الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين، والمستمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى:
المحكم والمتشابه:
المحكم: يبين الحقيقة المقصودة، والمتشابه يشبه هذا ويشبه هذا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا الباب هو من صلب علوم القرآن، هو من الأبواب المهمة الأساسية التي لا يستغني عنها طالب العلم، ليس هذا كموضوع الليلي والنهار، والفراشي والنومي، والصيفي والشتائي.
والمحكم في القرآن -وكذا المتشابه- يراد به تارة الإحكام العام الذي يوصف به القرآن، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]، فكل القرآن محكم بمعنى أنه متقن، لا يتطرق إليه خلل في ألفاظه ولا يعتوره خطل في معانيه وأحكامه، كله محكم، فوصفه الله بهذا، وهو أيضاً متشابه بمعنى التشابه العام أي: أنه يشبه بعضه بعضاً في فصاحته وبلاغته وإتقانه، كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23]، فوصفه بالتشابه، فهذا معنى التشابه العام والإحكام العام.
ويأتي بمعنىً خاص وهو الوارد في سورة آل عمران: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، فالإحكام هنا والتشابه ليس بمعنى الإحكام والتشابه الذي سبق في الآيات التي ذكرتها آنفاً، هناك وصَفَ القرآن بأنه محكم، وصَفَه بأنه متشابه، لا منافاة، فذاك يراد به معنى وهذا يراد به معنى آخر، هذا منه ومنه، فهذا هو التشابه الخاص والإحكام الخاص.
ومعنى الإحكام الخاص أحسن ما وقفت عليه في تفسيره هو ما ذكره الإمام أحمد -رحمه الله: "بأنه ما استقل بنفسه في بيان معناه ولم يحتج إلى غيره"[1]، هذا كلام الإمام أحمد؛ لأن المتشابه يحتاج أن يُرجَع إلى غيره ليفهم المراد منه، أما المحكم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [البقرة:255]، فهذا لا يلتبس.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم:4]، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] هذا كله من المحكم، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183].
وأما المتشابه فيقابله وهو ما لم يتضح المراد به، ما لم يستقل بنفسه وإنما احتاج إلى غيره ليفهم المراد منه، وعبارة الإمام أحمد تقرب منها عبارة الشافعي -رحمه الله، إلا أن عبارة الإمام أحمد أقرب وأدق، الشافعي -رحمه الله- يقول في المحكم: "ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وأما المتشابه فهو ما احتمل من التأويل وجوهاً"[2].
والذي أظنه -والله تعالى أعلم- أن هذا يصدق على نوع من التشابه؛ لأن التشابه تارة يكون بسبب الاحتمال، يكون محتملا أكثر من معنى، ولم يظهر المراد فهذا تشابه، فهذا الذي يصدق عليه كلام الشافعي: ما احتمل من التأويل وجوهاً، لكن أحياناً التشابه لا يكون بسبب الاحتمال، أحياناً يكون بسبب الإجمال، الله أجمل قضية حينما ذكرها فتحتاج إلى بيان، المجمل يقابله المُبيَّن، فحينما يقول الله -تبارك وتعالى- مثلاً: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [النحل:118] مثلاً، هذا مجمل فيحتاج إلى بيان، أين بيانه؟ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام:146] بينتها الآية الأخرى، لكن لو بقينا معها فقط وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [النحل:118] يبقى السؤال: ما الذي قصه؟.
فهذا السؤال بسب وجود التشابه.
وأحيانا يكون التشابه بسبب آخر وهو غموض اللفظ، وتارة يكون بسبب التركيب، التركيب فيه اشتباه، فأحياناً اللفظة تبقى غير مفهومة المعنى بالنسبة للقارئ، ليس كل القراء، لكن قد يلتبس على بعضهم أو على كثير منهم، فتبقى مبهمة غامضة، الألفاظ الغريبة، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] ما معنى وَقَبَ؟ إذا كنت لا تفهم هذا فهو بالنسبة إليك يعتبر من المتشابه.
أحياناً التركيب وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102]، هل (ما) هذه نافية وَمَا أُنْزِلَ؟ يعني: السحر ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، أو أنها موصولة يعلمون الناس السحر والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، ما المراد؟، (ما) هذه ما نوعها؟ (الملكين) هل هم ملائكة أو أنها لغة في الملوك؟ ملِك لغة فيها يقال: ملَك، كما يقول بعض المفسرين، هذا يحتمل.
وهل في الآية تقديم وتأخير يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ [البقرة:102]؟ هل الآية على هذا النسق وهذا الترتيب أو فيها تقديم وتأخير؟ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ، هَارُوتَ وَمَارُوتَ، عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أي: على عهد سليمان، في أيام ملكه، عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ [البقرة:102] إلى آخره، فهذا يبقى فيه اشتباه، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55] هل الوفاة هنا الموت أو النوم أو الاستيفاء بالروح والجسد -مستوفيك-؟، أو بمعنى نوفيك أجرك وجزاءك فلا ينقص منه شيء؟ أو فيه تقديم وتأخير (يا عيسى إني رافعك إليك ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ومتوفيك) يعني في نهاية المطاف بعدما تنزل في آخر الزمان، فهذه أحياناً تكون بسبب الاحتمالات كما ترون، فهذا يصدق عليه ما ذكره الشافعي -رحمه الله، وأحياناً لا، أحيانًا تكون اللفظة مبهمة، أحياناً يكون التركيب.
وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء:127]، هل المعنى وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعني: ترغبون عن نكاحهن لقلة جمالهن ومالهن؟، أو المراد وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وترغبون في نكاحهن لجمالهن أو لمالهن؟ يحتمل، والمعنى عكس المعنى.
وهكذا في أمثلة كثيرة، فالتشابه يكون بسبب الاحتمال، وأحياناً بسبب الإجمال، وأحياناً يكون بسبب غرابة اللفظة إلى غير ذلك، ولهذا ما ذكره الإمام أحمد -رحمه الله: "ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان"، هذا هو المحكم، والمتشابه يُحتاج فيه إلى غيره ليتبين معناه.
فهو يقول هنا: "المحكم يميز الحقيقة المقصودة، والمتشابه يشبه هذا ويشبه هذا"، يميز الحقيقة المقصودة بمعنى أنه يتضح به المراد، وأما المتشابه فيبقى فيه شيء من التردد أو التوقف أو الاحتمال.
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، أي: لصد الناس، وصرفهم عن دينهم، وتشكيكهم بالقرآن، وبمُنِّزل القرآن، وبمن جاء بالقرآن، وهو النبي -ﷺ، فإذا وَجد بعض الآيات تَوهّم منها التعارض قال: ما المراد بهذا؟، على سبيل التشكيك والتلبيس، فهذا لا يتتبع إلا مثل هذه الأمور، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، والزيغ: هو الانحراف عن الحق، فيها ميل عن الحق إلى الباطل، وهذا تارة يقع للمنافقين، وتارة يقع لضعفاء الإيمان، وتارة يحصل من الكافرين، تجد في كلام المستشرقين وغيرهم أشياء، فيتتبعون مثل هذه المواضع ويتركون المحكم، فيلبِّسون بذلك على الناس ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، ليس المقصود طلب التفسير وإنما المقصود ابتغاء التأويل بمعنى أنهم يقصدون بذلك الاشتغال البحث عن هذه الأمور التي لا يتوصلون إليها بالطرق الصحيحة كما يقول الشاطبي -رحمه الله، وإنما يتوصلون إليها بطريق معوجة، وهي تتبع المتشابه، وهذا الطريق هو الطريق المنحرف.
المقصود ابتغاء التأويل بمعنى أنهم يقصدون بذلك الاشتغال البحث عن هذه الأمور التي لا يتوصلون إليها بالطرق الصحيحة كما يقول الشاطبي -رحمه الله، وإنما يتوصلون إليها بطريق معوجة، وهي تتبع المتشابه، وهذا الطريق هو الطريق المنحرف.
وخذ مثالا اليوم على ذلك مما نعيشه هذه الأيام من كتابات أقوام لا خلاق لهم في أعمدة صفراء، يقولون -مع أن الجواب معروف: لمّا موسى -عليه الصلاة والسلام- جاء إلى مدين وورد ماء مدين، ووجد القوم الذين يسقون، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا [القصص:23] إلى آخره، قالوا: هذا يدل على جواز الاختلاط، أين جواز الاختلاط؟ تَذُودَانِ بعيدًا عن الرجال.
وهكذا يعمدون إلى مثل هذا في نصوص الكتاب والسنة، النبي ﷺ دخل على أم سليم ودخل أيضاً على أم حرام بنت ملحان[3]، وهذه تأخذ من عرقه ﷺ، وأبو موسى الأشعري دخل على امرأة من قومه وجعلت تفلي رأسه يتتبعون مثل هذا، ويتركون النصوص المحكمات الواضحات، إياكم والدخول على النساء، أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت[4].
ويرى النساء يختلطن في الطريق إلى المسجد فيقول: ليس للنساء وسط الطريق[5].
ويأمر أصحابه في المسجد أن يتأخروا في الخروج من أجل أن يخرج النساء قبل أن يراهن الرجال[6]، ويجعل للنساء آخر المسجد[7]، ويجعل لهن باباً خاصاً، ويبين أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها معه ﷺ في المسجد[8].
ويقول: المرأة عورة[9]، والنصوص كثيرة جدًّا، وتُترك، ومثل الذباب يقع على هذه المواضع، ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فهذا هو الزيغ، يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة؛ ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه.
قال: وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وهو الحقيقة التي أخبر عنها كالقيامة وأشراطها، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [آل عمران:7]، وقته وصفته إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، هذه الآية هي أصل في باب المحكم والمتشابه بالمعنى الخاص، وهو الذي يعقد من أجله هذا الباب في كتب أهل العلم عادة، مثل هذا، بالمعنى الخاص، ليس بالمعنى العام، وإنما ذاك يذكر من باب الإيضاح والبيان للتفريق بين النوعين فقط.
فقوله -تبارك وتعالى: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] أم الكتاب: أم الشيء هو مرجعه، الراية التي للجيش يجتمعون حولها يقال لها: أم الجيش؛ لأن الجند يلتفون حولها وينطوون تحتها، يقال: المأمومة، الضربة التي على أم الدماغ، لماذا قيل لها: أم الدماغ؟ وهكذا.
فأم الكتاب بمعنى أنها الأصول التي يرجع إليها عند الاشتباه، فإذا جاء من يلبس مثلاً، دائماً نُرجع المتشابه إلى المحكم، قد نعرف الجواب المعين للتشابه وقد يخفى على بعضنا، فإذا خفي عليك اعتصم بالأصل الكبير، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [آل عمران:7] ارجع إلى المحكم دائماً، هذه قاعدة تنفع في كل شيء، إذا لم يحضرك الجواب عن الإشكال المعين، عن الشبهة المعينة ارجع إلى الأصل، التبس عليك أمر فيما يتصل بضبط القرآن بشبهة أثيرت حول كتابة القرآن، أو جمع القرآن، أو الأحرف، أو القراءات، أو نحو ذلك ارجع إلى الأصل الكبير إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
هذا أصل كبير ارجع إليه، وإن لم تعرف جواب الشبهة المعينة، أحياناً بعض الشباب يناظر في البالتوك أو في بعض المواقع بعض الضلال، فيأتون له بآية منسوخة لفظاً، ويقول: وأنتم عندكم تحريف، وهو لا يحضره الجواب، لا يعرف، أول مرة يسمعها، "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله"، فيأتي يقول: ما هذا؟ هذه يقولون: في كتبكم موجودة عند أهل السنة.
نقول: نعم موجودة، هذا مما نسخ لفظه وبقي حكمه، هذا الجواب، لكن هو قد لا يعرف هذا الجواب، فماذا يفعل؟، يرجع إلى الأصل الكبير، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] انتهى، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، وهكذا في سائر الأبواب.
وإذا أتى إنسان يتكلم في الصحابة وأثار شبهة ما عندك جواب عليها، ارجع إلى الأصل الكبير، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا... [الفتح:29].
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:8-9]، فهذه في الثناء على المهاجرين والأنصار، فترجع إلى هذه الأصول، الصحابة عدول .
الشاهد هنا هذه الآية: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7] ما المراد بالمحكمات هنا وما المراد بالمتشابهات؟ عرفنا هذا، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] هنا ثبت الوقف عن ابن عباس -ا-[10]، ويمكن أيضاً الوصل، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وهذا ثابت أيضاً عن ابن عباس -ا، فإذا وقفت وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فيكون معنى التشابه هنا التشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله.
وأهل الرسوخ من العلماء هؤلاء يفوضون إلى ربهم ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، لا يعرفون تأويله، ما المراد بالتشابه -على الوقف-؟ هذا المتشابه المطلق ماذا يقصد به؟، هل يقصد به المعاني؟ إذا قلت: يقصد به المعاني، فمعنى ذلك أنه يوجد في القرآن أشياء لا يعلم معناها إلى الله، فهذا وإن قال به بعضهم إلا أنه مردود؛ لأن الله لم يخاطبنا بالأحاجي والأمور الغامضة التي لا يعرف أحد معناها، وإنما قال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
وقال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82]، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]، كيف يحصل التدبر؟ حث على تدبره، فكيف يقال: إن فيه أشياء لا يفهم معناها، لا يعرفها النبي ﷺ، ولا العلماء، ولا أحد من الأمة؟ هذا لا يوجد في القرآن إطلاقاً، الله خاطبنا في لغة العرب بما نفهم، فلا يوجد في القرآن شيء من المتشابه المطلق من جهة المعاني، فإذا وقفت وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فهذا التشابه المطلق، يحمل على ماذا؟
يحمل على حقائق الأمور الغيبية، وما لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- مما أخبر عنه القرآن من الغيوب، أخبر عن صفاته -تبارك وتعالى، نحن نعرف المعنى، نعرف معنى عزيز، ومعنى حكيم، ومعنى سميع، ومعنى بصير، لكن كيف سمعه؟ لا نعلم، كيف بصره؟ الكيف مجهول، أخبر عن حقائق اليوم الآخر، لكن متى تقوم الساعة؟.
لا نعلم، هذا مما أخفاه الله واختص بعلمه.
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان:25] هذا الغمام من أي شيء يتكون؟ هل هو نفس الغمام الذي نشاهده أو أنه غيره؟
لا نعلم، اللبن الذي في الجنة من ماذا يتكون، هل من نفس مواد اللبن الذي يتكون هنا؟ ما نعلم، هذه أمور لا نعلمها، حقائق اليوم الآخر التي أخفاها الله -تبارك وتعالى- عنا تكون من قبيل المتشابه المطلق.
متى تقوم الساعة؟، هذا من المتشابه المطلق.
إذن إذا وقفنا يكون المراد التشابه المطلق، ولا يكون ذلك في المعاني، كل ما في القرآن مفهوم وإن خفي على بعضهم، وإذا وصلت وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أي: يعلمون تأويله، فهنا ماذا يكون معنى التشابه؟
التشابه النسبي، يعني متشابه بالنسبة لبعض الناس، هو معلوم بالنسبة إلى غيرهم، فهذا يكون في المعاني، على الوصل يكون المراد به التشابه النسبي في المعنى، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعلمون تأويله، ولهذا قال ابن عباس -ا: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله"[11].
متشابه بالنسبة لبعض الناس، تقول لي: ما معنى غاسق؟، ما فهمت، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] غاسق يعني القمر، تقول لي: ما معنى وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ؟ [التكوير:17]؛ لأن هذا يحتمل أقبل وأدبر.
أقول لك: أقسم الله بالليل في حال إقباله وإدباره وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر:33]، وقال: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:2] أرخى سدوله، أقبل، كل هذه الحالات أقسم بها فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] هذا يوم القيامة، ولكن في سورة السجدة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5] فهذا اليوم عند الله -تبارك وتعالى، هذا غير يوم القيامة، فقد يلتبس عليك، تقول: هذا خمسون ألفًا، وهذا ألف، نقول: هذا غير هذا، فهذا تشابه نسبي.
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، الزانية عاصية ليست كافرة إذا كانت لا تستحل الزنا، هل يجوز أن تتزوج مشركًا؟، الزاني عاصٍ إذا كان لا يستحل الزنا، هل يجوز أن يتزوج بمشركة؟
الجواب: لا، والله يقول: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، نقول: الله أمر بالعفاف، ونكاح العفائف، فمن أقر فهو مؤمن، فإن خالف بفعله فإنه على كلام بعض أهل العلم كالإمام أحمد -وهذا الذي ذكره ابن القيم -رحمه الله- يكون قد عقد على امرأة لا يحل له العقد عليها[12]، فلم يصادق العقد محلا قابلاً، فيكون وقوعه عليها بالزنا، وهكذا المرأة، هذا جواب، ولكن قد يخفى عليك هذا الجواب، ماذا تفعل؟، ارجع للمحكم لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42] مثلاً في موضوع الزواج إلى آخره وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221] هذا محكم، فإذا التبس عليك هذا المعنى ما المراد به؟، هل المقصود الوطء، هو لا يقع إلا على واحدة تستحل الزنا فتوافقه، أو واحدة لا تستحله ولكنها تطاوعه على مراده فهي زانية، لكن المؤمنة العفيفة الشريفة لا يمكن أن تقبل هذا، هذا معنى ذكره بعض أهل العلم، فهذه بعض الأمثلة.
إذن عندنا تشابه مطلق، وهذا على الوقف في آية آل عمران، ولا يكون في المعاني، وعندنا تشابه نسبي، وهذا يكون في المعاني، فيعلمه بعض الأمة، ويخفى على بعضهم، فالمسألة نسبية.
"قال: ولم ينفِ عنهم علم معناه بل قال:لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29]" بهذا التفصيل الذي ذكرناه قبل قليل.
قال شيخ الإسلام: وثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات، ولا أعلم أن أحداً من السلف جعلها من المتشابه الداخل في هذه الآية.
لأن بعضهم يمثلون، وهذا كثير، تجد هذا في كتب أصول الفقه، وفي كتب التفسير، وفي كتب علوم القرآن، يمثلون للمتشابه يقولون: مثل آيات الصفات؛ لأنهم يعتقدون أنها من المتشابه؛ لأن كثيرًا ممن ألف في هذه العلوم هم من المتكلمين، من الأشاعرة والمعتزلة، فيجعلون نصوص الصفات من المتشابه؛ ولهذا يحرفونها، وهذا غير صحيح، كيف يكون ذلك من المتشابه؟!.
أجلّ ما في القرآن وأعظم ما في القرآن الحديث عن الله وأسمائه وصفاته وتوحيده يكون من المتشابه!، بعضهم يقول: لا يُفهم المراد به، لا النبي ﷺ يعلم ذلك، ولا غير النبي ﷺ فهي متشابهة، ولذلك نفوضها، مذاهب أهل التفويض: منهم من يقول: لا يعلمها النبي ﷺ ولا غير النبي ﷺ، ومنهم من يقول غير هذا.
ومنهم من يقول: إن مذهب أهل السلف أسلم؛ لأنهم فوضوها، يعتقدون أن السلف فوضوا المعنى، ومذهب الخلف أحكم، باعتبار أنهم حققوا المعاني اللائقة بالله ونزلوها عليها، وهذا غلط، وانحراف، وإزراء بالسلف من الصحابة والتابعين، فنصوص الصفات ليست من المتشابه بل هي من المحكم من جهة المعنى، نعرف ما معنى عزيز وحكيم، وسميع وبصير، ولكنها من جهة الكيفية من المتشابه، فشيخ الإسلام ينبه على هذا المعنى.
هذا هو تفسير هذه العبارة "قراءتها تفسيرها"، ليس معناه أنهم يقرءونها ولا يفهمون معناها، لا، إنما لا يتعرضون لتحريفها، هذا المراد، يوضحه: "وتُمرُّ كما جاءت دالة على ما فيها من المعاني"، ما كانوا يقرءون ولا يفهمون ما تحت هذه الألفاظ من المعاني، إطلاقاً.
هنا يريد أن يقول لك: إن التشابه يقع من جهات متعددة كالإجمال، لكن "كل ما تُرك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام، وتقييد المطلق فإنه متشابه"، بهذا الإطلاق، هذا في ظني غير دقيق؛ لأن من عرف ذلك عرف أن هذا عام وهذا خاص، وأن هذا محمول على كذا، فإنه لا يكون في حقه من المتشابه، لكن لو جاءنا إنسان ونظر في قوله تعالى مثلاً: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وقال: هذه عامة، كل مطلقة، فجاءت امرأة وقالت: إنها حامل، توقف، قالت له أخرى: إنها يائسة لا تحيض، ما في ثلاثة قروء، توقف، جاءت أخرى قالت: إنها صغيرة لم تحض بعد وطلقت، توقف، وَالْمُطَلَّقَاتُ، طيب فبالنسبة إليه متشابه لكن بالنسبة لغيره يعلم أن الله قال: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]، فهذا جواب الحامل، واليائسة والصغيرة وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ [الطلاق:4]، فهذا بالنسبة إليه محكم وليس بمتشابه.
إنما يكون متشابهًا على من لا يعرف ما يخصصه، فيأخذ العام على ظاهره دون إحاطة بالمخصصات وما يقيد المطلق، وهكذا، فيكون في حقه من المتشابه.
الآن يذكر بعده ما يتصل بالتأويل؛ لأن الله قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، ما المراد بالتأويل؟
التأويل:
التأويل في القرآن نفس وقوع المخبر به، وعند السلف تفسير الكلام وبيان معناه.
وعند المتأخرين من المتكلمة والمتفقهة ونحوهم: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، أو حمل ظاهر على محتمل مرجوح، وما تأوله القرامطة والباطنية للأخبار والأوامر، والفلاسفة للإخبار عن الله واليوم الآخر، والجهمية والمعتزلة وغيرهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر، وفي آيات القدر وآيات الصفات هو من تحريف الكلم عن مواضعه.
قال الشيخ: وطوائف من السلف أخطئوا في معنى التأويل المنفي وفي الذي أثبتوه.
هنا قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، ما المراد بالتأويل؟
ذكر هنا ثلاثة إطلاقات للتأويل، اثنان معتبران، الإطلاق الذي في القرآن، والإطلاق الذي عند السلف، والذي عند السلف لا يخالف ما في القرآن، لكنه يقصد أنه لم يرِد هذا الاستعمال في القرآن، فقط، وإلا فهو استعمال صحيح، وما كل ما استعمله العرب الفصحاء ورد في القرآن، لا يلزم.
الاستعمال الذي في القرآن يقول: هو نفس وقوع المخبر به.
فالتأويل: مأخوذ من الأوْل وهو الرجوع، ما يرجع إليه الشيء ويصير إليه في ثاني حال، فعندنا الكلام إنشاء وخبر كما سيأتي، فتأويل الخبر: القرآن أخبر عن أمور، أخبر عن القيامة، أخبر عن العذاب، أخبر عن النار، وقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف:53]، فما المراد بتأويل الخبر؟
وقوع المخبر به، حصول المخبر به، تحققه هو تأويل الخبر، أخبر عن وقوع القيامة مثلاً، قامت القيامة، هذا تأويله، قال: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45] حصلت الهزيمة يوم بدر، هذا تأويله.
وقال عن الروم: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:2-4] تأويله هو وقوع الغلبة للروم بعد ذلك، فهذا يكون في الدنيا ويكون في الآخرة في القيامة.
تأويل الخبر وقوع المخبر به، تأويل الرؤيا يأتي بمعنى يتصل بهذا أحياناً؛ لأنه يأتي بمعنيين، فالمعنى الذي يتصل بهذا هو قول يوسف -ﷺ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف:100]، في البداية قال لأبيه: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، في نهاية المطاف لما جاءوا إليه جميعاً بعد أن عرفوه وعرفهم وطلب منهم المجيء ودخلوا عليه ﷺ حصل تأويل هذه الرؤيا خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100]، فقال لأبيه ما قال: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف:100]، فتأويل الرؤيا هو حصولها وتحققها ووقوعها، فهذا معنى للتأويل.
المعنى الثاني: وهو التفسير، تقول: تأويل الآية أي: تفسيرها، وتأويل الرؤيا: أي: تفسيرها، نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36] يعني: بتفسيره، وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ [يوسف:44] يعني: بتفسير الأحلام، فيأتي التأويل في الرؤيا أيضاً بمعنى التفسير.
ويأتي تأويل الكلام بمعنى تفسيره، بيان المعنى يسمى تأويلا، وعلى هذا يكون التأويل والتفسير بمعنى واحد، على هذا التأويل، يقول: ما الفرق بين التأويل والتفسير؟ هناك كلام كثير للعلماء في هذا في الفروقات وخلاف طويل لا شأن لنا به، إذا فصلتها بهذا التفصيل تستطيع أن تنزل كل شيء على موضعه فتقول: التأويل تارة يكون بمعنى التفسير، تأويل الكلام وتأويل الرؤيا.
وتارة يأتي بمعنى ما يصير إليه ويرجع إليه الشيء في ثاني حال، فإن كان أمراً ففعل المأمور، قال الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، قالت عائشة -ا: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك الله وبحمدك الله اغفر لي، يتأول القرآن[13]، ما معنى يتأول القرآن؟ يعني يطبق، ينفذ، يمتثل، فصار تأويل الأمر فعل المأمور، تأويل الخبر وقوع المخبر به، تأويل الرؤيا وقوعها وتحققها، فعلى هذا المعنى يكون التأويل غير التفسير، إلا إذا قلت بأنه تفسير عملي واقعي، وهو ما يسمونه الوجود الخارجي، أما الذي قبله فيكون الوجود الذكري باللسان، أو الوجود الرسمي بالكتابة، حينما تفسر هذا.
وهنا يقول: "وعند السلف تفسير الكلام وبيان معناها، وعند المتأخرين من المتكلمة" يعني علماء الكلام، "والمتفقهة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بدليل يقترن به"، التأويل الذي تجدونه في كتب أصول الفقه، شروط التأويل، أنواع التأويل، يقولون: إن التأويل ثلاثة أنواع، يقصدون التأويل عند المتأخرين، صرف الكلام عن المعنى الراجح المتبادر إلى معنى مرجوح يقولون: لقرينة، لدليل، وهذا باب واسع، دخلت منه طوائف من أهل الكلام والباطنية وغيرهم، فحرفت فيه نصوص الصفات، ونصوص المعاد، وحقائق الشرع، الذين من أهل الكلام حرفوا النصوص وقالوا: المحبة إرادة الإحسان، والبغض: إرادة الانتقام، عرَّفوا صفات الله -، واستوى بمعنى استولى، والذين حرفوا حقائق الشرع من طوائف الضلال من الباطنية ومن شابههم مثل: أهل التصوف، بعض طوائف المتصوفة، ويقولون مثلاً كبعض قول الباطنية: الصلاة مناجاة الولي، والحج قصد الولي، والصيام كتم أسرار المذهب، والاغتسال من الجنابة هو التوبة من إفشاء سر المذهب، والصفا عليٌّ، والمروة فاطمة، مثلاً، أو يقولون: الصفا النبي والمروة عليٌّ.
وهكذا حرفوا معانيَ القرآن مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [الرحمن:19] البحران: عليٌّ وفاطمة.
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22]، الحسن والحسين.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] قالوا: عائشة، هذا قاله الرافضة، والصوفية قالوا: هي النفس تذبح بسكين الطاعة.
قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123] قالوا: هي النفس، هذا قاله طوائف من الصوفية، فحرفت نصوص الكتاب والسنة، وحقائق الشرع، وحرفت نصوص المعاد، قالوا: لا جنة ولا نار، هذه رموز، يفهمها أهل الظاهر ولها باطن غير الظاهر، القرآن له باطن وظاهر، وجاءوا بهذه الانحرافات والضلالات العظيمة.
فالتأويل عند المتكلمين: يعني عند علماء الكلام، يقول: "والمتفقهة ونحوهم"، يعني علماء الأصول الذين يكتبون في علوم القرآن غالباً يحملونه على هذا المعنى، وهو معنى حادث، وجد بعد المائة الرابعة، ما كان السلف يؤولون هذا التأويل، ولا يجوز حمل ألفاظ القرآن على اصطلاح حادث، فإذا جئت تفسر: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53] لا يجوز أن تفسر التأويل هنا بصرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بقرينة، لا يجوز؛ لأن هذا المعنى ما كان معهوداً لدى المخاطبين بالقرآن.
يقول: "لدليل يقترن به أو حمل ظاهر على محتمل مرجوح"، نفس المعنى، الظاهر يعني المتبادر؛ لأن النص لا يستطيعون تأويله، يعني هم يقرون مثلاً أن التوكيد ينفي احتمال المجاز، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، توكيد، كلمه تكليماً أكده بالمصدر، هم يقولون: نعم، التوكيد ينفي احتمال المجاز، طيب تثبتون الكلام لله -؟.
قالوا: لا نثبت، لماذا لا تثبتون؟، طيب لماذا تفسرونه؟ قالوا: لا نقول: مجاز، نقول: حقيقة، طيب إذاً تثبتون الكلام -ما شاء الله-؟، قالوا: لا، جَرّحه بمخالب الحكمة، لاحظ، لو قالوا: مجاز لقالوا: كلمه يعني عن طريق الملَك، كما يقولون في قوله تعالى مثلاً: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:22] أي: جاء أمر ربك، ونفوا مجيء الله .
فهنا ما استطاعوا أن يقولوا: وَكَلَّمَ اللَّهُ أي: بواسطة الملَك، تَكْلِيمًا، وما استطاعوا أن يقولوا: ألقى المعنى في نفسه مثلاً، وإنما قالوا: جَرّحه بمخالب الحكمة، من الكَلْم يعني الجرح، فهذا تحريف وعبث بالقرآن، جرأة على الله -تبارك وتعالى، فهذا كما قال: "وما تأوله القرامطة والباطنية للأخبار والأوامر"، ذكرت لكم كيف تأولوا الأخبار والأوامر، "والفلاسفة للإخبار عن الله واليوم الآخر...".
هنا يقول: "مثلاً كتأويلهم الأحد بأنه الذي لا يتميز منه شيء عن شيء"، يعني يقولون: إن الله جوهر فرد، لا ينقسم ولا يتجزأ إلى آخر الفلسفة التي لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله -ﷺ، هكذا فسروا الأحد لا يتجزأ، أو لا يتميز منه شيء عن شيء، وأن اليوم الآخر تخييلات للحقائق، من أجل أن العامة بحاجة إلى أمور مادية تسكنهم، تقول له: هناك جنة ونار ونعيم، فيستجيب ويترك الإجرام والسرقة، لكن هم لا يحتاجون إلى مثل هذا، هم يكفيهم المعاني الشريفة والمُثُل بزعمهم.
ويقول: "والجهمية والمعتزلة وغيرهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر وآيات الصفات هو من تحريف الكلم عن مواضعه"، ومثل ما مثل هنا بتأويلاتهم بالنسبة للصفات، اليد بالنعمة أو القدرة أو القوة، والاستواء بالاستيلاء ونحو ذلك.
يقول: وقال الشيخ، يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا قال: قال الشيخ يقصد ابن تيمية، وإذا قال: قال شيخنا يقصد الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله، وإذا قال: قال شيخ الإسلام فهو يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا تجدونه في حاشية الروض وفي بقية كتبه، إذا قال: قال شيخنا يقصد ابن إبراهيم، قال الشيخ فهو ابن تيمية.
يقول: "قال الشيخ: وطوائف من السلف أخطئوا في معنى التأويل المنفي وفي الذي أثبتوه"، بمعنى أن التأويل المنفيوَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] هل المقصود به التفسير؟ ومن هنا وُجد من يقول: إن في القرآن أشياء لا يعلم معناها إلا الله، فهذا خطأ، تأويل المنفي ليس بمعنى التفسير كما سبق، والتأويل الذي جاء في مثل قوله -تبارك وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ على الوصل وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] أثبته لهم، يكون ذلك بمعنى التفسير.
بمعنى أن السلف ما كانوا يعرفون هذا التحريف الذي سمي بالتأويل، وتكلموا في الأشياء في المعاني كلها - معاني القرآن، ولم يتوقفوا في شيء بدعوى أنه مما لا يعلمه إلا الله مثلاً أو أنهم حرفوه عن معناه الظاهر إلى معانٍ أخرى، ولهذا تجد ابن جرير -رحمه الله- يكرر كثيراً هذه القاعدة أنه "لا يجوز العدول عن ظاهر القرآن المتبادر إلا لدليل يجب الرجوع إليه"، ولهذا كان تفسيره من أنفع التفاسير؛ لما فيه من التقعيد والتأصيل الذي يبني طالب العلم.
وأهل الأصول يجعلون التأويل على ثلاثة أنواع: تأويل قريب محتمل، وهذا يكون لدليل، يقول: الجار أحق بصَقَبه[14]، ظاهره أنه كل جار، سواءً كان مقاسماً أو غير مقاسم، بجانبك أرض، جاء جارك يبيعها أنت أحق بها، يبيعها لك، ما يبيعها حتى يعرض عليك، ولكن قوله ﷺ: فإذا وقعت الحدودُ وصُرِّفت الطرقُ فلا شفعة[15]، يدل على أنه ليس المقصود الجار المقاسم، إنما المشارك الذي بينك وبينه الملك المشاع كما يقال، يعني أنت تشترك معه في هذا المزرعة أو الأرض اشتراكاً أو تملكاً مشاعاً، ليس لك هذه الناحية وله هذه الناحية، ومقسومة محددة، لا، هي بينكما، فهنا لا يبيع نصيبه حتى يعرض عليك الجار أحق بصَقَبه، فهذا تأويل، قالوا: لكنه لدليل.
وهناك تأويل بعيد، وهو الذي دليله ومستنده يكون ضعيفاً، ويمثلون لهذا بقول الأحناف في قول النبي ﷺ: أيما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل[16]، قالوا: المقصود الصغيرة؛ لأنهم يصححون أن تزوج المرأة نفسها من غير ولي.
وهناك نوع يسمونه باللعب، "وما خلا فلعباً يفيد"، هذا النوع هو الذي ليس له مستند أصلاً مثل قول الرافضة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، قالوا: عائشة.
وقول الصوفية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالوا: هي النفس، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ [الرحمن:19] هما عليٌّ وفاطمة، هذا يسمى لعبًا، ليس له أي مستند، فهذا لا يلتفت إليه إطلاقاً.
الآن الكلام على التأويل يقود إلى الكلام على المجاز؛ لأن المجاز كما قال ابن القيم -رحمه الله: "هو حمار التأويل"[17]، أو العكس، فإذا ذكر التأويل عند المتأخرين ذكر المجاز؛ لأنهم حينما يصرفونه من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح فإنهم يحملونه على المعنى المجازي.
نفي المجاز:
صرح بنفيه المحققون، ولم يحفظ عن أحد من الأئمة القول به، وإنما حدث تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز بعد القرون المفضلة.
المجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له على وجه يصح، هكذا يقول أهل المجاز، بهذا يعرِّفونه، مثلاً: يقول الله -تبارك وتعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [يوسف:82] يقولون: القرية ما تُسأل، اسأل أهل القرية، فهذا يسمونه مجاز الحذف، فيه مقدر، جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف:77] قالوا: هذا مجاز، الجدار ليس له إرادة، وابن القيم -رحمه الله- جعله طاغوتاً، سماه طاغوتاً في كتابه: "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، قال: "فصل في كسر الطاغوت الثالث"[18]، هو اعتبر التأويل طاغوتًا والمجاز كذلك، فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات وهو طاغوت المجاز، تكلم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كثيراً في كتبه، له كتاب صغير اسمه الرسالة المدنية في هذا الموضوع، وتكلم عليه في كتاب الإيمان الكبير وأطال.
وكذلك أيضاً تكلم عليه ابن القيم -رحمه الله- في "الصواعق المرسلة" بكلام طويل وأبطله من خمسين وجهاً. وكتب فيه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- كتابه المعروف "منع جواز المجاز في المُنزَّل للتعبد والإعجاز"، فهؤلاء العلماء -رحمهم الله- منهم من يقول: إنه لا يوجد المجاز أصلاً لا في اللغة ولا في القرآن؛ لأن ما وُجد في اللغة وُجد في القرآن، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وأن العرب ما كانت تعرف هذا، وأن ما ورد في كلام المتقدمين كالبخاري في "خلق أفعال العباد"، وبعض من كتب كأبي عبيدة معمر بن مثنى في كتابه: "مجاز القرآن" وإن كان يعد من المعتزلة قالوا: يقصدون ما يسوغ ويجوز في اللغة، ولا يقصدون هذا المعنى -الصَّرف- الذي صُرف فيه الكلام عن ظاهره المتبادر إلى معنى آخر.
ويقولون كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: حينما يقولون بأن المجاز: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له يعني أولاً فإذًا هناك معنى ثانٍ، يقولون: معنى هذا أن اللغات وضعية، ولا يُعرف أن قومًا اجتمعوا ووضعوا اللغات واتفقوا نضع هذا، الاستعمال الأول، الاستعمال الثاني، وبعد ذلك لما وضعوها جاء ناس واستعملوها في غير ما وضعت له، ما يعرف، والله قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، ثم يقول لهم: إن الحقيقة هي المعنى المتبادر، فالتبادر أحياناً يكون من السياق، والقرائن السباق واللحاق، كل هذه، حينما يتكلم المتكلم السامع يتوجه إليه معنى يتبادر إلى ذهنه، هذا المعنى هو الحقيقة، ولا يوجد عندنا استعمال أول أو استعمال ثانٍ، ويمثل بأمثلة تحير أحياناً السامع، يقول: إذا قلت: جرى الميزاب، وأصلحت الميزاب، يقول: ما المعنى المتبادر؟ أصلحت الميزاب يعني المجرى، وتقول: جرى الميزاب يعني الماء، فأيهما الحقيقة والمجاز، هؤلاء يجعلون أحدهما حقيقة والثاني مجازًا بعلاقة الحالية والمحلية، حال ومحل، يقول: جرى النهر، وحفرت النهر، أين الحقيقة وأين المجاز؟ أين الذي وُضع أولاً وأين الذي وضع ثانياً؟ ويقول لهم: إن الخلاف حقيقي وليس بلفظي كما يقوله بعضهم؛ لأن من أهل العلم من يقول: الخلاف لفظي كابن قدامة وطوائف من أهل العلم، يقول: السلف ما كانوا يسمونه مجازًا، لكن يتعاملون على هذا الأساس، يقول: لا، المجاز يصح نفيه ولا يمكن أن ينفى شيء مما قاله الله -، فهذا تكذيب له، جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ما يمكن أن تقول: الجدار ليس له إرادة، فهذا تكذيب للخبر، ومن شاء فليراجع هذه الكتب التي ذكرتها آنفاً، أو انظروا في الحاشية فيها نقولات جيدة عن شيخ الإسلام، وعن ابن القيم، وذكر جماعة ممن نفوا المجاز كابن حامد، وداود بن علي الظاهري، والمنذر بن سعيد البلوطي، والإسفراييني من الشافعية، وابن خويز منداد أيضاً، هؤلاء وجماعة من أهل العلم، لكن هل هذا محل اتفاق بين أهل السنة؟.
الجواب: لا، يوجد من علماء أهل السنة من أثبت المجاز، ولكنهم لم يسلطوه على نصوص الصفات والمعاد وحقائق الشرع كما فعلت الطوائف المنحرفة، قالوا: المجاز موجود لكن لا يجوز تحريف هذه الحقائق الشرعية وأسماء الله وصفاته، فمن أثبت المجاز بهذا الاعتبار لا يمكن أن يُبدع أو يضلل أو نحو ذلك، ولا أرى أن نشتط كثيراً في هذه المسألة، من تبين له أن المجاز غير ثابت فلا ضير، ومن قال: إن المجاز موجود في اللغة أو في القرآن ولكن لا نسلطه على ما سبق فلا ضير.
لا أقصد أن الإنسان يكون مخيراً هكذا، وإنما أقصد أنه قد يتبين ويترجح لطالب العلم هذا أو هذا، فلا يكون ذلك محلاً للتبديع، أو التضليل، هذا الذي أقصد.
والذي أظنه أقرب أن المجاز لا وجود له لا في القرآن ولا في لغة العرب، لكن يوجد من أهل السنة من أهل العلم من قال بإثباته، إما في اللغة وإما في اللغة والقرآن.
يقول: فتذرع به المعتزلة والجهمية إلى الإلحاد في الصفات.
الإلحاد هو الميل، إلحاد في الصفات، فحرفوها اسْتَوَى [يونس:3] استولى.
يعني كما في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، وكما قلت لكم: تجد في "خلق أفعال العباد"، وجدناه بحراً[19]، يعني الفرس لما قال فيها النبي ﷺ ذلك، يقول: هذا من مجاز اللغة يعني مما يسُوغ، فهو توسع في العبارات.
هذا أعظم ما يردون به على القائلين بأن الخلاف لفظي، يردون بهذه الجملة: "المجاز يصح نفيه، وليس في القرآن ما يصح نفيه".
ولا يهولنّك إطباق المتأخرين عليه، فإنهم قد أطبقوا على ما هو شر منه.
يعني كثير من المتأخرين أطبقوا على عقائد أهل الكلام مثلاً والتصوف وصار ذلك سارياً سريان النار في الهشيم، وصار ذلك هو الذي يدرس في كثير من المعاهد والمدارس منذ قرون متطاولة، وصار كثير من المصنفين في أصول الفقه، والتفسير، وشرح الحديث وما أشبه ذلك هم من المنتسبين للعلوم الكلامية، ولا يعني هذا أن الحق فيما قالوا واعتقدوا.
وذكر ابن القيم خمسين وجهاً في بطلان القول بالمجاز، وكلام الله وكلام رسوله منزه عن ذلك.
هذا واضح -إن شاء الله، لا نطيل فيه أكثر من هذا، والذين يثبتون المجاز يقولون: الأصل في الكلام الحقيقة، وإذا احتمل -أي دار الكلام بين الحقيقة والمجاز- قدمت الحقيقة.
الإعجاز:
المعجزة: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة، والقرآن معجز أبداً.
الإعجاز: إثبات العجز، والعجز اسم للقصور عن الشيء، تقول: عاجز عن القيام بكذا، عاجز عن فعل كذا، اسم للقصور عن فعل الشيء، يعني ضد القدرة، يقابلها، وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المُعجِز.
والمقصود هنا بالإعجاز: إظهار صدق النبي ﷺ بدعوى النبوة، بإظهار عجز العرب عن معارضته وعجز غير العرب أيضاً الأعاجم والإنس والجن جميعاً، ومن جاء بعد الذين خوطبوا بالقرآن، قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، فهم عاجزون عن ذلك.
فهنا لما ذكر "المعجزة قال: هي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة، والقرآن معجز أبداً"، فالمؤلف -رحمه الله- متشرب لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وعامة ما في هذا الكتاب هو من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، ولكنه فاته هذا، فقوله بأن المعجزة: أمر خارق للعادة، هذا التعبير بالمعجزة لم يرد في الكتاب ولا في السنة، والذي في الكتاب والسنة هو آيات الأنبياء، الآيات، قال: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا [الأعراف:106] يعني معجزة، ويعبر عنها في كلام السلف بدلائل النبوة، وآيات الأنبياء ودلائل النبوة نوعان:
نوع خارق للعادة التي سموها المعجزات.
ونوع ليس بخارق للعادة كإشراق الوجه، وحقيقة ما يدعو إليه من الصدق، والعدل، والبر، والإحسان، والصلة، والأسئلة التي وجهها هرقل لأبي سفيان ومن معه لم يسأل عن شيء من خوارق العادات، ما سأل عن معجزة وعرف أنه نبي، سأل عن أي شيء يدعو؟ هل في آبائه من ملك؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المعروفة، "لما نظرت إلى وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب ﷺ"[20]، فمثل هذا يقال له: دلائل النبوة، فدلائل النبوة أو آيات الأنبياء نوعان: نوع خارق، وهي التي سماها المتأخرون بالمعجزات، ونوع غير خارق وهذه ليست معجزات، والخارق نوعان -انتبهوا: خارق يظهر على أيدي الأنبياء مثل: عصا موسى، وانفلاق البحر، واليد، والآيات الباقية، ومثل الآيات التي ظهرت مثل: انشقاق القمر، ونبع الماء بين أصابعه، وتسبيح الطعام، وهكذا.
فالخارق نوعان: نوع يظهر على يده، ونوع يظهر على يد أتباعه، المتأخرون سموا الذي يظهر على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- معجزة، والذي يظهر على يد أتباعهم كرامة.
نقول: لا مشاحّة في الاصطلاح، والواقع أن جميع ذلك من دلائل النبوة، ومن آيات الأنبياء؛ لأن ذلك مما يظهره الله على يد أتباعهم هو دليل على صدقهم؛ لأن ذلك وقع بسبب اتباعهم.
هذه الخوارق التي تظهر على يد الأنبياء، الخوارق نوعان: نوع يكون على سبيل التحدي مثل: عصا موسى، واليد، وانشقاق القمر للنبي ﷺ، وناقة صالح ، هذه يقصد بها التحدي، هاتوا مثلها، من يستطيع؟.
وهناك نوع من خوارق العادات التي تظهر على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا يقصد بها التحدي، إما أن تكون بين أتباعهم مثل: نبع الماء بين أصابعه، تكثير الطعام، هل يقصد به التحدي؟ يمسح على عينه فترجع كما هي، تسبيح الطعام، كل هذا يعتبر بين أصحابه، بين المؤمنين به لا يقصد به التحدي.
فإذا كان الأمر كذلك لماذا يقول هنا: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي؟ هذا تعريف المتكلمين، هذا تعريف المعتزلة بالدرجة الأولى، وتبعهم من تبعهم من طوائف المتكلمين على هذا، قالوا ذلك؛ لأنهم لا يفرقون بين الخوارق التي تظهر على يد الأنبياء والخوارق التي تظهر على يد السحرة، قالوا: فهذا يدعو إلى الالتباس، إذن لابد من وجود دعوى النبوة والتحدي.
نقول لهم: لا، هناك فرق في هذه الخوارق، الخوارق التي تظهر على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هي خارقة لجنس العادة، لعادة غيرهم، لا يمكن لأحد مهما أوتي من مهارات وقوة وشعوذة أو سحر أن يأتي بمثلها، خارقة لعادة جنس غيرهم، ما يمكن، أما خوارق السحرة فليست بخارقة للعادة مطلقاً، إنما يأتي ساحر بمثلها أو بأعظم منها، لكن الأنبياء هل يمكن لأحد أن يأتي بمثلها؟ لا يمكن، لما اجتمع السحرة على موسى وألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فمباشرة عرفوا فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [لشعراء:46]، هذا ليس بسحر.
يقول: "سالم عن المعارضة"، يعني ما يستطيع أحد أن يأتي بمثله.
إذن كيف نعرّف المعجزة، تعريف أهل السنة؟ أعطيكم تعريفًا سنيًّا ولا أعلمه في شيء من كتب علوم القرآن ولا أصول الفقه، كلهم يذكرون هذا التعريف الذي سمعتم، ولعلكم درستموه -أمر خارق، لكن التعريف الذي يوافق أصول أهل السنة يمكن أن نقول فيه مثلاً: هي ما يظهره الله تعالى من الآيات والبراهين الدالة على نبوة الأنبياء مما يستلزم صدقهم، بشرط خرق عادة الثقلين غير الأنبياء، والخروج عن مقدورهم مع عجزهم عن معارضتها.
هذه المعجزة، ما يأتي على يد الأنبياء خارقًا لعادة الثقلين، أما الذي على يد السحرة فكل من تعلمه استطاع أن يأتي بمثله.
القرآن تحداهم الله به، معجز، ما استطاعوا، ولهذا يقول: القرآن معجز أبداً أعجز الفصحاء.
يقولون: تحداهم، كثيراً ما تجدون هذا، وتجدونه في الهامش أيضاً -الحاشية، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:34]، يقولون: ثم تحداهم بعشر سور، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [هود:133] آية هود.
وهكذا في آية يونس أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ [يونس:38] تحداهم بسورة.
وهكذا في آية البقرة وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23].
وفي آية الإسراء قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء:88] فهذه السور منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني، فهذا الترتيب القول بأنه تحداهم أولاً بكذا ثم بكذا، ثم بكذا، هذا يحتاج إلى معرفة ترتيب النزول، يعني هل فعلاً نزلت هذه ثم هذه؟ أو يقال: إن الله تحداهم، تارة تحداهم أن يأتوا بمثله، وتارة بعشر سور، وتارة بسورة دون تقيد بهذا التدرج بالنسبة للزمان؟، والله تعالى أعلم.
وذكر العلماء وجوهاً من إعجازه منها أسلوبه وبلاغته وبيانه وفصاحته، وحسن تأليفه..
الكلام السابق هو يرجع إلى قضية الإعجاز اللغوي، بما فيه من فصاحة وبلاغة أعجزت الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بمثله، وذكر نوعاً آخر وهو إخباره عن المغيبات، فهذا إعجاز، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:3] وتحقق هذا.
قال: "والروعة في قلوب السامعين غير ذلك"، يعني: بمعنى أن القرآن يأسر من سمعه، إذا نظرت إلى تأثيره، إن نظرت إلى ما فيه من التشريع الذي لا يزال يبهر ويعترف كبار أساتذة القانون في العالم بأنه لا يوجد كتاب مثل هذا الكتاب، وبعض الغربيين يقول: إن القرآن هو الذي انتصر، وإن الإنجيل فيه مختلقات، إلى آخر ما ذكر، فيقول: محاه القرآن، محا هذا الإنجيل المحرف، وإن القرآن هو الذي انتصر، وذكرت لكم في بعض المناسبات من قبل الكندي الفيلسوف المعروف لما قال له تلامذته ومريدوه: نريد شيئاً مثل هذا القرآن، فجلس أياماً في بيته ثم خرج إليهم، فقال: فتحت المصحف فنظرت في سورة المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ [المائدة:1]، يقول: أمر وأجمل ثم استثنى غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ثم حكم، وذكر أشياء، وقال: هذا كله في آية واحدة، هذا لا يمكن أن يؤتى بمثله.
هذا فيلسوف كبير، الكندي، ولا زال كل منصف يقول مثل هذا الكلام، تجد بعض كبار فلاسفة الغرب المعاصرين يذكر عن نفسه بأن مكتبته تحوي ملفات كثيرة جدًّا قرأ كثيراً منها مرة واحدة، يقول: وكثير منها للديكور ما قرأته، يقول: ولكن الكتاب الذي أقرؤه دائماً وأعيده هو القرآن، كتاب محمد، الرجل ما هو مسلم، هذا القرآن، هؤلاء أعاجم ومع ذلك ينبهرون حينما يقرءون فتأخذهم روعته وما فيه من تشريع وفصاحة وبلاغة وإخبار عن المغيبات، إلى غير ذلك من أنواع الإعجاز.
يقول: "حتى قال الوليد: إن لقوله لحلاوة"، حلاوة بمعنى أنه يُعجب من سمعه ويستهويه، وقال: إنه لمثمر أعلاه، يعني: يجتنيه من وُفق لذلك، مغدق أسفله، أي خصب عذب، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، يعلو على غيره من الكلام، وإنه ليحطم ما تحته.
ومن تأمل حسنه وبديعه وبيانه ووجوه مخاطباته علم أنه معجز من وجوه كثيرة.
هو هذا، لا يختص الإعجاز باللغة، الإعجاز اللغوي فقط.
الأمثال:
أمثال القرآن من أعظم علمه، وعده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته، ضربها الله تذكيراً ووعظاً، وهي تُصور المعاني بصورة الأشخاص.
لا شك أن الأمثال من أعظم علم القرآن، كيف لا والله يقول: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]؟، لكن ما المراد بالمثل؟، تكلمت على هذا في رمضان طويلاً، وذكرت كلام أهل العلم، فمن أهل العلم من يرى كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وكلامه أجود ما وقفت عليه في هذا الباب مع كثرة التتبع- أن المثل يرجع إلى معنى الشبه، له تعلق بمعنى الشبه في الأصل، راجع إليه، فهو يرى أن القضية تتعلق بالاعتبار، وأن أمثال القرآن تُضرب للاتعاظ[21]، على اختلاف أنواع الأمثال كما سيأتي.
وابن القيم -رحمه الله- وبعض أهل العلم يقولون: المثل هو تشبيه شيء بشيء في حكمه، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17]، وتقريب المعقول من المحسوس، كحال المنافق مع حال الذي استوقد النار، انتفع بها مدة حقن دمه وأحرز ماله وبعد ذلك انطفأت، ذهب نورها، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] وبقيت حرارتها وإحراقها ودخانها، يقول: "تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر"[22]، هذا كلام ابن القيم.
وبعضهم يقول: إنه يرجع إلى الشبه، يطلق على الشبه وعلى الصفة، فإن ذُكر المماثل فهو بمعنى الشبه مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] وإلا فالمراد به الصفة مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ [محمد:15] ولم يذكر المماثل، ولهذا بعض أهل العلم يقول: إن هذه الآية بمعنى الصفة، صفة الجنة.
وبعضهم يمنع هذا، ويقول: لا يأتي المثل بمعنى الصفة، ولكنه يجيب عن ذلك بنوع من التكلف.
وبعضهم يقول: هو إبراز المعنى في صورة حسية تكسبه روعة وجمالاً، هذا يرجع إلى كلام ابن القيم، ولكن ليس كل الأمثال عند التأمل هكذا، الأمثال في القرآن أنواع -كما سيأتي، فالأمر يحتاج إلى مزيد من التأمل.
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يذكر أن الأمثال المضروبة للمعاني على نوعين[23]:
الأول: الأمثال المعينة.
والثاني: الأمثال المطلقة، المعينة ما المراد بها عنده؟ هي التي يقاس فيها الفرع بأصل معين موجود أو مقدر، يقول: هذه في القرآن تبلغ بضعاً وأربعين مثلاً، كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17]، وبعض المواضع يذكر تعالى الأصل المعتبر ليستفاد حكم الفرع منه بغير تصريح بذكر الفرع كقوله: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266]، فهنا ما ذكر ممثَّلا وممثَّلا به، ما هو الأصل وما هو الفرع، ولكن ذلك يعتبر ويحتاج إلى تدبر، فيكون هذا مثل: حال الإنسان حينما يذهب عنه ما أمّله وعمله وبناه مدة العمر، ولكنه أفسده إما بالإشراك، وفساد القصد، ونحو ذلك، مثل: هذا الإنسان الذي عنده هذه المزرعة طول عمره وهو يغرس ويزرع فيها حتى وصل إلى حال الضعف وكبر السن وعنده ذرية ضعفاء أحوج ما يكونون إلى غلتها، ثم جاءها إعصار فيه نار فاحترقت، وهكذا يفعل الشرك بأعمال الإنسان، هنا ما ذكر هذا، لكنه ذكر هذا الأصل، فالفرع الداخل تحته يُدرَك بالتدبر ويُفهم، فهذه هي الأمثال المعينة.
النوع الثاني: وهي الأمثال الكلية عند شيخ الإسلام ابن تيمية-حمه الله، مثلاً في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، الآن أين الممثَّل وأين الممثَّل به؟ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا، وهذا يحتاج إلى تأمل وتدبر، ليس هذا كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17]، فتتنوع.
تأمل قوله تعالى مثلاً: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ [الرعد:17]، هذا مثل ثانٍ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد:17]، هنا قال: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [الرعد:17] فبين المراد، الحق والباطل، الباطل زبد.
فخلاصة كلام شيخ الإسلام أنه يرى أن المثل هو كل ما ذكره الله للاعتبار والاتعاظ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل:112]، أين الممثَّل والممثَّل به؟.
يرجع الإنسان إلى حال الواقع الذي هو فيه مثلاً من تقصير، من ذنوب، من معصية، من كذا، ويخاف أن يقع له مثل ذلك، ولهذا يقول: قصص الأمم المهلَكة داخلة في الأمثال، لماذا داخلة في الأمثال؟ يقول: لأن الله ذكرها للاعتبار والاتعاظ[24]، وسماها مثُلات، سمى العقوبات مثُلات؛ لأن ذلك يمكن أن يقع لمن عمل عملهم، وأن يصير إلى حالهم، فشيخ الإسلام يرى أن كل هذه الأمور المذكورة للاتعاظ والاعتبار سواء ذكر فيها لفظ المثل، أو التشبيه بالكاف: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة:19]، أم لم يذكر فيها هذا ولا هذا، كل هذا من قبيل الأمثال عند شيخ الإسلام.
وهذا عند التأمل هو الذي ينحل به الإشكال؛ لأنك إذا قلت مثلاً: هو إبراز المعنى المعقول بصورة المحسوس، هذا يصدق على بعض الأمثال مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] لكن توجد بعض الأمثال ما فيها إبراز معقول بمحسوس، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً [النحل:112]، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ [الكهف:32] ذكر قصته وأنها مثل، ليحصل الاتعاظ، بمعنى يرجع إلى نفسه، فلا يكفر بنعمة الله -تبارك وتعالى- عليه.
الشيء الذي نحتاج أن نعلمه هو أن ما يتبادر إلى ذهنك حينما يقال: المثل من أنه قول ضُرب في مناسبة معينة ثم صار محكيًّا سائراً أن هذا لم يرد في القرآن، وأن القرآن ينزه عنه؛ لأن الناس إذا ذكرت أمثال القرآن مباشرة يتجه ذهنه إلى المثل عند الأدباء في اصطلاحهم، وهو قولهم: محكي سائر يقصد به تشبيه حال الذي حُكي فيه بحال الذي قيل لأجله، تقول: "على نفسها جنت براقش"، قيلت في مناسبة معينة، فتُذكر فيما يناسبها من الحوادث والوقائع، تقول مثلاً: "الصيفَ ضيّعتِ اللبن"، تقولها في مناسبات معينة، هي قيلت في مناسبة، فتقال فيما يصلح لذلك، فهذا غير موجود في القرآن؛ لأن الله أجلّ وأعظم من أن يتمثل بقول قاله أعرابي أو أحد من الناس في مناسبة من المناسبات، ثم صار الناس يرددونه على ألسنتهم في كل ما شابهه من المناسبات ويتمثلون به، الله أجلّ من أن يتمثل بكلام أحد من خلقه.
فهذه الأمثال بهذا المعنى غير موجودة في القرآن، مع أن كثيرًا من الناس يتبادر إلى ذهنه من المثل هذا المعنى المشهور، هذا الذي صُنفت فيه كتب الأمثال عند الأدباء، يذكر المثل ويذكر القصة والمناسبة التي قيلت فيه، هذا غير موجود في القرآن، فهذا نوع، وعند البيانيين يطلقونه على المجاز المركب الذي علاقته المشابهة حتى فشا استعماله، بهذا الشرط، تقول لواحد متردد: ما لي أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، مع أنه لا يوجد تقديم رجل ولا تأخير أخرى، لكن هذا مجاز عندهم مركب، فهذا غير موجود في القرآن، لكن الأمثال الموجودة في القرآن يذكرون لها ثلاثة أنواع:
النوع الأول: يسمونها الأمثال المصرِّحة، صرحت بأداة التشبيه، أو بلفظ المثل مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا.
والنوع الثاني: الذي يسمونه بالأمثال الكامنة، يعني: لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ [البقرة:68]، هذا فيه معنى مثل معروف ما هو؟، "خير الأمور الوسط".
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29] هذا فيه مثل يوافقه "خير الأمور الوسط"، هذه يسمونها الأمثال الكامنة.
النوع الثالث: الأمثال المرسلة وهي عبارة أو جملة قرآنية صارت تستعمل استعمال المثل، مثل: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43] صار الناس يستعملونها في كل مناسبة تصلح لهذا، يسمونها الأمثال المرسلة، لكن الأمثال التي قال الله فيها: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] لا ينطبق عليها الثاني ولا الثالث، لا ينطبق عليها هذا، ولا هذا.
- انظر: مجموع الفتاوى (17/ 417).
- انظر: المصدر السابق.
- أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب من زار قومًا فقال عندهم، برقم (6282)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الغزو في البحر، برقم (1912).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، برقم (5232)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، برقم (2172).
- أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (5601)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (7436)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5425).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب صلاة النساء خلف الرجال، برقم (870).
- أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول، والمسابقة إليها، وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام، برقم (440)، وبرقم (441)، كتاب الصلاة، باب أمر النساء المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رءوسهن من السجود، حتى يرفع الرجال.
- أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، برقم (1683)، ولفظه: (خير مساجد النساء قعر بيوتهن)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3327).
- أخرجه الترمذي، أبواب الرضاع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات، برقم (1173)، وابن خزيمة في صحيحه، برقم (1685)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6690).
- انظر: تفسير ابن كثير، ت سلامة (2/ 10)، وإعراب القرآن للنحاس (1/ 144)، والإتقان في علوم القرآن (3/ 13).
- انظر: تفسير البغوي (2/ 10)، واللباب في علوم الكتاب (5/ 40)، وتفسير ابن المنذر (1/ 132).
- انظر: أحكام أهل الذمة (2/ 650).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود، برقم (817)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484).
- أخرجه البخاري، كتاب الحيل، باب في الهبة والشفعة، برقم (6977).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الشريك من شريكه، برقم (2213).
- أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، برقم (2083)، والترمذي، أبواب النكاح عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، برقم (1102)، وأحمد في المسند، برقم (24372)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2709).
- انظر: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 302).
- انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص:285)، ونونية ابن القيم (ص:237).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الشجاعة في الحرب والجبن، برقم (2820)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في شجاعة النبي ﷺ وتقدمه للحرب، برقم (2307).
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2485)، وابن ماجه، أبواب الأطعمة، باب إطعام الطعام، برقم (3251)، وأحمد في المسند، برقم (23784)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (569).
- انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/ 444-445).
- انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 116).
- انظر: مجموع الفتاوى (14/ 56-58).
- انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 102).