الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين، وللمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى:
إنزاله:
أُنزل القرآن جملة في ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وأُنزل منجماً؛ بحسب الوقائع.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
"فقوله: أنزل القرآن جملة في ليلة القدر"، يدل لذلك قوله -تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وهي الليلة المباركة التي قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهي ليلة من رمضان، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185].
وهذه الآيات الثلاث التي تتحدث عن نزوله في رمضان في ليلة القدر يحتمل أن يكون المراد بذلك نزول القرآن جملة إلى سماء الدنيا.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك نزول القرآن إلى النبي ﷺ، أي: ابتداء النزول.
ويمكن أن يجمع بين هذا وهذا -وهما قولان معروفان لأهل العلم- بأن يقال: لا منافاة، فإن القرآن نزل جملة إلى سماء الدنيا، ونزل إلى النبي ﷺ أي ابتُدئ إنزاله كل ذلك في رمضان، فقد بُدئ النبي ﷺ بالرؤيا الصالحة ستة أشهر، ثم بعد ذلك نزل عليه القرآن في شهر رمضان، فمن ربيع إلى رمضان هذه ستة أشهر، وهي جزء من ستة وأربعين؛ فإن النبي ﷺ بقي ثلاث عشرة سنة في مكة وعشر سنوات في المدينة فهذه ثلاث وعشرون سنة، والستة الأشهر نسبتها إلى هذه السنين -إلى ثلاث وعشرين- واحد على ست وأربعين، كم في ثلاث وعشرين سنة من ستة أشهر؟ هو هذا، وهذا تفسير لما جاء عن النبي ﷺ من أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة[1]، وقد ثبت عن ابن عباس بروايات متعددة عند الحاكم، والبيهقي وغيرهما أنه قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة "[2].
المقصود بذلك ما جاء في الرواية الأخرى عنه قال: "فُصل القرآن من الذكر -يعني من اللوح المحفوظ، فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا"[3]، فهذا تنزُّل آخر للقرآن، التنزُّل الأول إلى اللوح المحفوظ، والتنزُّل الآخر إلى بيت العزة، فجعل جبريل ينزل به على النبي ﷺ، يتلقاه عن الله مباشرة.
وجاء في رواية ثالثة عن ابن عباس -ا: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم"[4]، يعني: ينزل على النبي ﷺ بحسب الوقائع والأحداث، يعني نزل مفرقاً منجماً، "وكان الله ينزله على رسوله ﷺ بعضه في إثر بعض، ينزل مفرقاً خمس آيات، وعشر آيات، وتنزل السورة كاملة طويلة أو قصيرة، كما نزلت سورة الأنعام كاملة في مكة، ونزلت عليه سورة الكوثر كاملة في المدينة، ونزلت سورة البقرة مفرقة، ونزلت سورة التوبة مفرقة، ونزلت سورة المائدة مفرقة، وهكذا.
ويقول: وأُنزل منجماً بحسب الوقائع.
يلقيه جبريل إلى النبي ﷺ في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه.
هذا في صفة مجيء الوحي إلى النبي ﷺ، الآن القرآن منزل من الله، وله عدة تنزلات من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وإلى النبي ﷺ، أخذه جبريل عن ربه -تبارك وتعالى- مباشرة، ثم نزل به على الرسول ﷺ مفرقاً بحسب الوقائع والحوادث، منه ما ينزل على سبب، وأكثره ما نزل ابتداءً يعني: من غير سبب معين من واقعة أو سؤال، كما سيأتي في أسباب النزول -إن شاء الله.
فهنا يقول: "يلقيه جبريل إلى النبي ﷺ في مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليه"، أجمع آية في كتاب الله -تبارك وتعالى- في أنواع الوحي هي آية الشورى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51]، فكل أنواع الوحي داخلة تحتها، أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا يدخل فيه الرؤيا، لكن القرآن لم ينزل منه شيء في ذلك، -الكلام على عموم الوحي، القرآن ما كان رؤى في المنام، لكن رؤيا الأنبياء حق، وإبراهيم ﷺ قال لابنه إسماعيل : إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، قال: "افعل ما تؤمر" ما قال: ما ترى؛ لأن هذا وحي من الله ، افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، فيدخل فيه الرؤيا الصالحة، هذا واحد.
ويدخل فيه -أيضاً- الإلهام، ومعنى الإلهام: إلقاء المعنى في القلب، هذا الإلهام الذي يكون من الوحي، من الله، أن يُلقَى المعنى في قلبه من الله مباشرة، فهذا نوع آخر في قوله: إِلَّا وَحْيًا.
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ما الذي يدخل تحت هذا؟.
التكليم المباشر وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]، وقال له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:12]، كلمه مباشرة، وكلم النبي ﷺ في ليلة المعراج، أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي[5] في فرض الصلوات الخمس.
ويتكلم -تبارك وتعالى- يقول: يَا عِيسَى [آل عمران:55] في الآخرة، إلى آخره، ويكلم أهل الإيمان ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان[6]، فالكلام على الوحي إلى الأنبياء هنا، الوحي بالمعنى الخاص.
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى:51]، فيدخل فيه هذه الصورة التي ذكرها هنا: في مثل صلصلة الجرس، قال: وهو أشده عليه، يدل لذلك حديث عائشة -ا- المخرج في الصحيحين: أن الحارث بن هشام سأل النبي ﷺ: كيف يأتيك الوحي؟ فقال النبي ﷺ: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ فيَفصم عني، وبعضهم ضبطها فيُفصم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول[7]، لما يتمثل له الملك بصورة رجل هذا يمكن أن يراه الناس، ويدل لذلك حديث عمر المشهور: "طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر"[8]، وهو جبريل .
وكذلك كان يأتي للنبي ﷺ بصورة دحية بن خليفة الكلبي [9]، وكان من أجمل الناس، وقد يظن بعض من رآه أنه دحية ، فهذه الصفة مثل صلصلة الجرس.
أما الحديث الذي أشار إليه المؤلف -رحمه الله- وقال: إنه في الصحيح عن ابن عمر قال: أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك[10] إلى آخره، هذا ليس في الصحيح، بل ولا في الكتب الستة، وإنما رواه الإمام أحمد -رحمه الله- والحديث لا يصح، ضعيف، وليس عن عبد الله بن عمر بل هو عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، هذا مثال، نحن قلنا من البداية: لا نشتغل بالحاشية، لكن حتى حديث النواس بن سمعان الذي ذكره في نفس الصفحة قبله، قال: إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رجفة، أو قال: رعدة شديدة[11]، قال: في الصحيح -يعني البخاري، وهو ليس في الصحيح، بل ولا في الكتب الستة، وإنما أخرجه الطبراني، وأبو نعيم في الحلية، وابن خزيمة في التوحيد، والبيهقي في الأسماء والصفات، وغير هؤلاء، والحديث فيه ضعف، وليس في البخاري، لكن يكفي هذا الحديث الذي ذكرته آنفاً حديث عائشة -ا- في سؤال الحارث بن هشام .
ويدخل في قوله -تبارك وتعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا، الآن قلنا: بصورة رجل، هذه واحدة، صلصلة الجرس هذه الثانية، الثالثة يأتيه على هيئته الحقيقية، رأى الملك على كرسي بين السماء والأرض سادًّا ما بين الأفق[12]، يأتي على الصورة الحقيقية، هذه ثالثة، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13-14]، رأى جبريل .
وأيضاً يدخل فيه أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا النفث في الرُّوع، والرُّوع هو القلب، ويدل لذلك حديث ابن مسعود وأبي أمامة وحذيفة : إن روح القدس نفث في رُوعي -يعني في قلبي- أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب[13]، فهذا النفث في الروع ما الفرق بينه وبين الإلهام الذي ذكرناه في قوله: إِلَّا وَحْيًا؟.
الإلهام مباشرة من الله، والنفث في الروع يكون بواسطة الملَك، فعلى هذا التفريق -عند من فرق بهذا- يكون الإلهام في القسم الأول إِلَّا وَحْيًا، والنفث في الرُّوع يكون أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا؛ لأنه جاء عن طريق الوحي، هذه أجمع آية في الوحي.
هذا سبق دليله.
هذا موضوع جديد الآن دخل فيه، الآن الله هو الذي أنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ، وجملة إلى السماء الدنيا، ونزل به جبريل على النبي ﷺ، وجاء إليه هذا الوحي بصفات متعددة، وكان النازل عليه ﷺ من القرآن على سبعة أحرف، والأدلة على نزول القرآن على سبعة أحرف كثيرة جدًّا، نص أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- على أن ذلك من قبيل المتواتر، وذكره جماعة كشيخ الإسلام ابن تيمية[14]، وغيره كثير نصوا على تواتر حديث الأحرف السبعة.
وذكر بعضهم كالسيوطي في "الإتقان" أنه رواه عن النبي ﷺ واحد وعشرون صحابيًّا[15]، ومن هذه الأحاديث حديث ابن عباس -ا- وهو مخرج في الصحيحين: أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده، ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف[16].
وكذا حديث أبيِّ بن كعب المخرج في صحيح مسلم: أن النبي ﷺ كان عند أضاة بني غفار، أضاة بمعنى غدير، مجرى ماء صغير، عند أضاة بني غفار القبيلة المعروفة، منهم أبو ذر ، قال: فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرف، إلى أن قال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، ثم قال له: فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا[17]، ولاحظوا دقة العبارات، (قرءوا عليه)، بمعنى أنه ليس مخيراً في القراءة كما يظن بعضهم أو يفهم من بعض الروايات أنه ما لم تُغير المعنى لك أن تستبدل عبارة إذا صعب نطقها بعبارة أخرى، لا، أيما حرف قرءوا عليه على الوجوه النازلة فقط، وليس له أن يأتي بحرف من عنده.
وكذلك حديث عمر مع هشام بن حكيم، قصة مشهورة، لما سمعه عمر يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يُقرئ النبي ﷺ عليها عمر، فكاد عمر أن يساوره في الصلاة، ولكنه أمهله، فلما فرغ من صلاته أخذه بمجامع ثوبه فقال له: من أقرأك هذه السورة؟، فقال: النبي ﷺ، قال: كذبت، فقد أقرأني النبي ﷺ هذه السورة على حروف غير التي تقرؤها، فأخذ يقوده إلى النبي ﷺ، وقال له: سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان... إلى آخره، فأمره النبي ﷺ أن يرسله، وقال له: اقرأ يا هشام فقرأ كما سمعه عمر، ثم قال: اقرأ يا عمر فقرأ كما أقرأه النبي ﷺ، فصوب النبي ﷺ قراءة هشام، وصوب قراءة عمر وقال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منها[18]، فليس لك أن تأتي بشيء من عندك إذا عسر عليك لفظ، لا، اقرءوا ما تيسر منها، فهذا مخرج في الصحيحين.
هنا يقول: "وثبت أنه أنزل على سبعة أحرف، قيل: المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة"، المعاني المتفقة كهَلُمَّ وأقبِلْ، يعني أن ذلك من قبيل اختلاف اللغات، وهذا قال به جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، ومن أشهرهم ابن مسعود .
وهذا القول يؤيده العلة التي من أجلها نزلت بقية الأحرف الستة؛ لأن القرآن كان في مكة ينزل على حرف واحد وهو حرف قريش، فنزلت الأحرف الستة في المدينة لما كثر الداخلون في الإسلام من أقطار ومن قبائل شتى فكان ذلك يستدعي التيسير والتسهيل على الناس، الشيخ الكبير الفاني الذي انعقد لسانه على طريقةٍ ولهجة في النطق لا يمكن أن يغيرها، فهذا أمر يكون في غاية المشقة والصعوبة، وهذا مشاهد الآن لدى الشباب فضلاً عن الشيوخ، فإذا كان الإنسان قد اعتاد لسانه على طريقة في نطق حرف فإنه لربما يعاني كثيراً ويتكلف كثيراً حتى ينطق به على الوجه الصحيح، هذا مشاهد، فكيف بكبير السن؟.
فهذا يؤيد هذا القول أنها سبع لغات، لكنه يُشكل عليه أمور أخرى، أعظم ما يشكل عليه الواقع، إذا نظرنا إلى وجوه التنوع في الأحرف المبثوثة في القراءات فإننا نجد أشياء غير اللغات، نجد اللغات واحدة منها -كما سيتضح بعد قليل، وهناك أشياء ما لها علاقة باللغات، تقديم وتأخير، تغيير إعراب لا يتعلق أحياناً باللغات، وإفراد وجمع وتثنية، زيادة وحذف، فهذا لا علاقة له باللغات.
ويشكل على هذا القول أيضاً حديث هشام بن حكيم مع عمر -ا- الذي سمعتم آنفاً، كلاهما قرشي ومع هذا اختلفت قراءة هذا عن هذا، فلو كانت القضية تتعلق باللغات كان أقرأهم النبي ﷺ على حرف قريش فكلاهما قرشي، ولهذا اختلف أهل العلم في تفسير الأحرف السبعة اختلافاً كثيراً، ذكر ابن حبان -رحمه الله- في كتابه في السنة صحيح ابن حبان، ذكر خمسة وثلاثين قولاً[19]، والسيوطي -رحمه الله- أشار إلى هذا الاختلاف وذكر أنه بلغ أربعين قولاً، ذكر هذا في الإتقان[20]، ولكن الأقوال المشهورة لا تبلغ نصف هذا العدد، وكثير من هذه الأقوال متداخلة.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أو لعله الأقرب في ظني أنها سبعة أوجه من وجوه التغاير، وهذا الذي عليه كثير من المحققين كأبي عمرو الداني، وأبي الفضل الرازي -أبو الفضل الرازي غير الرازي صاحب التفسير، وخاتمة المقرئين ابن الجزري، والحافظ ابن حجر، وخلق قالوا بهذا، وإن اختلفوا في تفصيله، يعني ما هذه الأوجه السبعة من وجوه التغاير، حاول كل واحد من هؤلاء أن يأتي بهذه الأوجه السبعة من وجوه التغاير ويعدد، ويقول: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، بناء على الاستقراء، يتتبع الوجوه الموجودة، ويقول: الوجه الأول، الثاني، الثالث إلى آخره، لكن هل هذا الاستقراء كامل أو ناقص؟
هو استقراء ناقص، إذا قلنا بأن عثمان جمع الناس على حرف واحد وهو حرف قريش الذي كانت عليه عامة قراءة المهاجرين والأنصار وهو الذي كان ينزل بمكة، ونزلت بقية الأحرف الستة توسعة ورخصة، ثم بعد ذلك ذلت ألسن الناس في القرآن فاستغنوا عن ذلك، وتركوه درءً للفتنة لما وقعت، وقع خلاف بين الأجناد في فتوح أرمينية وأذربيجان، فجاء حذيفة إلى عثمان -كما سيأتي إن شاء الله- وأشار عليه بأن يجمع الناس على حرف واحد.
الشاهد أن هؤلاء العلماء -رحمهم الله- الذين قالوا: هي سبعة أوجه من وجوه التغاير وقع لهم هذا الإشكال أن كل واحد منهم حاول أن يحصر هذه الأوجه السبعة، وهذا الاستقراء لمّا كان غير تام -والاستقراء يجب أن يكون تامًّا- تفاوتت أقوالهم، وبعض هذه الوجوه التي يذكرونها متداخلة، قد يتفقون على ثلاثة، أربعة ويختلفون في الباقي.
لكن الأحسن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن هذه الوجوه السبعة مثل كذا، ومثل كذا، ومثل كذا من غير جزم وقطع بالتحديد، يقال: الوجه الأول والثاني والثالث؛ لأن هذا مظنون، الاستقراء دليل من الأدلة عند أهل الأصول والمنطق ولكنه الاستقراء التام، وهذا ليس باستقراء تام، ومن ثَمّ يُعبَّر: مثل كذا، مثل كذا، وما رأيت أحداً عبر بهذه العبارة إلا الداني -رحمه الله- في كتابه "الأحرف السبعة"، قال: مثل كذا، ومثل كذا، ذكر ذلك على سبيل المثال، وحتى تتضح الصورة نحن نمثل لهذه الأوجه مثلاً بالاختلاف، اختلاف الأسماء في التذكير والتأنيث، والإفراد والتثنية والجمع: والذين هم لأمانتهم، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ [المؤمنون:8] هذا كله ثابت.
وهكذا الاختلاف في وجوه الإعراب فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ [البقرة:37]، فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ اختلف الإعراب، أحيانًا الإعراب يرجع إلى اللغات، مثل: مَا هَذَا بَشَرًا [يوسف:31]، مَا هَذَا بَشَرٌ، باعتبار هل (ما) عاملة عمل (ليس)، فمن العرب من يعملها عمل (ليس)، ومنهم من لا يعملها عمل (ليس)، وهكذا أيضاً الاختلاف في التصريف، ما ذكره الله عن قوم سبأ لما قالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19]، "ربَّنا" بالنصب منادى منصوب، يدعون ربهم لما جعل الله بينهم وبين القرى التي بارك فيها، بينهم وبين الشام، بين اليمن والشام قرىً ظاهرة، وقدر فيها السير بحيث يخرجون من قرية ويرون القرية الأخرى -أمن، ولا يحتاجون إلى حمل الأزواد، فقالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا نبغى أن نذوق السفر والشدة والتعب ونحسّ بالسفر، بَاعِدْ، وعلى القراءة الأخرى: ربُّنا باعَدَ خبر، يعني مع هذا القرب ومع ذلك كفروا بهذه النعمة وجحدوها فقالوا: ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا، ربُّنا بعَّدَ بين أسفارنا هذه كلها قراءات، وذلك يرجع إلى التصريف، وأحياناً يرجع إلى تقديم وتأخير، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111]، وفي القراءة الأخرى: فيُقتَلون ويقَتُلون، تقديم وتأخير، وأحياناً يكون هذا من قبيل الإبدال، إما إبدال حرف "تعملون ويعملون"، وأحياناً يكون الحرف يغير الكلمة، نُنْشِزُهَا [البقرة:259]، نُنشرها، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259]، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29]، وطلع منضود، الطلع: الثمر، والطلح: الموز أو شجر الشوك، منضود: مقطوع الشوك.
وهكذا أيضاً الزيادة والنقص تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا آية براءة، تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:100]، وهذه موجودة في بعض المصاحف، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- كما قال الحافظ ابن حجر أنها ترجع إلى حرف قريش فكتبها عثمان في مصحف مِنْ تَحْتِهَا وفي مصحف تَجْرِي تَحْتَهَا.
وهكذا قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [البقرة:116]، وهكذا في اختلاف اللهجات ما يتصل بالأداء من الإمالة ونحوها (موسِى) (سراط) (صراط) بإشمامها بالزاي، (سعىِ) مثلاً بالإمالة.
وكذلك ما يتعلق بالتسهيل في الهمز (النبيء) بالهمز، وكذلك (المؤمنون) (المومنون)، وأيضاً تسهيل الهمزة أو حذفها أحياناً، هذه وجوه، (قد افلح المؤمنون) (قد أفلح).
يقول: "قيل: المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة"، لكن عموماً هذه الأوجه السبعة، أو الأحرف السبعة هي ليست من اختلاف التضاد بل هي من التنوع فيكون ذلك من إعجاز القرآن، هذا القرآن الذي عجزوا عن الإتيان بمثله يصرِّفه الله هذا التصريف، وهم يعجزون عن وجه واحد في أقصر سورة أو ما يعادلها، وفيه من المعاني ما الله به عليم.
حينما يقول الله مثلاً: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] قراءة الجر: وَأَرْجُلِكُمْ يكون هذا في بيان حالة الرِّجل حينما تكون مغطاة بالخف أو الجورب فتكون ممسوحة، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ المائدة:6بالفتح، منصوبة، فتكون مغسولة إذا كانت مكشوفة، فبيّن أحوال الرِّجل، فهذه أعطاها حكماً، وهذه أعطاهاً حكماً.
وهكذا بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ [الصافات:12]، بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ، (عجبتُ) إذن نقول: صفة التعجب ثابتة لله في القرآن، من أين؟ من هذه القراءة المتواترة بل عجبتُ، -والله تعالى أعلم.
جمع القرآن:
وكُتب في الرقاع وغيرها في عهد النبوة، ثم في الصحف في عهد أبي بكر.
"كتب في الرقاع وغيرها"، الآن بدأ يتكلم عن جمع القرآن، دخل فيه مباشرة، جمع القرآن، القرآن كان مكتوباً في الرقاع وهي جمع رُقعة من الجلد أو القرطاس كاغَد، أو الورق.
يقول: "في الرقاع وغيرها"، غيرها مثل الأكتاف العظم العريض، واللَّخاف جمع لَخفة حجارة، شرائح حجارة، والعُسُب، العسيب إذا كُشط منه الخوص، عسيب النخل يكتبون في ناحيته العريضة في أسفله، العُسُب، وهكذا بالوسائل المتاحة آنذاك، كان مفرقاً في عهد النبي ﷺ، والسبب في ذلك -أنه ما جمع في كتاب- كما قال بعض أهل العلم كالخطابي وغيره: لِمَا كان النبي ﷺ يترقبه من نزول آيات ونسخ بعض الآيات[21]، فما جُمع في كتاب، وكان كُتاب الوحي بين يديه ﷺ يكتبون ما ينزل.
"قال: ثم في الصحف في عهد أبي بكر"، لم يُجمع في عهد أبي بكر في مصحف، وإنما جمع في صحف، ويدل لهذا الحديث المخرج في الصحيح حديث زيد بن ثابت بعد وقعة اليمامة لما قُتل كثير من القراء، فعمر أشار على أبي بكر بجمع القرآن مخافة أن يذهب منه شيء بذهاب حملته[22]، فأبو بكر تردد في البداية، أمر لم يفعله النبي ﷺ، وهكذا المتثبتون إذا جاء أمر يتخوفون منه الخلل أو المخالفة توقفوا في البداية، واليوم تسمع من يشنع على أهل العلم بأنهم لما جاء الشيء الفلاني توقفوا فيه والآن أصبح أمرًا عاديًّا، وهكذا، أبو بكر قال: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله ﷺ؟، فلم يزل به عمر حتى أقنعه وبين له وجه المصلحة في ذلك، فجاءوا بزيد، وزيد يحتاج إلى إقناع، فكان نفس الجواب، هكذا الصحابة : كيف أفعل شيئاً لم يفعله النبي ﷺ؟، وتمنع، مع أن مَن أمَرَه بهذا خيارُ الأمة بعد النبي ﷺ أبو بكر وعمر، لكنهم يتثبتون ويتحرون، ولا يقدمون على أمر إلا إذا كان في غاية الظهور والوضوح بالنسبة إليهم، إلى أن قال لما انشرح صدره لذلك: "فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال"، فكانت الصحف عند أبي بكر بقيت عنده، فكان يجمع القرآن مما شهد عليه شهيدان الحفظ والكتابة، المكتوب بالعُسب واللِّخاف وقطع الأكتاف إلى آخره وصدور الرجال، يكون مما كتب بين يدي النبي ﷺ، ومما حفظ في الصدور، يأتي به هؤلاء الجبال من أصحاب النبي ﷺ، وهم غاية في الحفظ والإتقان والأمانة والديانة، هذا جمْع أبي بكر في صحف، وأبقاه عنده احتياطاً للقرآن، فالدافع إلى جمعه في عهد أبي بكر هو مخافة أن يذهب منه شيء بذهاب حملته، فقد يقول قائل: الله تكفل بحفظ القرآن، نقول: نعم، هذا من حفظه أنْ سخر هذه الجهود فاحتاطوا لكتاب الله -تبارك وتعالى، هذا من حفظه، الأسباب التي بُذلت في ذلك، هذا هو الجمع الثاني.
والجمع الثالث هو هذا الذي ذكره قال: "ثم جمع عثمان الناس على مصحف واحد"، الدافع هنا للجمع غير الدافع لأبي بكر في الجمع، الدافع هنا للجمع هو أنه وقع اختلاف بين الأجناد في فتوح أرمينية وأذربيجان في سنة خمس وعشرين للهجرة، في خلافة عثمان ، فجاءت هذه الجموع من الجيوش من الأجناد، والغالب أن هؤلاء ليسوا من أهل العلم فهذا يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يخطِّئ قراءة هذا، هؤلاء أقرأهم أبو موسى الأشعري ، وهؤلاء أقرأهم ابن مسعود، وهؤلاء أقرأهم أبو الدرداء، وهؤلاء أقرأهم معاذ -رضي الله تعالى عن الجميع، والقرآن أنزل على سبعة أحرف، فكما جاء في الصحيح عن حذيفة حينما قدم إلى عثمان في تلك القضية، وقال: "أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى"[23].
فعثمان أرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها، كانت عند حفصة، بعد أبي بكر كانت عند عمر، وبعد عمر كانت عند حفصة؛ لأنها وصيته حتى يُختار الخليفة بعد ذلك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فكوَّن لجنة بعدما اتفق الصحابة جميعاً حتى ابن مسعود لما تمنع في البداية وكان في الكوفة، فلما علم أنه إجماع من الصحابة في المدينة ومنهم علي أعطاهم مصحفه، وكان قد تلقى من فم رسول الله ﷺ سبعين سورة، فكان ذلك بإجماعهم، فكوَّن هذه اللجنة: زيد بن ثابت من الأنصار، وثلاثة معه من المهاجرين: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، هؤلاء من قريش، ووضع لهم منهجاً، قال: إذا اختلفتم -يعني القرشيين الثلاثة- إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، نسخوا عدداً من المصاحف لا يصح في هذا حديث في عددها، لا تصح فيه رواية، ثم أبقى عنده مصحفاً وأرسل إلى عدد من الأمصار مصاحف، وأرسل مع كل مصحف قارئًا، فأمرهم أن يقرءوا بهذه المصاحف، فعُرف عند ذلك الطريقة التي كتبت بها "الرسم العثماني"، طريقة الكتابة التي هي موجودة بين أيدينا الآن، وكانت الكتابة بلا نَقْط ولا تشكيل، فصاروا يقرءون بما يوافق الرسم العثماني فقط، فدخل من الأحرف السبعة ما احتمله الرسم العثماني فقط، بلا نقْط ولا تشكيل، لاحظوا: (نُنشزها) (نُنشرها)، دخل من الأحرف السبعة ما احتمله الرسم العثماني، وصار الناس يتلقون ذلك عن الصحابة -، ويتلقاه التابعون بعضهم عن بعض، حتى جاء ابن مجاهد في المائة الرابعة في أولها واختار سبعة من كبار القراء الذين اتفقت الأمة على إمامتهم، وجمعهم في كتاب موجود الآن اسمه (السبعة)، هؤلاء القراء كانوا يعرفون وجوهاً في القراءة مما تلقوه مما احتمله الرسم العثماني من الأحرف السبعة، لكن لهم اختيار، يختارون هم بالإقراء وجوهاً معينة لاعتبارات معينة، فصار هذا اختيارًا، هذه قراءة نافع، وهذه قراءة أبي عمرو، وهذه قراءة ابن كثير، وهذه قراءة عاصم.
وصار عنهم رواة مشاهير، فوُجد ما عرف بالقراءات السبع، بعض العلماء قالوا: لماذا لم يجمع ثمانية أو ستة أو خمسة حتى لا يظن أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع؟ فجمع بعض العلماء كتاباً في القراءات العشر، وبعضهم في قراءتين، وبعضهم في خمس، وابن مجاهد قصد هذا فيما يظهر، من باب الموافقة لحديث: إن القرآن نزل على سبعة أحرف[24].
وجاء في بعض الروايات أن عثمان كتب سبعة مصاحف[25] مع أن الرواية فيها ضعف، فقال: من باب الموافقة، هكذا فقط، فظن بعض العامة أن الأحرف السبعة هي القراءات السبع وهذا غلط فادح، ولكن باختصار: القراءات السبع هي أوجه من الأحرف السبعة مما احتمله الرسم العثماني فقط، هذا فرق، والفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان، عثمان جمعه في مصاحف مرتباً للسور والآيات، أبو بكر جمعه في صحف مرتب الآيات دون السور، في صحف، أرى أن هذا القدر يكفي جدًّا في إيضاح هذا البحث الطويل في الأحرف والقراءات، هذه خلاصته، ومن أن أراد أن يتوسع فليراجع في ذلك ما كتبه ابن الجزري مثلاً في أول النشر، أو الحافظ ابن حجر في (الفتح)، أو ما كتبه أبو عمرو الداني في كتابه: (الأحرف السبعة)، أو ما كتبه -وهو من أحسن ما كتب في هذا الموضوع- أبو شامة في كتاب: (المرشد الوجيز) فإنه عالج هذه الموضوعات الدقيقة جدًّا، جمع القرآن والقراءات والأحرف السبعة، ما تكلم عن بقية موضوعات علوم القرآن، كتب كتابة قوية ومتينة في هذه الموضوعات، وهو من أحسن ما كتب فيها، وكتابة بعض أهل العلم في هذا عموماً مفيدة، والكتابات في هذا كثيرة، كتابة السيوطي فيه في (الإتقان) مثلاً، أو الزركشي في (البرهان)، أو الزرقاني في (مناهل العرفان)، كل هذه الكتابات مفيدة، وكتابة الزرقاني من أحسنها، ومن أراد كتابة مبسطة وجيدة أيضاً يمكن أن ينظر في مثل كتاب: (دراسات في القرآن والحديث)، أو (التعريف بالقرآن والحديث) لمحمد الزفزاف.
والجمهور أنه مشتمل على ما يحتمله رسمها، ومُتضمِّنتها العرضة الأخيرة.
مشتمل على ما يحتمله رسم المصاحف من الأحرف السبعة كما ذكرت آنفاً، هكذا، ومتضمنتها العرضة الأخيرة يعني أن العرضة الأخيرة كانت على الأحرف السبعة، وهذا ليس محل اتفاق، بعضهم يقول: كانت على حرف قريش، وزيد بن ثابت كان قد شهد العرضة الأخيرة؛ ولهذا اختاره أبو بكر وعمر، واختاره عثمان أيضاً في اللجنة.
ترتيب الآيات والسور:
وترتيب الآيات بالنص والسور بالاجتهاد.
الآن انتقل إلى موضوع آخر وهو ترتيب الآيات والسور، هل هذا توقيفي؟ توقيفي يعني من الله أو من الرسول ﷺ، لا مجال للاجتهاد فيه، أو أنه شيء اجتهادي؟.
أما ترتيب الآيات فقطعاً هو من الله، ولا توجد آية اجتهد الناس في ترتيبها، إطلاقاً، كله من الله، وهذا لا نحتاج أن نستدل عليه، وفي حديث زيد بن ثابت ، قال: "كنا عند رسول الله ﷺ نؤلف القرآن من الرقاع"[26]، هذا عند أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وغير هؤلاء وهو أثر أو حديث صحيح، "نؤلف القرآن من الرقاع"، يعني قطع الجلود إلى آخره التي كتب فيها بحيث يرتبون الآيات في السور بين يدي النبي ﷺ، يرشدهم، هذه في سورة كذا، وهذه بعد آية كذا، وكان هذا الأمر معروفاً، لما يقول النبي ﷺ: اقرءوا البقرة[27]، اقرءوا، كيف تُقرأ البقرة؟، النبي ﷺ حينما كان يقرأ (ق) على المنبر[28] كيف كان يقرؤها؟، لما يقرأ في الصلاة ويسمعونه، لما قرأ الطور[29].
ومن حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال[30]، أو من آخرها، كل هذا، قطعاً كان ترتيب الآيات في السور توقيفيًّا يعني من الله لا مجال للاجتهاد فيه، لكن الكلام وخلاف أهل العلم هو في ترتيب السور، هل هو بتوقيف أو لا؟ هل النبي ﷺ هو الذي قال: ابدءوا بسورة الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم النساء إلى آخره، هل هذا كان بأمر منه ﷺ؟.
من أهل العلم من يقول: نعم، وبعضهم يستثني: التوبة والأنفال، يقول: هذه وقع فيها اجتهاد، والذي أظنه أقرب -والله تعالى أعلم- في هذا هو أن ترتيب السور لا يقال: إنه توقيف هكذا بإطلاق، ولكنهم اجتهدوا واستأنسوا في اجتهادهم هذا بما عرفوا ولاحظوا من قراءة رسول الله ﷺ، هناك أشياء معروفة في زمن النبي ﷺ وإن اختلفوا في أوله.
المفصل معروف وتجد هذا في عدد من الروايات عن عائشة -ا- وغيرها، ابن عباس يقول: "توفي رسول الله ﷺ وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم"[31]، رواه البخاري، المحكم يعني: المفصل، كما قال سعيد بن جبير في نفس الرواية؛ لأنه يرويه عنه سعيد بن جبير في الصحيح، المحكم هو الذي تدعونه المفصل، وكان المفصل معروفًا عندهم.
البقرة وآل عمران، الزهراوان، فهذا القدر، يعني لاحَظوا قراءة النبي ﷺ بعض الأجزاء أو بعض السور التي كان يقرؤها متتابعة استأنسوا بهذا، لكن القول بأن النبي ﷺ هو الذي قال لهم: ضعوا هذه السورة بعد هذه، وهذه بعد هذه، هذا يحتاج إلى دليل ولا يوجد عندنا دليل على ذلك، هذا ما يتعلق بترتيب السور، وإذا قلنا: إن ترتيب الآيات توقيفي فمعنى ذلك أنه يمكن أن نرتب على هذا حكماً وهو صحة المناسبة ما لم تكن بتكلف في الاستنباط، ما معنى المناسبة؟.
يعني الله -تبارك وتعالى- مثلاً لما قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، فذكْرُ الرحمة بعد الربوبية العامة يدل على أنها ربوبية مبنية على الرحمة، الربط بين الآيات، الربط بين أول السورة وآخر السورة مثلاً، أو المقطع والمقطع، في أول سورة الممتحنة لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]، آخر السورة: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13]، لاحظ أول السورة وآخر السورة، هذه تسمى المناسبة بين فاتحة السورة وخاتمتها، فإذا لم يكن فيه تكلف فلا بأس.
فإذا قلنا: إن ترتيب السور غير توقيفي فمعنى ذلك أننا لا نربط بين السورة والسورة، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:1-4]، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، يعني فعلنا ذلك لماذا؟ لِإِيلَافِ لأنها التي بعدها، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ [قريش:1-2] هذا الربط بين السورة والسورة، هذا إذا قلنا: إن الترتيب توقيفي، وعرفنا معنى توقيفي، وإذا قلنا: إن الترتيب ليس بتوقيفي إذن لا نشتغل بهذا بين السور.
وتأتي مسألة أخرى وهي مسألة التنكيس، إذا قلنا: إن ترتيب السور غير توقيفي فلك أن تقرأ في الركعة الأولى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] وفي الركعة الثانية قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، ولا يكون ذلك من قبيل التنكيس، الأثر الوارد عن ابن مسعود لما ذُكر له الرجل الذي قالوا: "إنه يقرأ القرآن منكوساً قال: ذاك رجل نكس الله قلبه"[32]، ما المقصود به؟ هل المقصود تنكيس السور أو المقصود تنكيس الآيات في السورة من باب التمهر في الحفظ؟، وهذا يوجد إلى اليوم، ناس يتمهرون، مع أن العجيب أن أبا عبيد القاسم بن سلَّام -رحمه الله- في كتابه: "غريب الحديث" استبعد هذا المعنى جدًّا، وقال: "هذا لا يُتصور ولا يمكن"[33]، ولو رأى الآن بعض الأطفال الصغار في بعض البلاد يقلب السورة من آخر آية إلى أن يأتي إلى أول آية بكل مهارة لما قال ذلك -رحمه الله- ولما استبعده.
فتنكيس الآيات في السور لا شك أنه يفسد المعنى، لما تقرأ الفاتحة من آخر آية حتى تصل إلى الآية الأولى فقد قلبتَ المعاني وأفسدتها، فهذا حرام لا يجوز، هذا عبث في القرآن، هذا فيما يتعلق بتنكيس الآيات والسور.
أسباب نزوله:
معرفة سبب نزول القرآن يعين على فهم الآية، فقد يكون اللفظ عامًّا، والسبب خاص، ومنه إِنِ ارْتَبْتُمْ [الطلاق:4].
المقصود بسبب النزول هو الواقعة أو ما نزل القرآن بسببه من واقعة أو سؤال، ما نزل بسببه، يعني القضايا التي كان يتحدث عنها مما حصل قديماً من الأمم المهلكة، أو قصة أصحاب الفيل أو نحو ذلك، هذا ليس هو سبب النزول، سورة الفيل ما سبب النزول؟، هل هو مجيء أبرهة؟ لا، هذه من قصص القرآن، إنما سبب النزول حين وقوعه، إنسان سأل سؤالا، وقع أمر، حصلت حادثة فنزلت الآيات، هذا هو سبب النزول، ما نزل القرآن متحدثاً عنه من حادثة واقعة أو سؤال.
يقول: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية"، أحياناً يتوقف المعنى على معرفة سبب النزول، يعني عروة بن الزبير -ا- سأل عائشة -ا، قال: ليس علينا حرج، لا يجب علينا السعي بين الصفا والمروة؛ لأن الله قال: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]، إن فعل وإلا لا حرج عليه أن يسعى، رفع عنه الحرج لا يعني الوجوب، فعائشة -ا- ذكرت سبب النزول كما في الصحيحين: "كان الأنصار قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية، وكان من أهلّ لها -عندهم مناسك في الجاهلية ومحظورات- يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] إلى آخره"[34].
فأحياناً يتوقف عليه فهم المعنى، لما قال الله : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] ما معنى هذا الكلام؟ كان بعض العرب إذا أحرم بالحج أو العمرة فإنه يمتنع من دخول البيت، يرى أنه من محظورات الإحرام أن يدخل بيتاً، فإن كانت له حاجة تسوّر، ما يدخل من الباب، فالله يقول لهم ليس هذا من البر: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، فهنا قد يستشكل الإنسان المعنى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا فإذا عرف سبب النزول زال الإشكال.
وأحياناً يكون من باب زيادة الإيضاح، ولكنه لا يتوقف عليه فهم المعنى، وتتفاوت الأمثلة، يعني في قوله -تبارك وتعالى- مثلاً في القبلة: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، في حديث عامر بن ربيعة: "كنا مع النبي ﷺ في سفر أو في ليلة مظلمة فلم ندرِ أين القبلة، فصلى كل رجل -اجتهدوا- على حياله، فلما أصبحوا وجدوا أنهم صلوا إلى غير القبلة، فذكروا ذلك للنبي ﷺ فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ"[35].
فهنا لو أخذ الإنسان الآية بمفردها هكذا وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قد يقول قائل: لا يجب علينا استقبال القبلة، الحمد لله، نستقبل أي جهة، نقول له: لا، سبب النزول يوضح ويزيل عنك هذا الإشكال.
وأحياناً يكون ذلك من باب الفائدة وزيادة المعرفة، ولكنه لا يتوقف عليه الفهم، وأحياناً يكون فيه دفع تهمة، مثلما قال مروان لعبد الرحمن بن أبي بكر: هذا الذي قال لوالديه أف لكما، فنفت عائشة -ا- ذلك، وقالت: "ولو شئتُ أن أسميه لسميته"، يعني الذي نزلت فيه، ما نزلت فينا، وما نزل فينا شيء من القرآن غير عُذري[36]، يعني في سورة النور.وسبب النزول منه ما يكون صريحاً يذكر حادثة أو سؤالا ثم يقول: فأنزل الله، أو فنزلت، أو سبب نزول هذه الآية كذا، ومنه ما لا يكون صريحاً، يقول: نزلت هذه الآية في كذا، في الرجل يعمل كذا، هذا يحتمل أن تكون تفسيرًا.
عامه وخاصه:
"فقد يكون اللفظ عامًّا والسبب خاصًّا"، والقاعدة: "العبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب"، فحينما تنزل الآية بسبب معين -القرآن للتشريع- لا يختص ذلك بالذي نزلت فيه، رجل قارف ما قارف مع امرأة لا تحل له، فجاء إلى النبي ﷺ وندم فأنزل الله : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، هل هذا خاص لهذا الرجل؟
الجواب: لا، فالقرآن للجميع، الخطاب لواحد من الأمة أو سبب النزول إذا كان أحد أفراد الأمة فإن الحكم يكون شاملاً للجميع إلا لدليل، فهنا يقول: "فقد يكون اللفظ عامًّا والسبب خاصًّا، ومنه: إِنِ ارْتَبْتُمْ [الطلاق:4]"يعني: سبب نزول قول الله -تبارك وتعالى: إِنِ ارْتَبْتُمْ، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] يعني كذلك، لماذا قال الله: إِنِ ارْتَبْتُمْ؟، قالوا: سبب النزول يوضح لماذا قال ذلك، يقولون: إنهم استشكلوا ذكر العِدد، لما ذكر الله عدة الحامل، وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، والمطلقات أولات الأقراء التي تحيض يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، طيب الآيسة التي لا تحيض انقطع حيضها، أو الصغيرة إذا طلقت وهي لم تبلغ بعد، ما حاضت، إذا طلقت ماذا تجلس لا هي حامل ولا ذات أقراء فكيف تصنع؟.
فيقولون: إنهم استشكلوا هذا كما جاء من حديث أبي بن كعب لما سألوا عن عِدد النساء، قالوا: بقي من عِدد النساء -يعني ما لم يذكر- الصغار والكبار، فنزلت هذه الآية، فقال الله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ طالما أنه وقع لكم إشكال فهذا الحكم، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ الصغيرات كذلك يعني ثلاثة أشهر، هذا عند ابن أبي شيبة[37]، وابن جرير[38]، وابن أبي حاتم[39]، والحاكم[40]، لكنه لا يصح.
قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، وذكرت لكم ذلك آنفاً، قد يكون اللفظ عامًّا والسبب خاصًّا.
وبعد أن انتهى من موضوعات النزول، نزول القرآن منجماً، وأسباب النزول ومن كان ينزل بالقرآن، وأن جبريل أخذه من الله مباشرة، انتقل إلى مباحث الألفاظ.
مباحث الألفاظ:
عامه وخاصه.
الآن انتقل إلى الكلام على مباحث الألفاظ، العام والخاص، المطلق والمقيد، المحكم والمتشابه، المنطوق والمفهوم، الحقيقة والمجاز عند القائل به، الترادف، هو ما ذكر كل هذه، لكن هذه كلها تعتبر من المباحث اللفظية، فهنا العام، ما هو العام؟
يقول: اللفظ الذي يَستغرق، هل العموم يختص بالألفاظ أو يدخل في المعاني؟ يدخل أيضاً في المعاني، المفهوم له عموم، العلة تُعمِّم، وقد تخصص، ولهذا الأحسن أن يقال في العام: ما استغرق، يشمل الألفاظ والمعاني، ما استغرق الصالحَ يعني مما يصلح أن يدخل فيه، إذا قال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] الرجال عام، القوامة للرجال على النساء، فإذا قال: الرجال لا يدخل في هذا اللفظ النساء، ولا يدخل فيه الأطفال؛ لأنه لا يصلح له، ما استغرق الصالحَ دفعة، دفعة بمعنى أنه إذا قلت: الرجال بهذا اللفظ فقط يكون شمول واستيعاب واستغراق الرجال جميعاً، بخلاف ما إذا قلت: زيد وعمرو وحسن وحسين وصالح وخالد وعبد الله، وعددت المجموعة كلها، نعم استوعبتهم لكن بالتعداد والعطف زيد وعمرو إلى آخره، لكن إذا قلت: جاء الرجال، جاء الضيوف، جاء القوم.
وكذلك أيضاً لو أنك ذكرت العدد، استغرق الصالحَ دفعة بلا حصر، حصر بالعدد، تقول: جاء عشرة، هم عشرة، لكن مثل هذا حصرتهم بالعدد ما يكون هذا من قبيل العموم، العام لفظة تستغرق ما يصلح لها، الرجال، النساء، الآيات، الأحاديث، وما أشبه هذا، والخاص يقابل العام وهو ما لم يستغرق.
العام منه ما هو باقٍ على عمومه، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] هل يُستثنى منه شيء؟، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة:283] هل يُستثنى من هذا شيء؟، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176]، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ كل أم لك من النسب أو من الرضاع وإن علت، لا يُستثنى من هذا شيء، فهذا عام باقٍ على عمومه، لم يدخله تخصيص.
النوع الثاني يقول: "العام المراد به الخصوص"، عام مراد به الخصوص، الصيغة صيغة عموم، ولكن المراد معنى خاص، المراد الخصوص وليس المراد العموم، ومثل له بقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ (الذين) صيغة عموم، إذا قلنا: إن المقول له هو أبو بكر (الذين) ما قال: (الذي قال له الناس)، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ صيغة عموم المراد بها واحد، تريد أن تمدح شخصًا تقول: الذين قيل لهم كذا وكذا، وأنت تريد واحدًا وهو معروف، فـالَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ، "الناس" صيغة عموم ولكن القائل واحد، سواءً قلنا: إنه أعرابي من خزاعة، أو إنه نعيم بن مسعود الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ من يقصد؟ أبا سفيان، قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، إلى أن قال: إِنَّمَا ذَلِكُمُ ما قال: (ذلك) بالإفراد، ذَلِكُمُ فعاد الضمير بالجمع إلى واحد، يعني القائل: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، هنا قال: والعام المراد به الخصوص كـ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ.
والثالث: العام المخصوص وهو كثير، ما معنى العام المخصوص؟ يعني الذي دخله تخصيص، عام أخرج بعض الأفراد منه بدليل آخر، فيقول: "إذ ما من عام إلا وقد خص"، الآن عرفنا العام الباقي على عمومه، ما يلتبس، ما أُطلق على واحد، وما خرج منه شيء من الأفراد وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فباقٍ على عمومه حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، فهذا عام، لكن يبقى المخصوص والعام المراد به الخصوص، ما الفرق بينهما؟
هناك عدة فروقات، منها: أن العام المراد به الخصوص، حينما قال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إلى آخره، هل كان في البداية يقصد معنى العموم ثم حصره في بعض الأفراد، أو من البداية لا يراد به العموم؟
من البداية عندما تكلم به لم يرد به العموم، الآن لو أن أحداً مثلاً أردت أن أشير إليه، وقلت: طلاب العلم اليوم يأتي الواحد منهم، -طلاب العلم صيغة عموم، ويشرد ذهنه في الدرس، ويجلس يخطط على الكتاب مثلاً، أنا الآن لا أقصد أحداً، لكن افترض أني أقصد أحداً وأنتم ترونه يفعل هذا ماذا تفعلون حينما أقول هذا هل تظنون أني أعني جميع طلاب العلم؟.
مباشرة تنظرون إلى هذا الشخص، وهو يعرف نفسه.
إذن العام المراد به الخصوص ما أريد شموله لجميع الأفراد لا من جهة تناول اللفظ حينما أطلقناه، ولا من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد، لكنه استعمل في فرد منها، من البداية قصَدنا به واحدًا، هذا فرق، أما العام المخصوص فهو من البداية عام، أطلقنا اللفظة وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] كل مطلقة لكن خرج بعض الأفراد وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
إذن من المطلقات من لا تجلس ثلاثة قروء، فأخرجنا بعض الأفراد، هذا يسمى عامًّا مخصوصًا، هذا حينما ذكر في البداية هل أريد به عموم اللفظ؟
نعم أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة اللفظ، لكن من جهة تناول الحكم أخرج منه بعض الأفراد بمخصص، يعني حينما قال الله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ من ناحية اللفظ أريد به العموم، ومن جهة تناول الحكم الله -تبارك وتعالى- لم يرد به الحامل فأخرجه بدليلٍ مخصِّص آخر، هذا العام المخصوص، الذي جاء دليل يخصصه، وفرق آخر أن العام المراد به الخصوص قرينته حالية أو عقلية لا تنفك عنه في نفس المقام مباشرة، وأنا أتكلم أنتم مباشرة تعرفون المراد بقرينة معينة، بينما العام المخصوص ليست قرينته حالية، أو عقلية لا تنفك عنه، بل تنفك، يأتي بدليل آخر لفظي يخصصه وَالْمُطَلَّقَاتُ خصصها وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ هذه نزلت في وقت، وهذه نزلت في وقت آخر، هذا الفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص.
إذن العموم ثلاثة أنواع: باقٍ على عمومه، وهو كثير؛ لأن المؤلف قال في الهامش: وهو عزيز، وهذه العبارة نقلها -فيما يبدو- عن السيوطي؛ لأن كثيرًا من كلامه هو من كلام شيخ الإسلام -وإن كان لا يشير إلى ذلك في كثير من الأحيان، وما ليس كذلك فهو في غالبه من كتاب الإتقان للسيوطي.
فقوله: "هو عزيز"، هذا من كلام المتكلمين، وما هو بعزيز، عزيز يقصدون أنه نادر أو قليل -أي الباقي على عمومه-؛ لأنه قال بعد ذلك: "إذ ما من عام إلا وقد خص"[41]، وهذا الكلام ليس صحيحاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أين الذي خصصه؟، وابن القيم -رحمه الله- في "بدائع الفوائد" ذكر أمثلة كثيرة على عمومات لم تخصص، ورد على الذين يقولون هذا الكلام.
إذن الباقي على عمومه كثير، ما هو قليل كما يقول المتكلمون، ويأتي عندنا نوع آخر وهو العام المخصوص، ونوع ثالث وهو العام المراد به الخصوص، فصار العموم ثلاثة أنواع.
والمخصِّص إما متصل: وهو خمسة:
أحدها: الاستثناء.
والمنفصل: كآية أخرى، أو حديث، أو إجماع.
المخصِّص إما متصل، التخصيص: هو قصر العام على بعض الأفراد، قال: المخصص: إما متصل، المخصِّص: هو الدليل المخرج لبعض الأفراد، قال: إما متصل، يعني ما لا يستقل بنفسه، لا يستقل بنفسه هذا المتصل، بل هو مرتبط بكلام آخر، مثل: الاستثناء مخصص متصل، قال الله -تبارك وتعالى- عن الذين يرمون المحصنات، قال: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:4-5] فالاستثناء مخصص متصل، بدل البعض من الكل: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ [آل عمران:97] كل الناس حِجُّ الْبَيْتِ، ثم قال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] هذا يسمى: بدل بعض من كل، فالمستطيع هم بعض الناس، هذا المخصص المتصل، ما لا يستقل بنفسه بل مرتبط بكلام معه، وهو خمسة:
أحدها: الاستثناء، وما ذكر غيره، الاستثناء: هو أقواها وأشهرها.
وهناك أشياء أخرى مثل: الوصف وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23] ليست كل ربيبة وإنما إذا كان قد دخل بأمها، فإن كان لم يدخل بأمها فقط عقد عليها فيجوز له أن يطلق الأم ثم يتزوج الربيبة، فهذا وصف.
أو الشرط وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النور:33] المكاتبة: الرقيق الذي يقول لسيده: كاتبني أعطيك أقساطًا، مبلغًا نتفق عليه مقسطًا حتى أفي بهذا المبلغ وأكون حرًّا، وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ مطلقاً؟، لا، ولكن:إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] يعني: وفاءً مع القدرة على الكسب على الأرجح من أقوال المفسرين، إِنْ عَلِمْتُمْ لكن إن علم أنه ما يستطيع أن يوفي أو سيقف على أبواب المساجد يسأل فهنا قد لا تكون المصلحة في مكاتبته؛ لئلا يضيع، وهكذا أيضاً الغاية قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، بدل البعض من الكل ذكرت لكم مثاله آنفاً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].
قال: "والمنفصل كآية أخرى"، المنفصل عكس المتصل: هو ما يستقل بنفسه، ما هو مرتبط بنفس اللفظ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة:228] مع قوله: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق 4].
"أو حديث" مخصِّص مثل: البيع، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275] فمخصَّص بالأحاديث التي وردت في النهي عن بعض أنواع البيوع.
"أو الإجماع"، الإجماع هل يخصص أو المخصص هو مستند الإجماع؛ لأن الإجماع له مستند من الكتاب والسنة؟، هو المستند، مستند الإجماع، لكن الإجماع يقويه ويوضحه، مخصص بالإجماع، مثل: في المواريث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء:11] أولاد: نكرة مضافة إلى معرفة كاف الخطاب ضمير، وهذا للعموم، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ يشمل كل ولد، خصص بالإجماع الرقيق، لا يرث، المملوك، إذا كان الولد مملوكاً فإنه لا يرث من أبيه.
وبالقياس، التخصيص بالقياس، إذا زنا فالله حكم بالنسبة للأمَة أنها إذا قارفت الفاحشة قال: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] نصف، ولم يذكر المملوك، فالرقيق الذكر إذا زنا يقاس على الأمة لعدم الفارق في هذا، لا يوجد فارق مؤثر، فذهاب الحرية نقص في المرتبة والشرف، فصار مثل الأمة بالقياس.
يقول: ما كان مخصِّصاً لعموم السنةأمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، لكن هل يتوقف القتال بغير هذا؟.
دلت الآية أنه يمكن مع أهل الكتاب ومن في حكمهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، وذكر في الحاشية مثالاً آخر، قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] عام، أو قول النبي ﷺ: ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة[43]، عام، (ما قطع) (ما) هذه للعموم، كل ما قطع، كل ما فصل من البهيمة وهي حية فهو ميت يستثنى من هذا يخرج منه: الأصواف والأوبار والأشعار إذا جُزت وهي حية وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا [النحل:80]، فتقول: القرآن خصص السنة.
الناسخ والمنسوخ:
يرد النسخ بمعنى الإزالة، ومنه فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج:52].
الناسخ والمنسوخ، هذا من أجلّ الأبواب ومن أنفعها وأحسنها ومن أكثرها نفعاً لطالب العلم، الكتب المؤلفة فيه كثيرة جدًّا، من أنفع هذه الكتب كتاب: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس، وهو يصلح للمتخصصين من طلاب العلم، مطبوع في ثلاثة مجلدات، وكتاب: "الإيضاح في ناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب مطبوع في مجلد، وكتاب: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد القاسم بن سلام، وهذه كتب في غاية النفع، وكذلك أيضاً كتاب: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي، والكتب كثيرة لكن هذا من أنفع المصادر الأصلية.
الناسخ والمنسوخ، هذا من أجلّ الأبواب ومن أنفعها وأحسنها ومن أكثرها نفعاً لطالب العلم، الكتب المؤلفة فيه كثيرة جدًّا، من أنفع هذه الكتب كتاب: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس، وهو يصلح للمتخصصين من طلاب العلم، مطبوع في ثلاثة مجلدات، وكتاب: "الإيضاح في ناسخ القرآن ومنسوخه" لمكي بن أبي طالب مطبوع في مجلد، وكتاب: "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد القاسم بن سلام، وهذه كتب في غاية النفع، وكذلك أيضاً كتاب: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي، والكتب كثيرة لكن هذا من أنفع المصادر الأصلية.
ومن أراد أن يقرأ في موضوع الناسخ والمنسوخ بلغة عصرية قوية يمكن أن يقرأ في كتاب: "مناهل العرفان"، كتابته في موضوع الناسخ والمنسوخ جيدة.
"يقول: يرد النسخ بمعنى الإزالة، ومنه فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج:52]"، وتقول: نسخت الريحُ الأثر، بمعنى أزالته، "وبمعنى التبديل"، وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل:101]، وبعضهم يقول: "وبمعنى التحويل"، مثل تناسخ المواريث، "وبمعنى النقل إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]"، فإذا أردنا أن نجمل في معنى النسخ في أصل معناه اللغوي يمكن أن نجعل ذلك على معنيين:
المعنى الأول: النسخ بمعنى الإزالة والرفع، الإزالة، المحو، فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج:52]، نسخت الريحُ الأثر.
والثاني: بمعنى النقل، مثل: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، عقيدة فاسدة عقيدة تناسخ الأرواح، يعتقدون أن الروح تنتقل إلى إنسان آخر بعدما يموت هذا، هذا بمعنى النقل، لكن هذا النقل على نوعين، نوع يبقى معه الأصل، مثل: نسخ الكتاب، تقول: نسخت الكتاب، الأصل باقٍ، لكن إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ، أو تناسخ الأرواح مثلاً يكون انتقالا كليًّا، لا يبقى أصل وفرع منسوخ منه، هذا بالنسبة لأصل معناه اللغوي.
وأما في الاصطلاح فيمكن أن نقول: هو رفع الحكم الشرعي بخطاب متراخٍ؛ لأن الرفع لا يكون إلا لحكم شرعي، أما رفع البراءة الأصلية فهذا لا يقال له: نسخ، بمعنى: الآن حينما فرضت الصلوات الخمس أو فرضت الصلاة ابتداءً هل كان هذا نسخًا لما كان عليه الحال من براءة الذمة قبل نسخها، بمعنى كلما شُرع حكم جديد تماماً يعتبر نسخًا لبراءة الذمة التي قبل ذلك؟
لا، الفرائض الجديدة هل تكون ناسخة لبراءة الذمة التي قبلها أو يقال: هذا حكم جديد؟
يقال: حكم جديد، لكن الذي ينسخ هو المأمور أو المنهي أو المباح إباحة شرعية؛ لأن الإباحة نوعان: إباحة أصلية، ما كان الناس عليه قبل ورود الشرع، وإباحة شرعية بمعنى أن الشارع قال لهم: هذا الشيء مباح أو أقره، أكل الضب بين يدي النبي ﷺ، وسئل أحرام هو؟ قال: لا[44]، هذه تسمى إباحة شرعية، فلو حُرم الضب بعد ذلك ماذا يعتبر؟، يعتبر من قبيل النسخ، مع أنه مباح، لكن الإباحة الأصلية: الحال التي كان عليها الناس قبل ورود الشرع، لم يتعرض الشرع لهذا أصلاً، جاء الإسلام وكانوا يعاملون بالمعاملة الفلانية ثم حرمت، هل هذا يقال: نسخ؟ ليس بنسخ، رفع البراءة الأصلية ليس بنسخ، رفع الإباحة الشرعية نسخ، رفع الأمر نسخ، رفع النهي نسخ.
يقول: "وهو ثلاثة أنواع"، يعني: "ما نسخ تلاوته وحكمه كعشر رضعات"، كما في حديث عائشة في الصحيحين -ا- قالت: كان فيما أنزل "عشر رضعات معلومات" يعني يحرمن، التحريم بالرضاعة عشر، "فنسخن بخمس"[45]كل هذا في القرآن، "ثم نسخ لفظ الخمس وبقي الحكم"، فالعشر كان لفظاً وحكماً في القرآن فنسخ لفظها وحكمها، فهذا مثال على الأول.
"أو تلاوته دون حكمه" مثل: الخمس، نسخت التلاوة وبقي الحكم، "وكذلك قال: مثل آية الرجم"، آية الرجم "والشيخ والشيخة" يعني المحصن المتزوج "إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله"[46]، هذا الحكم ثابت، الرجم للمحصن، لكن الذي نسخ هو اللفظ، هذا النوع الثاني.
"أو حكمه دون تلاوته"، وهذا النوع هو الذي يتكلم عليه العلماء كثيراً، قال: "وصنفت فيه الكتب، وهو قليل"، قليل، العلماء بعضهم يذكر عشرات أو مئات الأمثلة، المجلدات مليئة بالأمثلة، لكن الذي كثّر هذه الأمثلة هو أن بعضهم يورد كل ما قيل فيه: إنه منسوخ، فالسلف كانوا يقولون ذلك لكل ما يعرض للنص من بيان لمجمل، أو تخصيص لعام، أو تقييد لمطلق، أو رفع للحكم الذي هو النسخ بالاصطلاح عند المتأخرين، الذي ندرسه الآن، كل هذا يسمونه نسخًا، يقول: نسختْها التي بعدها، يقصد خصصتها التي بعدها، فصار بعضهم يجمع كل ما قيل فيه النسخ، فاجتمع له أمثلة كثيرة جدًّا؛ لأن السلف كانوا يتوسعون في إطلاق النسخ، ونقل هنا كلامًا جيدًا لابن القيم -رحمه الله- في هذا المعنى تنظرون فيه في الهامش، ولذلك السيوطي -رحمه الله- في الإتقان اقتصر على إحدى وعشرين آية فقط، وهي أقوى ما قيل فيه بالنسخ، وهي التي علق عليها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في آخر "أضواء البيان" ملحقة فيه، وأورد الزرقاني ذلك في كتابه "مناهل العرفان"، وناقشها مناقشة جيدة، والذي أظن -والله أعلم- أنه لا يثبت من دعاوى النسخ في هذه الآيات التي قيل: إنها منسوخة العدد الذي يجاوز أصابع اليدين.
"يقول: ولا يقع إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر"، بمعنى أن الخبر المحض مثل: جاء زيد، هل هذا ممكن أن يُنسخ، إذا دخله النسخ فهذا تكذيب، مثلاً: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الأعراف:54]، هل هذا يمكن أن يُنسخ؟، -هذا مثال- لا يمكن أن ينسخ؛ لأن ذلك يكون تكذيباً له، إنما الذي يُنسخ هو الأمر أو النهي، افعلوا كذا ثم ينسخ بعد ذلك، لا تفعلوا كذا ثم ينسخ بعد ذلك.
وقد تكون الصيغة خبرية ولكنها بمعنى الإنشاء -بمعنى الأمر والنهي، فهذا يمكن أن يُنسخ، يمكن أن يدخله النسخ، وهذا المراد بقوله: ولو بلفظ الخبر، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233] الصيغة خبرية ولكن المعنى للإنشاء، يعني هو أمرٌ لهن بالإرضاع، لكن هذه لم تُنسخ، إنما هو مثال يوضح الصيغة الخبرية التي معناها الإنشاء، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، برقم (6989)، ومسلم، في أوائل كتاب الرؤيا، برقم (2265).
- أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (2879)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، وابن منده في الإيمان، برقم (703)، والبيهقي في الأسماء والصفات، برقم (497).
- أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (7937)، والحاكم في المستدرك، برقم (2881)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (12381).
- انظر: مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر (ص:248).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3207).
- أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، برقم (7443)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1016).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (2)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب عرق النبي ﷺ في البرد وحين يأتيه الوحي، برقم (2333).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة، برقم (8)، (9).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل، برقم (4980)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أم سلمة أم المؤمنين -ا، برقم (2451).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (7071)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (857)، وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة، برقم (2778).
- أخرجه ابن أبي عاصم في السنة بإسناد ضعيف، برقم (515)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 349)، باب صفة تكلم الله بالوحي وشدة خوف السموات منه، وذكر صعق أهل السموات وسجودهم لله .
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3234).
- أخرجه معمر بن راشد في جامعه، برقم (20100)، والبزار في مسنده، برقم (2914)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (1141)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2085).
- انظر: مجموع الفتاوى (12/ 569-570).
- انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 163).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، برقم (4991)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، برقم (819).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، برقم (821).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، برقم (4992)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، برقم (818).
- انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 173).
- انظر: المصدر السابق (1/ 164).
- انظر: فتح الباري لابن حجر (9/ 12)، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (8/ 406).
- انظر: شرح السنة للبغوي (4/ 511).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، برقم (4987).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، برقم (4992)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، برقم (818).
- انظر: فتح الباري لابن حجر (9/ 20)، وإرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (7/ 449).
- أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في فضل الشام واليمن، برقم (3954)، وأحمد في المسند، برقم (21607)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وابن أبي شيبة في المصنف، برقم (32466)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (503)، وأخرجه البخاري في صحيحه بلفظ: "فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف"، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] من الرأفة، برقم (4679).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، برقم (804).
- أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (872).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الجهر في المغرب، برقم (765)، مسلم، كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح، برقم (463).
- أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف، وآية الكرسي، برقم (809).
- أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تعليم الصبيان القرآن، برقم (5035).
- انظر: فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص:119)، والمصاحف لابن أبي داود (ص:342)، والإتقان في علوم القرآن (1/378).
- انظر: غريب الحديث للقاسم بن سلام (4/ 103).
- أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة، وجُعل من شعائر الله، برقم (1643)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، برقم (1277).
- أخرجه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم، برقم (345)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، برقم (291).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأحقاف:17]، برقم (4827).
- أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 554)، برقم (17104).
- أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (23/ 51).
- أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/ 3360).
- أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (3821)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
- انظر: الإتقان في علوم القرآن (3/ 52).
- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، برقم (392)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم (21).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصيد، باب في صيد قطع منه قطعة، برقم (2858)، والترمذي، أبواب الأطعمة، باب ما قطع من الحي فهو ميت، برقم (1480)، وابن ماجه، أبواب الصيد، باب ما قطع من البهيمة وهي حية، برقم (3216)، وأحمد في المسند، برقم (21903)، وقال محققوه: "حديث حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5652).
- أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي ﷺ لا يأكل حتى يسمى له، فيعلم ما هو، برقم (5391)، ومسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب إباحة الضب، برقم (1946).
- أخرجه مسلم، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، برقم (1452).
- أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (7107)، وأحمد في المسند، برقم (21596)، والحاكم في المستدرك، برقم (8071)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2913).
وأخرجه مسلم بلفظ: "إن الله قد بعث محمدًا ﷺ بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله ﷺ، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبَل، أو الاعتراف"، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى، برقم (1691).