تبارك وتعالى- أبلغ من مجرد العفو والغفر؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- إذا رحم العبدَ، فلا تسأل عن حاله، ونزول الألطاف به، ودخول الجنَّة، وما يكون له من أنواع الخيرات في الدنيا والآخرة.

ويدخل فيه ما يذكره بعضُ المفسّرين: من أنَّ ذلك يكون أيضًا في المستقبل؛ بحيث لا يقع في هذا الذَّنب ثانيةً، أو في ذنبٍ آخر؛ ولهذا يقولون: العبد محتاجٌ إلى ثلاثة أشياء: إلى العفو بمحو الذَّنب، وإلى الغفر بالسّتر، والوقاية من تبعاته وآثاره في الدنيا والآخرة، فالذُّنوب لها آثار في الدنيا، ولها آثار في الآخرة، فلا يفتضح، وكذلك بحاجةٍ إلى أن يُحال بينه وبين الجنايات والمعاصي والذنوب والشُّرور ومُواقعة الآثام.

أَنْتَ مَوْلَانَا [البقرة:286] مولى بمعنى: السَّيد والمالك، أنت مُتولِّي لأمرنا، لا مولى لنا سواك، فأنت ناصرنا ومليكنا.

فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286]، وهذا من دُعاء المؤمنين، ولا شكَّ أنَّ النصر على الكفَّار أبلغ وأعظم أثرًا من وقوع العقوبات لهؤلاء الكفَّار، والاستئصال بآفةٍ سماويةٍ، أو أرضيةٍ؛ ولهذا قال الله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، فيحصل التَّشفي إذا كان هذا الهلاكُ الذي حصل للعدو على يدي أهل الإيمان، بخلاف ما لو كان ذلك بآفةٍ تقع، يسمعون بخبرها، وإذا كان ذلك بعقوبةٍ من الله -تبارك وتعالى-، فالأبلغ فيها أن يكون أيضًا حال المشاهدة؛ ولهذا قال الله : وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة:50]، فقيَّده بهذا القيد، فهذا يحصل به أيضًا من التَّشفي ما لا يخفى، فصارت المراتبُ ثلاث:

الأولى: أن يحصل الهلاكُ، فيُسمع بخبره.

والثانية: أن يحصل الهلاكُ أمامك، لكن بشيءٍ من الله، لا يد لك فيه.

والثالثة: أن يكون الهلاكُ على يد أهل الإيمان، فهذا أبلغ هذه المراتب.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

  1. "الاعتصام" للشَّاطبي (2/852).
  2. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب إذا همَّ العبدُ بحسنةٍ كُتبت، وإذا همَّ بسيئةٍ لم تُكتب، برقم (186).
  3. أخرجه مسلم: كتاب التوبة، بابٌ في الحضِّ على التوبة والفرح بها، برقم (4932).
  4. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم (6805)، ومسلم: كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم (3240).
  5. أخرجه أبو داود: كتاب الصوم، باب إذا أخطأ القوم الهلال، برقم (1979)، وابن ماجه: كتاب الصِّيام، باب ما جاء في شهري العيد، برقم (1650)، والترمذي: كتاب الصوم، باب ما جاء: الصّوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون، برقم (633)، وصححه الألباني.
  6. أخرجه مسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسُه إليه، ووجد مؤنه، واشتغال مَن عجز عن المؤن بالصَّوم، برقم (2487).
  7. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنَّه -سبحانه وتعالى- لم يُكلّف إلا ما يُطاق، برقم (179).
  8. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنَّه -سبحانه وتعالى- لم يُكلِّف إلا ما يُطاق، برقم (180).
  9. أخرجه مرفوعًا البيهقي في "شعب الإيمان" برقم (9481)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (1919).

مواد ذات صلة