الإثنين 28 / جمادى الآخرة / 1446 - 30 / ديسمبر 2024
(241) دعاء التعزية " إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى... فلتصبر ولتحتسب"
تاريخ النشر: ١٦ / محرّم / ١٤٣٦
التحميل: 2057
مرات الإستماع: 1657

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،

هذا باب (دعاء التَّعزية)، والمقصود بالتَّعزية: ما يكون به التَّهوين والتَّسلية للمُصاب بالمصيبة من فقد مَن يُحبّ، أو نحو ذلك، فتهون عليه مُصيبته، ويخفف عنه ما يجده من الحزن والألم؛ ولذلك فإنَّ التَّعزية يُشرع فيها أن يُقال ما يحصل به هذا المطلوب.

ومن الخطأ أن يتوجّه الكلام إلى المصاب بما يُضاعف عليه مُصيبته، أو يُجدد عليه ألمه؛ ولهذا فإنَّ الذي جرى عليه عملُ الناس هو أن يحدّ ذلك بثلاثة أيامٍ في التَّعزية، مع أنَّ هذا ليس عليه دليلٌ: لا من كتاب الله، ولا من سُنَّة رسول الله ﷺ، ولكن كأنَّ الناس أخذوا ذلك من إشارات فُهمت من بعض النصوص؛ فالهجر: لا يجوز أن يهجر المسلمُ أخاه لحظِّ نفسه فوق ثلاثٍ، فرخَّص له في الثلاث؛ لأنَّه يكون في حالٍ من احتدام النفس، قد لا يستطيع أن يتغلب على مشاعره ودواعي الغضب في نفسه حال الخصومة.

وكذلك أيضًا النبي حينما لم يُرخّص لامرأةٍ تحدّ على ميتٍ فوق ثلاثٍ، إلا المرأة على زوجها، فحدّ ذلك بالثلاث بالنسبة لغير الزوج، حداد: كالأخت، والأم، ونحو ذلك من قراباته ومَن يحتفون به ثلاثة أيام؛ لأنَّ الحزن يكون فيه حيًّا، والنَّفس تكون في حالٍ ربما تغلب صاحبها، ولكن بعد الثلاث يسلو الإنسانُ عادةً.

ومن ثم فإذا كان الأمرُ كذلك فبعد الثلاث من الموت، وليس من الدَّفن، الدَّفن قد يتأخّر أيامًا، أو أسابيع، أو شهورًا؛ لسببٍ أو لآخر، من موته ثلاثة أيام.

هكذا جرى عليه عملُ الناس، مع أنَّه لا دليلَ عليه، كأنَّهم نظروا إلى أنَّ هذا يُجدد عليه مُصيبته، ويُذكره بما حصل له عنه سلوة، من هذا الباب فقط، وإلا لم نتعبّد بشيءٍ من ذلك.

وهذه التَّعزية تحصل بما يُقال، وتحصل أيضًا بالمجيء إليه، فإنَّ ذلك قد يُخفف عنه،وقد تحصل هذه التَّعزية بالجلوس معه، وليس ذلك من النِّياحة، إذا كان ذلك يُؤنسه، فهذه الشَّريعة جاءت بمكارم الأخلاق، والتَّكافل، والمسلمون كالجسد الواحد؛ يألمون لآلام بعضهم.

وما يذكره بعضُ أهل العلم من أنَّ ذلك من النياحة، ويحتجّ له ببعض الأثر؛ فإنَّ ذلك الأثرَ قد لا يصحّ أصلاً، وكذلك تدلّ على خلافه نصوصٌ واضحة: حديث عائشة -رضي الله عنها- في "الصَّحيح": إذا تفرَّق الناسُ عن أهل الميت تبعث إليهم بالتَّلبينة[1].

التَّلبينة تجمّ فؤاد المحزون، أكلة معروفة من الشَّعير بالعسل أو اللبن، فهذه من المفرحات كما يُقال، المفرحات منها ما هو مطعوم، ومنها ما هو مشروب، ومنها ما هو مشموم، هذا كلّه مما يُقال له: المفرحات.

فهذه التَّلبينة إذا تفرَّق الناسُ عنهم، إذن كانوا يجتمعون عندهم، لا إشكالَ في ذلك؛ فلمَّا جاء النبيُّ ﷺ من أُحُدٍ وجد النِّساء قد اجتمعن يبكين قتلاهنَّ، فقال: ولكنَّ حمزة لا بواكي له[2]، فما أنكر عليهنَّ هذا الاجتماع.

وكذلك أيضًا يدلّ على هذا أنَّ نساء الأنصار اللاتي قُتل أزواجهنَّ في أحدٍ استأذنَّ النبيَّ وهنَّ في الحداد أن يجتمعن؛ لما يجدن من الوحشة، فأذن لهنَّ أن يجتمعن بالنَّهار، ويتفرقن في الليل، المبيت آكد بالنِّساء.

للمرأة وهي في الحداد أن تخرج للمُؤانسة مع صواحباتها، لكن صنع الطَّعام من قبل أهل الميت، وحضور الناس للولائم، وتحول ذلك إلى أفراحٍ، أو ما يُشبه الأفراح؛ هذا لا يُشرع، لكن يُؤتى لأهل الميت بما يحصل به، فلو حدَّ هذا لئلا يشقّ على الناس؛ لأنَّه ليس المقصود المشقّة، وإنما التَّسلية، فيجعل ذلك في وقتٍ بعيدٍ عن أوقات الطَّعام والاشتغال به؛ كأن يكون ذلك بين المغرب والعشاء فقط، أو بعد العصر فقط، أو بعد العصر والمغرب فقط.

أما أن يأتي الناسُ إليهم آناء الليل والنَّهار، ويشقّون عليهم جدًّا، فينقطع الناسُ من مصالحهم وأعمالهم، فهذا ليس بصحيحٍ، وأمَّا إغلاق الباب ويُقال: هذا غير مشروعٍ. فهذا أيضًا لم تأتِ به الشَّريعة، وليس بصحيحٍ.

الشَّريعة ما جاءت بمثل هذا الجفاء، ولا يُقال هذا، ولا يُنسب إليها، والله تعالى أعلم.

على كل حالٍ، حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- هو الذي أورده المؤلفُ في هذا الباب، قال: أرسلت ابنةُ النبي إليه: إنَّ ابنًا لي قُبِضَ فأتنا. فأرسل يُقرئ السَّلام ويقول: إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجلٍ مُسمّى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تُقسم عليه ليأتينّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال، فرُفع إلى رسول الله ﷺ الصَّبي ونفسه تتقعقع. قال: حسبتُه أنَّه قال: كأنها شنّ، ففاضت عيناه –يعني: النبي ، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟! فقال: هذه رحمةٌ جعلها اللهُ في قلوب عباده، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرُّحماء[3]. أخرجه الشيخان.

قوله:"أرسلت ابنةُ النبي إليه"، هذه البنت -رضي الله عنها- جاء في بعض الرِّوايات أنها زينب، وزينب هذه زوجها أبو العاص ابن الربيع -رضي الله عن الجميع-، قالت:"إنَّ ابنًا لي قُبِضَ".

لاحظ: هي تقول:"قُبِضَ"، والنبي حينما جاء وجد نفسَه تقعقع، يعني: لم تخرج روحه، لكن هنا عبّرت بالقبض لقُرب وقوعه، فما قارب الشَّيء أُعطي حكمه، فقالت ذلك.

أو يكون المراد: دخل في حالة القبض، يعني: هو في النزع، ويُعالج النزع، فهو في حكم الميت من هذه الحيثية، يُقال:"قُبِضَ الميت" إذا تُوفي، ويُقال أيضًا إذا أشرف على الوفاة، أوشك، يعني: كان في حال النزع، في حال الاحتضار؛ لأنَّ الإنسان إذا كان في حال الاحتضار فلم يبقَ إلا خروج الروح لا مردَّ لها:تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[الواقعة:87]، فهنا قالت ذلك.

هذا الابن بعضُهم يقول: اسمه عليابن أبي العاص ابن الرَّبيع.

وبعضهم قال: إنَّه أمامة بنت أبي العاص التي كان يحملها النبيُّ .

لكنَّها عبّرت هنا بقولها:"إنَّ ابنًا لي قُبِضَ"، ما قالت: ولدًا، فالولد يصدق على الذكر والأنثى، لكن الابن لا يصدق إلا على الذكر.

"فأرسل النبيُّ "، يعني: أرسل إليها رسولاً،"يُقرئ السَّلام، ويقول" تسليةً لها: إنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمّى، فلتصبر ولتحتسب، هذا هو الشَّاهد: إنَّ لله ما أخذ، فهذا الكون بما فيه كلّه لله -تبارك وتعالى-، بما في ذلك الأولاد، والأحباب،والأهل، والمال، وكل شيءٍ فهو عارية في أيدينا.

فالله -تبارك وتعالى- له ما أخذ، لم يأخذ شيئًا لكم، إنما أخذ ملكه، هو الذي يملكه، وهو الذي أعطاه وجعله عاريةً بين أيديكم، تفرحون به مدةً من الزمان، سنوات تطول أو تقصر، ثم بعد ذلك يأخذ هذه العارية، فقد أخذ ما هو له، أخذ ملكه، استردّ هذه العارية، فله ما أخذ، وله ما أعطى، جعله في أيديكم، وهو ملكٌ له.

وقدّم هنا الأخذ على الإعطاء، مع أنَّ الأخذ مُتأخّر على الإعطاء، لكن لما كان المقامُ يقتضي ذلك؛ هنا في مقام أخذٍ وقبضٍ:لله ما أخذ،فهذا الذي أخذه هو الذي أعطاه، فهو يأخذ ما أعطى، فلا ينبغي الجزعُ إذا استردّ هذه العارية، فإنَّ ذلك لا مفزعَ منه، فهذا فيه أعظم التَّسلية، فهو يستودع هذا أمانةً عندك، ثم يستردّها متى شاء ويستعيدها، فهو الذي أعطاك هذا.

ويحتمل أنَّ المراد أنَّه هو الذي أعطاه الحياةَ: لله ما أعطى، ولله ما أخذ، حيث ترتفع الحياةُ عن هذا الإنسان فيُفارقها بالموت. ولكن الأول أقرب، والله تعالى أعلم.

ويحتمل أن يكون المرادُ: أعطى الحياةَ لأولئك الذين يبقون بعده على قيد الحياة، وله ما أخذ أولئك الذين يقبض أرواحهم، وترتفع عنهم الحياة.

وهناك احتمالات تتطرق لهذه الجملة، ولكن الأول كأنَّه الأقرب، والله تعالى أعلم.

وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمّى الأخذ والإعطاء كلّ ذلك مُقدّر، لا يتقدّم، ولا يتأخّر، وإذا كان ذلك في كتابٍ من قبل أن يبرأ المصيبة، من قبل أن يخلقها، وقد قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء.

وكذلك أيضًا حينما يبعث إليه الملك في التَّقدير العمري يُؤمر بأربع كلمات، ومنها الأجل، كلّ هذا محسومٌ، وفي لحظةٍ، وفي الموقع، لا يتقدّم ثانيةً، ولو كان أعفى الناس، وأقوى الناس، وأصحّ الناس، يمتلئ قوةً وعافيةً وشبابًا،وفي لحظةٍ ينتهي كل شيءٍ، ليس به مرضٌ، والآخر فيه أنواع العلل والأمراض، فهو أشبه بالأموات، ويبقى السَّنوات الطويلة، ليس بحيٍّ ينتفع بحياته، وليس بميتٍ فيتجرع الناسُ حزنه، ثم بعد ذلك يكون ما يكون مما يجري على الأموات، فهو ليس بحيٍّ، وليس بميتٍ، ينتظر أجله،مع هذه الأمراض الكثيرة لم يحنِ الأجلُ بعد،فهو ينتظر، باقٍ في الأجل مدّة.

وقد ذكرتُ في بعض المناسبات أشياء عجيبة من هذا في الكلام على الأعمال القلبية، وأشياء أخرى لم أذكرها، لكن كلّ ذلك فيه عِبرة، والتَّاريخ مليء بالعِبَر.

وفي عصرنا الحاضر من العِبَر ما الله به عليم؛ هذا رجلٌ تُوفي قبل سنوات، قبل نحو سبعين سنةً كان هذا الرجلُ صغيرًا، وكان في حالٍ من المرض أشفى معها على الهلاك، فأخوه الكبير رجلٌ أراد أن يخرج إلى البرية يحتطب مع رجلٍ آخر، فقال أبوه: قبل أن تخرج فأنا رجلٌ ضعيفٌ لا طاقةَ لي بحفر القبر، احفر قبرًا لأخيك؛ فهو يُوشك أن يرحل. فحفر القبر وانطلق، وفي بعض النَّواحي عدى عليهم بعضُقُطَّاع الطرق ورموه؛ فمات بساعته، ثم حُمل بعد ذلك وجيء به ودُفن في هذا القبر.

هذا الكلام قبل سبعين سنة، الصَّغير هذا لم يمت، برئ وما مات إلا قبل سنوات قليلة، عاش مدةً طويلةً، عُمِّر، والذي دُفن في هذا القبر هو الذي حفره؛ القويّ الشَّديد الذي ذهب ليحتطب، وأبوه يطلب منه أن يقوم عنه بحفر قبرٍ لأخيه؛ لأنَّه لا طاقةَ لهذا الأب الكبير بحفر قبرٍ لهذا المريض، والأمثلة على هذا كثيرة.

وآخر سقط في بئرٍ، ثم بعد ذلك تداعى الناسُ، ظنّوا أنه قد هلك، فلمَّا أخرجوه لم يجدوا به بأسًا؛ سقط مباشرةً في الماء، فلمَّا ذهبوا به وشرب إناءً من اللبن، وفرح وسُرَّذووه، فسألوه: كيف وقعتَ؟ وكيف سقطتَ؟
فقال: هلمُّوا أُريكم. فذهبوا معه إلى البئر، وجلس يحكي لهم كيف كان يمشي بجوار هذا البئر، فجاء يمشي؛ ليحكي لهم ويُصوّر لهم هذا المشهد عمليًّا، فزلَّت قدمُه فسقط، فأصابته جوانبُ البئر، فما وصل إلى قعرها إلا وقد هلك، بقيت له شربة واحدة من لبنٍ خرج ليشربها، ثم يرجع مرةً ثانيةً ويكون حفتُه في هذا البئر.

فهذه الآجال، ناسٌ في سيارةٍ واحدةٍ يقع لهم حادثٌ، هذا لا يُصاب بجرحٍ، وهذا يموت بساعته، فهذه كلها آجال لا تتقدّم ولا تتأخّر، فلا تبتئس، وتعزّى، واذكر ما عند الله -تبارك وتعالى-، وأنَّ الحياة سيُفارقها الجميعُ: كلّ شيءٍ عنده بأجلٍ مُسمّى، الأخذ والإعطاء كلّ ذلك مُقدّر عند الله -تبارك وتعالى-.

ثم أمرها بالصَّبر والاحتساب: فلتصبر ولتحتسب الصَّبر واجبٌ، ولا يجوز لأحدٍ أن ينحطّ عن مرتبة الصَّبر، لكن إن ارتفع إلى مرتبة الرضا فهذا أفضل وأكمل، فإن ارتفع إلى المرتبة الثالثة الأعلى وهي الشُّكر على المصيبة، وهذا له شواهد ذكرتُها في الكلام على الأعمال القلبية في الكلام على الرضا، وكثيرٌ من عقولنا لا تطيق ذلك، ولا تحتمله، ولا تحتمل سماعه، ولا تعقل مثل هذه التَّصرفات إزاء المصائب.

فلتصبر ولتحتسب تحتسب يعني: تطلب الأجر، تحتسب الأجر عند الله -تبارك وتعالى-.

وقوله هنا:"فأرسلت إليه تُقسم عليه"، في هذا جواز الإقسام على المخلوق، لكن الإقسام على الله؛ لو قال إنسانٌ: يا ربّ، أنا أُقسم عليك. النبي يقول: إنَّ من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه[4]، فهذا له صورتان:

الصّورة الأولى: أن يقول الإنسانُ: أُقسم ألا يحصل كذا. هذه المناسبة التي قال فيها النبيُّ إنَّ من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه، فهذا يكون لقوة اليقين، فلا إشكالَ فيه: والله ليكوننَّ كذا، مثلما كان شيخُ الإسلام -رحمه الله- يُقسم أنهم سينتصرون في حربهم مع التتار.

لكن هناك نوعٌ من الإقسام على الله بصيغةٍأخرى، يقول: يا ربّ، أنا أُقسم أن تفعل كذا. هذه مرتبةٌ لا يرتقي إليها العبدُ، هكذا يجترئ على الله ، ويجعل نفسَه بهذه المنزلة، كأنَّه واثقٌ بمرتبته ومنزلته، وأنَّه يُقسم على الله، وأنَّه ممن إذا أقسم على الله لأبرّه، فمثل هذا قد لا يخلو من إشكالٍ إذا صدر من هؤلاء القُصَّر من أمثالنا، الضُّعفاء -والله المستعان.

الشاهد: أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما أقسمت عليه جاء، هو لم يترك المجيء جفاءً، وإنما كان من أرقِّ الناس قلبًا-عليه الصَّلاة والسَّلام-، وأعظم الناس مُواساةً، لكن كان عنده ما يشغله، بدليل أنَّه خرج مع هؤلاء الكبار من الصَّحابة ، سادات الأنصار كانوا بحضرته، فجاء بهم ، وهذا من كمال رحمته -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ قطع مجلسه، وجاء معه هؤلاء الكبار .

فلمَّا دخلوا على بيت أبي العاص -بيت ابنة النبي ﷺ رُفع إلى رسول الله الصَّبي ونفسه تتقعقع، قال:"حسبتُه أنَّه قال: كأنَّها شنٌّ، ففاضت عيناه"، كأنها شنٌّ تتقعقع، أو تقعقع، ما معنى: تقعقع؟ يعني: تضطرب، تتحرك، لا تثبت على حالةٍ واحدةٍ.

القعقعة: صوت حركةٍ، كأنَّه شيء يابس، مثل: الجلد، القربة القديمة اليابسة إذا حرّكتها أو ضغطت أطرافها أو نحو ذلك يصدر لها صوتٌ، هذه قربةٌ من الجلد قديمة، شنّ، يُقال له: شنّ، العتيق من القرب يُقال له ذلك.

فهنا قربة خَلِقَة يابسة لها صوتٌ، وهذا الصَّوت معروفٌ، نفسه تحشرج، يحتضر، ففاضت عيناه ، سالت بالدُّموع، فقال سعدٌ–يعني: سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج: يا رسول الله، ما هذا؟! يعني: ما هذا البكاء؟! فقال:هذه–يعني: الدموع- رحمة،يعني: أثرًا من آثار هذه الرحمة، هذا البكاء رقّة يجعلها الله في القلوب، هذه رحمة الله جعلها اللهُ في قلوب عباده.

كأنَّ سعد بن عبادة ظنَّ أنَّ ذلك لا يجوز: البكاء على الميت، وأنَّه خلاف الصَّبر، وأنَّه يكون من قبيل الجزع، أو النِّياحة، أو نحو ذلك، فما الذي حصل؟

بيَّن النبي أنَّ هذا ليس كذلك، بل هي رحمة،فمجرد البكاء -دمع العين- هذا لا أثرَ له، ولا يُحاسَب الإنسانُ عليه، وليس من النِّياحة.

النِّياحة: رفع الصَّوت بالبكاء، وشقّ الجيب، ولطم الخدّ، ونتف الشعر، والدعاء على النفس بالويل والثُّبور، وقول: واجبلاه! واسنداه! ونحو ذلك.

يرحم اللهُ من عباده الرُّحماء الله -تبارك وتعالى- يُعامل عباده -كما قال الحافظُ ابن القيم[5]- بحسب ما يكون عليه العبد،فـــالرَّاحمون يرحمهم الله، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السَّماء[6]، فلا يكون العبدُ جافًّا جافيًا لا يرحم، أتُقبِّلون صبيانكم؟! لما رأى النبيَّ ﷺ يُقبّل صبيًّا قال:"إنَّ لي عشرةً من الولد ما قبلتُ واحدًا منهم قطّ"، فقال النبيُّ:وما أصنع أن نزع اللهُ الرحمةَ من قلبك[7].

فهذه الرحمة يُعامَل العبدُ بمقتضى ذلك، وهذا يدلّ على أنَّ الرقة في مثل هذه المقامات أنها كمال، وليست بنقصٍ، لكن العبد يتجلد، فلا يصدر منه ما يدلّ على الجزع.

وفي هذا الحديث: الوصية بالصبر عند المصيبة قبل وجودها؛ ليستعدّ الإنسانُ لها، تصبر وتحتسب، نفسه ما خرجت بعد، لكن يُوطنها ويُروضها على ذلك.

فهذا الحديث فيه أعظم التَّسلية: لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده إلى أجلٍ مُسمّى، ثلاثة أشياء، ثم أمر بالصَّبر والاحتساب، فهذه خمسةٌتحصل بها السَّلوة للإنسان.

وبعض شُرَّاح الحديث لما أتى على هذا الحديث ذكر أنَّهمن العجائب التي وقعت والموافقات: أنَّه عند كتابته للشرح يقول:"وقع من قضاء ربِّ الأرباب أنَّ مات لي ابنٌ اسمه: حسن، وفي الصُّورة والسِّيرة حاوي الفضائل، جميل الصورة، وأيضًا حسن الأخلاق، جامعٌ للفضائل"، يقول:"فحصل لي بهذا الحديث تعزيةٌ كاملةٌ، وتسليةٌ شاملةٌ".

وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنَّ الصبرَ يُورِث الأجرَ والثوابَ، بخلاف الجزع.

وهذا الحديث أصلٌ في التَّعزية، هذا منقولٌ عن رسول الله ﷺ، وهو خيرٌ مما يُنشئه الناسُ من عند أنفسهم.

وهذا لا يختصّ بالصَّغير، قاله النبيُّ لهذه المناسبة؛ هذا الصَّغير الذي حضرته الوفاة، ولكن ذلك يُقال فيه وفي غيره؛ إذ إنَّ المصيبة بموت الكبير أعظم من المصيبة بموت الصَّغير.

وهكذا أيضًا حضور أهل الفضل عند النزع، فإنَّهم يدعون لهذا المحتضر، ويُثَبِّتون أهل الميت، ويُصبرونهم، ويدعون لهم، إلى غير ذلك من الفوائد.

والإنسان أحيانًا قد يكون في حال الصَّدمة ربما في حالٍ من الذهول الذي قد يُورث تبلد المشاعر، فلا تدمع عينه، وقد لا يحزن قلبُه، فبعض الناس يسأل: هل هذه قسوة؟

الجواب: أنَّ هذا على نوعين، على حالين:

الحال الأولى: أن يكون ذلك من عادة الإنسان؛ أنَّه يرى الأحياء والأموات والحال عنده سواء، فهذه قسوة في القلب، وغلظة، وجفاء.

الحال الثانية: هي أن يكون هذا الإنسانُ رقيقَ القلب، قد يبكي لأدنى من هذا، وقد تدمع عينُه لأقلّ من هذا؛ لو رأى إنسانًا يتألم، أو رأى إنسانًا ربما في حالٍ من الضَّعف، أو المسكنة، أو امرأةً فقدت صبيَّها، تبحث عنه، ثم وجدته، أو نحو ذلك؛ رقَّ وبكى، وهو لايعرفهم، لكن قد يموت له قريبٌ من أقرب الأقربين، ثم هو مع ذلك يكون في حالٍ من الصمود، فلا ينزل له دمعٌ، ولا يحصل له بسبب ذلك انكسارٌ، ولا حزنٌ.

بعض هؤلاء قد يعقب تلك الحال الحزن الكثير، ومن الناس مَن لا يحصل له هذا، فيكون الله قد ثبَّته وربط على قلبه،وليس ذلك من الجفاء والقسوة إن كان ذلك ليس بعادته.

هذا هو الفرق بين الحالين اللَّذين قد يسأل عنهما كثيرٌ من الناس، امرأة يموت ولدها وتقول: الناس يبكون، وأنا لم أبكِ، هل هذه قسوةقلبٍ؟!

رجلٌ يقول: مات أبوه ولم يبكِ، والجميع يبكون، يقول: وأنا الذي توليتُ تغسيله وتجهيزه، وأنا لا بصرَ لي بهذه الأمور، ولكن شيء لا أدري كيف حدث؟! وكيف وقع؟! هل هذه قسوة؟!

حتى إنَّ بعض القرابات لهؤلاء ربما ألحوا أن يذهب ليبكي، يظنون أنَّه كظيم، ويخشون عليه امتلاء النَّفس بالحزن، يقول: وليس بي بكاء! فهذا يختلف كما قلتُ.

والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ، وآله وصحبه.

 

 

  1. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الأطعمة، باب التَّلبينة، برقم (5417)، ومسلم: كتاب السَّلام، باب التَّلبينة مجمّة لفؤاد المريض، برقم (2216)، ولفظه: عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها كانت إذا مات الميتُ من أهلها، فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرّقن إلا أهلها وخاصّتها، أمرت ببرمةٍ من تلبينةٍ فطُبخت، ثم صُنع ثريدٌ، فصبّت التلبينة عليها، ثم قالت: "كُلْنَ منها، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((التَّلبينة مجمّة لفؤاد المريض؛ تُذهب بعض الحزن))".
  2. أخرجه ابن ماجه: أبواب الجنائز، باب ما جاء في البكاء على الميت، برقم (1591)، وأحمد في "المسند"، برقم (4984)، وقال مُحققوه: "إسناده حسنٌ، أسامة بن زيد -وهو الليثي- روى له الشيخان استشهادًا، وهو حسن الحديث، وباقي رجاله ثقات، رجال الصحيح".
  3. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يُعذَّب الميتُ ببعض بكاء أهله عليه)) إذا كان النوحُ من سنته، برقم (1284)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، برقم (923).
  4. متفق عليه:أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب الصلح في الدّية، برقم (2703)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والدّيات، باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها، برقم (1675).
  5. انظر: "طريق الهجرتين وباب السعادتين" (ص170).
  6. أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، بابٌ في الرحمة، برقم (4941)، والترمذي: أبواب البرّ والصّلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في رحمة المسلمين، برقم (1924)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير"، برقم (3522).
  7. أخرجه ابن حبان في صحيحه: برقم (5596)، والبيهقي في "السنن الكبرى" برقم (13577)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد برقم (67).

مواد ذات صلة