الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
(1) مقدمات في فن القواعد الفقهية -الفرق بين القواعد الفقهية و الأصولية
تاريخ النشر: ٠٤ / ذو القعدة / ١٤٣١
التحميل: 3246
مرات الإستماع: 6153

 بسم الله الرحمن الرحيم

القواعد الفقهية لابن سعدي

مقدمات في فن القواعد الفقهية: الفرق بين القواعد الفقهية والأصولية

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، حياكم الله في هذا المجلس، وأسأل الله أن يبارك لنا ولكم فيما نسمع، وأن يجعل أعمالنا خاصة لوجهه، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

 في مطلع هذا الدرس سأذكر بعض المقدمات بين يدي دراسة هذا الكتاب، وهذه المقدمات تتعلق بنبذة مختصرة عن فن القواعد، بحيث إن الإنسان يتصور هذا العلم، ويعرف حقيقته، وبعض ما يتعلق به، ولذلك سأذكر -بإذن الله تسع قضايا، ثم أرجو أن ييسر الله بعد ذلك فأشرح عشرة أبيات من هذه المنظومة المختصرة.

أما القضايا التسع فهي:

أولاً: في بيان معنى القواعد.

ثانياً: في ذلك بعض الفروقات، ما الفرق بين القاعدة وبين الضابط مثلاً؟.

ما الفرق بين القواعد وبين الفروق مثلاً؟

ما الفرق بين القواعد وبين التقاسيم؟

فنلاحظ أن كتاباً من كتب هذا العالم يذكر القواعد والفروق والتقاسيم، ما معنى الفروق والتقاسيم؟، ما الفرق بين القواعد والأشباه والنظائر مثلاً؟.

 ولعلي أتعرض لبعض ذلك بما يتلاءم مع شرح هذا الكتاب من غير إطالة ولا توسع -بإذن الله تبارك وتعالى.

 ما الفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية؟.

 ثالثاً: نشأة هذا العلم، متى نشأ؟ متى عُرف؟ متى أُلف فيه؟ متى ذكر أول تعريف له في الكتب بحسب ما وقفنا عليه؟

رابعاً: ما هي أهميته؟ لماذا ندرس هذا العلم؟ هل هو من العلوم المهمة أو من العلوم المكملة، من متممات العلوم أو من ملح العلوم؟ متى يدرس؟ هل يدرس في البداية أو يدرس في النهاية؟ نحن نسمع أحياناً أن علم القواعد لا يدرس إلا بعد دراسة الفقه برمته هل هذا صحيح بإطلاق، أو أنه يدرس قبل ذلك، أو فيه تفصيل؟

خامساً: طرق العلماء في التأليف، المؤلفات في القواعد كثيرة جدًّا، هل هي على طريقة واحدة، صبة واحدة، أو أنها تختلف في طريقتها؟

سادساً: في أنواع القواعد، هل كل شيء يقال له: قاعدة يساوي غيره تماماً من القواعد في شموليته، ودقته، والتسليم به؟ أو أن القواعد تتفاوت منها ما هو شامل، منها ما فيه خلاف في أصله، منها ما فيه خلاف في كثير من تفاصيله، وهكذا في قضايا متنوعة.

سابعاً: في طريقة صياغة القواعد، ما هي طريقة العلماء في صياغة القواعد؟، منهم من يصوغ القاعدة في نصف سطر، ومنهم يصوغ القاعدة في أربع صفحات.

ثامناً: نماذج من المؤلفات في القواعد في كل مذهب من المذاهب.

تاسعاً: توصيف هذا الكتاب، ما هو هذا الكتاب؟ ما الذي يشتمل عليه؟ ما حقيقة هذه الأشياء التي اشتمل عليها؟ ما قيمتها؟ ما الفرق بينه وبين الكتاب الآخر للمؤلف؟ المؤلف له كتاب آخر ما الفرق بين الكتابين؟ نحن في كثير من الأحيان نرى عناوين الكتب ولا نتبصر بمحتواها، ولا شك أن هذا تقصير يقع فيه طالب العلم، فيبقى الأمر بالنسبة إليه غامضاً مبهماً، فيحتاج إلى كشف.

ففي هذه المقدمة نشرح عشرة أبيات، وهي أبيات المقدمة التي قدم بها المؤلف -رحمه الله تعالى.

أولاً: تعريف القواعد الفقهية:

القاعدة: هذه الكلمة تُشعر بمعنى الثبوت، كل معنى من المعاني التي يذكرها أهل اللغة: القواعد من النساء، قاعدة البناء، قواعد السحاب، قواعد الهودج، وما إلى ذلك، كل هذه المعاني التي يذكرونها إذا تأملتها تجد أنها تُشعر بهذا المعنى وهو الثبوت، وهو معنى صحيح في القواعد.

فالقاعدة تطلق على الأساس والأصل الذي يبنى عليه غيره، سواء كان حسيًّا أم معنويًّا.

أما الحسي فمثل هذا العمود على أي شيء يقوم؟ لابد أنه يقوم على قاعدة، وإذا كان العمود يقوم على قاعدة فهذا يعني الثبوت، ولو كان البنيان لا يقوم على قواعد فمعنى ذلك أنه بنيان هش غير ثابت، يمكن أن يسقط في أي لحظة.

فإذن القواعد جمع: قاعدة، وهي التي يبنى عليها غيرها في الأمور الحسية، كقاعدة البناء، وفي الأمور المعنوية كقاعدة العلم، أو قاعدة الباب، أو القاعدة الفقهية العامة مثلاً، فقاعدة: "الأمور بمقاصدها"، تشمل جزئيات وأحكامًا فرعية كثيرة جدًّا تدخل في كل باب.

 

القواعد جمع: قاعدة، وهي التي يبنى عليها غيرها في الأمور الحسية، كقاعدة البناء، وفي الأمور المعنوية كقاعدة العلم، أو قاعدة الباب، أو القاعدة الفقهية العامة مثلاً، فقاعدة: "الأمور بمقاصدها"، تشمل جزئيات وأحكامًا فرعية كثيرة جدًّا تدخل في كل باب.

 

"الأمور بمقاصدها" نريد أن نؤسس، وأن نبني على هذه القاعدة بنياناً من الفروع والجزئيات، فإذا قلنا مثلاً: "التأسيس مقدم على التوكيد"، هذه قاعدة أصولية، والتي قبلها قاعدة فقهية، وسأذكر بعد قليل -إن شاء الله- الفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية، فإذا قلت: "الأمور بمقاصدها" هذه القاعدة لو جاءنا إنسان وقال: مررت بالميقات ولم أتلفظ بشيء، وأنا أريد الحج، فنسأله مباشرة: ماذا كنت تنوي بقلبك حينما عقدت الإحرام؟ وقبل ذلك نسأله: هل عقدت الإحرام بقلبك؟ لا يشترط فيه التلفظ، فإذا قال: لا، لم أعقد الإحرام، لم أقصد الدخول بالنسك، نقول له: لم تحرم بعد، وإذا قال: عقدت الإحرام ولكني لم أحدد شيئاً من الأنساك، نقول له: ماذا نويت في قلبك؟ قال: أردت أن أكون متمتعاً، أو أن أكون كرفقتي الذين معي، أن أحرم مثلهم، أنا لا أعرف أنواع الأنساك، ولكن أردت أن أكون كحال هؤلاء، فنقول له: "الأمور بمقاصدها"، (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)([1])، فأنت قد دخلت في النسك وهؤلاء متمتعون فأنت متمتع، فبنينا هذا الحكم على القاعدة، فالقاعدة تبنى عليها الأمور المعنوية والأمور الحسية، في النحو مثلاً حينما نقول: الفاعل مرفوع، هذه قاعدة، وإن شئت على التفريق كما سيأتي -إن شاء الله- بين القواعد وبين الضوابط إن شئت أن تقول: هذا من الضوابط، "الفاعل مرفوع" دائماً، ما عندنا فاعل منصوب، أو مجرور، فإذا قلنا: الفاعل مرفوع، ووجدنا جملة من الجمل "دخل سعيد داره" الفاعل سعيد، مرفوع؛ لأنه فاعل، فحفظنا القاعدة ومشينا عليها، وأنت تجد في كتب النحو في المرحلة الابتدائية، أو المتوسطة، أو في الثانوية: الموضوع، وتجد في الوسط أو في الأخير: "قاعدة"، وعليها مربع، مكتوبة بخط مميز غالباً؛ لأنك إذا حفظت هذه القاعدة استطعت أن تُجري ذلك على سائر الكلام، مما هو مشاكل له ومماثل.

فإذن هي أساس الأمور المعنوية والأمور الحسية، أصل الشجرة ما يتفرع عليها غيره، قاعدة البناء ما يقوم عليها البناء، فالأساس بمعنى الأصل، سواء كان حسيًّا أو معنويًّا.

وأما الفقه فهو الفهم، وهو معرفة الأحكام الفرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

فأقرب تعريف له: هو معرفة الأحكام العملية، هذا يخرج الأحكام غير العملية مثل العقائد الشرعية، يخرج الأشياء الأخرى التي لا تتعلق بالعبادات وأفعال المكلفين الذين تعبدهم الله بها، المكتسبة من أدلتها التفصيلية، الأدلة التفصيلية غير الأدلة الإجمالية، الأدلة الإجمالية للفقه مثل أن تقول: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وتقول مما يتفرع منها مما هو دليل أيضاً من الأدلة الإجمالية بالنسبة لما هو تحته من الجزئيات، تقول: "الأمر للوجوب"، و"النهي للتحريم" هذه لا تستنبط منها حكماً فرعيًّا إلا بواسطة، بينما الأدلة التفصيلية: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ البقرة: 43 بواسطة، يعني بواسطة هذا الدليل التفصيلي، "أقيموا الصلاة"، الصلاة واجبة، لماذا؟ بناءً على القاعدة أو الدليل الإجمالي الأصولي "الأمر للوجوب" "أقيموا الصلاة" أمر، إذن الصلاة واجبة.

"الأمر للوجوب إلا لصارف" إذا صرفه صارف من الوجوب إلى معنى آخر كالإرشاد أو الاستحباب، أو نحو ذلك.

فإذن القواعد هي: الأسس التي يقوم عليها غيرها.

وأما معنى القاعدة في الاصطلاح فتعريفات العلماء لها كثيرة جدًّا ومتقاربة، وكل من ذكر تعريفاً فإن الآخر يأتي بعده ليرد عليه، ولينتقد هذا التعريف في أمور يرى أنها زائدة في التعريف، أو أنها غير دقيقة، أو نحو ذلك مما لا حاجة للتشاغل به، المقصود أن تتصور العلم بما يقربه لك دون التمحل والتقعر والتنقير في مثل هذه الدقائق التي يمكن أن تدركها فيما بعد إن شئت بمطالعاتك ودراساتك المتخصصة بعد ذلك، لكن لا يُضيَّع بها الزمان.

فأقول: القاعدة يمكن أن نقول: هي قضية كلية، هذا ينطبق على جميع القواعد.

هل نزيد على هذا فنقول: تنطبق على جميع جزئياتها؟

إن شئت فزده وإن شئت فلا تزد؛ لأن المعنى الأول معبر، لماذا لا تزيد؟ هل يمكن أن تتوقف على قولك: هي قضية كلية؟

الجواب: نعم، لا بأس؛ لأن من شأن القضية الكلية أن تنطبق على جزئياتها وإلا كيف كانت كلية أصلاً؟ لو كانت قضية جزئية مثل: "الصلاة واجبة" ما تنطبق على كل جزئياتها، على قضية واحدة، لكن حينما تأتي في قضية كلية: "الأمور بمقاصدها"، "المشقة تجلب التيسير"، "إذا ضاق الأمر اتسع"، هذه قواعد كلية، فمعنى ذلك أنه يدخل تحتها كثير من الجزئيات؛ لأن الكلية تقابلها الجزئية، فمعنى: قضية: يعني حكمًا، وهي من العبارات التي يستعملها المناطقة بكثرة، لك أن تقول: قضية، ولك أن تقول: حكم، حكم كلي، فالحكم الكلي يقابل الحكم الجزئي، وعرفنا الفرق بينهما.

قد يقول قائل: القواعد فيها استثناءات، ولا تكاد توجد قاعدة حتى القواعد الخمس الكبرى لربما لها بعض الاستثناءات كما سيأتي في شرحها -إن شاء الله-، فإذن لماذا نقول: هي قضية كلية، وشأن القضية الكلية أنها تنطبق على جميع جزئياتها، والقواعد تنطبق على أكثر جزئياتها؟.

يكفي في القاعدة حتى تكون قاعدة أن تنطبق على ما يزيد على النصف، تشمل ستين بالمائة من الجزئيات، فإذا تفوقت قليلاً سبعين بالمائة، ثمانين بالمائة، تسعين بالمائة، لكن مائة بالمائة هذا لا يكاد يوجد إلا في مثل قواعد الحساب، وبعض القواعد العقلية، أو بعض قواعد اللغة العربية، وإلا فالقواعد في الفقه، والقواعد في التفسير، والقواعد الأصولية، وما إلى ذلك، عامة هذه القواعد لها استثناءات، إما بدليل يخرجها عنها، أو بغير دليل مما لا نعلمه، لكن نقول: هذا غير داخل في القاعدة، نحن نقول مثلاً: "الأمر للوجوب"، "الأمر للوجوب" قاعدة، وهذه القاعدة نلاحظ أن بعض الأوامر لا نحمله على الوجوب لوجود صارف، وهذا الصارف معلوم عند العلماء: مثلاً النبي -صلى الله عليه سلم- يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)([2])، هذا أمر و"الأمر للوجوب"، وجماهير أهل العلم يقولون: هذه الصلاة ليست واجبة، والصارف عندهم الأدلة الأخرى: (خمس صلوات كتبهن الله)([3]).

وكذلك الرجل الذي قال: هل عليّ غيرها؟ قال: (لا، إلا أن تطوع)([4])، هذا الرجل سأل صراحة النبي ﷺ قال: (خمس صلوات)، فمعنى ذلك أنه لا يجب عليه سوى هذه الصلوات الخمس، مع أن هذا أمر وهو صريح: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فنهاه عن الجلوس، وهذا يتضمن الأمر بضده، نهيه عن الجلوس أمر له بالصلاة من جهة التضمن أو الالتزام.

الآن هذه القواعد أغلبية، فلماذا قلنا هي: حكم كلي؟

نقول: الحكم الكلي ليس من شرطه حتى يكون كليًّا أن ينطبق على جميع الجزئيات، وإنما يكون تحته جزئياتولابد، وينطبق على أغلبها، فيكون حكماً كليًّا بهذا الاعتبار، أحياناً قد نجد قاعدة لا نجد لها إلا مثالاً واحداً في الواقع، هذه لا تصلح أن تكون قاعدة، وإن كانت عبارتها وهيئتها هيئة القواعد، لو قلت مثلاً: "الشمس تذيب الجليد" قاعدة، لكن كم عندنا من جزئياتها؟ ما يوجد غير هذا.

فالحاصل: أن هذه لا تصلح أن تكون قاعدة، لابد أن يكون لها جزئيات.

فإذن إذا كان لها جزئيات فإن ذلك يكون مسوغًا لأن نطلق عليها أنها كلية، وليس من شرطها أن تنطبق مائة بالمائة على جميع الجزئيات، وهذا المعنى شرحه الشاطبي -رحمه الله- في كتاب: "الموافقات".

هذا معنى القواعد، ومعنى الفقه.

إذن ما معنى القواعد الفقهية؟

نحن عرفنا أن القاعدة هي قضية كلية، فإذا أردنا أن نتكلم عن النحو، نقول مثلاً: هي قضية كلية نحوية، إذا كنا نذكر قواعد في البلاغة: قضايا كلية بلاغية، وإذا كنا نتكلم عن علم الحديث: قضية كلية حديثية، وإذا أردنا أن نتكلم عن قواعد الفقه: قضايا كليه فقهية، إذا فهمت هذا وصلت إلى المطلوب، وأما بقية التطويل في التعريفات والتفصيلات فقد يُستغنى عنها، لكن هذا يوصلك إلى المطلوب، والمناقشات بعد ذلك يمكن أن تدرس في غير هذا المجلس.

هذا معنى القواعد الفقهية.

إذا عرفت معنى القاعدة الفقهية يسهل عليك تصور المراد بهذا العلم، فيمكن أن نعبر عنه بأقرب طريق فنقول: علم قواعد الفقه هو العلم الذي يبحث فيه عن القضايا الفقهية الكلية من جهاتها المختلفة.

الأمر الثاني: جملة من الفروقات:

العلماء -رحمهم الله- أحياناً الواحد منهم يكتب وهو يؤلف في الفقه مثلاً أو في القواعد أو في غيره، يضع عنوانًا صغيرًا، يقول: ضابط، ثم يضع بعده جملة تشبه القاعدة.

ونلاحظ أن العلماء أحياناً يعبرون بعبارات يقولون: ضابط المشقة التي يجوز معها الفطر في رمضان هو كذا وكذا.

وأحياناً يذكرون لنا تعريفاً من التعريفات، ويعبرون عنه بالضابط، فيقول مثلاً: ضابط العصبة في الميراث، ما هو ضابط العصبة؟ متى يكون هؤلاء من العصبات؟ ومتى لا يكونون؟ ثم يذكر لنا تعريفاً للعصبة أو ما يشبه التعريف.

وأحياناً يذكر عنواناً يقول: ضابط، ثم يقول: "الماء لا يخرج عن حالين في التغير أو في غير التغير، يقول: الماء لا يخلو إما أن يتغير أو لا يتغير، إما أن يكون متغيراً أو غير متغير، والمتغير لا يخلو إما أن تغيره النجاسة، وإما أن يتغير بطاهر، وما تغير بنجاسة لا يخلو مثلاً، ويذكر أشياء وتفاصيل.

والآخر: الماء الذي تغير بطاهر، يقول: لا يخلو إما أن يغلب عليه فيغير اسمه، فيقال له مثلاً: مرق، عصير، أو يبقى له الاسم لكن من غير إطلاق، يعني مع التقييد، تقول: ماء ورد، فمثل هذه التي يُعنون لها العالم بضابط، ويضع لنا تقسيمات.

لاحظنا الآن في هذه الأحوال الأربعة أن الضابط قد استعمل استعمالات متنوعة.

وأحياناً يقول: ضابط، ويجعل قاعدة من القواعد إما كبيرة، مثل: "المشقة تجلب التيسير"، أو يجعل قاعدة صغيرة تتعلق بباب واحد من أبواب العلم، يقول: ضابط، ثم يذكر لنا قاعدة في باب الطلاق، أو النكاح، أو باب الأطعمة مثلاً، أو نحو ذلك، حينما يقول مثلاً: ضابط أو قاعدة، ثم يقول: "الأصل في الذبائح المنع" هل هذه تدخل في جميع أبواب الفقه أو تدخل فقط في باب الذبائح من الأطعمة؟، تدخل في باب الذبائح من الأطعمة.

فالأصل في الذبائح المنع، هل هذه قاعدة أو أنها ضابط؟

قبل أن أذكر الفرق بين القاعدة والضابط: هذه الاستعمالات المتنوعة للضابط التي ذكرتها قبل قليل تدلنا دلالة واضحة على أن العلماء -رحمهم الله- يستعملون الضابط باستعمالات متعددة، هذه يجب أن نفهمها ابتداءً، العلماء لا يستعملون الضابط استعمالاً واحداً، كلما رأيتَ في علوم الفقه أو القواعد أو غيرها ضابطًا تظن أنه بمعنى القاعدة، أو فيما سنذكر الفرق بينه وبين القاعدة أنه يتعلق بباب واحد، أو أبواب متعددة، لا، العلماء يذكرون كلمة: ضابط، ويستعملونها بمعنى التعريف أحياناً أو ما يقارب التعريف.

وأحياناً يذكرون لنا ضابطاً، ويذكرون لنا شيئاً من التقاسيم، مثل: ما ذكرت في المياه قبل قليل، ومثلما تقول في الأبواب المتنوعة تقول مثلاً: الطلاق سني أو بدعي، ولك أن تقول أيضاً: إن الطلاق السني له حالتان: إما أن يطلق في طهر لم يجامع فيه، أو يطلق وهي حامل.

والطلاق البدعي أن يطلق وهي حائض أو نفساء أو في طهر جامع فيه، أو أن يطلق في طهر سُبق بطلاق في حيض، المفروض أنه لا يطلق في الطهر الذي بعده، إذا طلق في حيض ينتظرها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلق، وكذلك لا يطلق أثناء العدة طلقة ثانية، في العدة طلقة واحدة.

فالحاصل: أن هذا الطلاق كله مخالف لسنة رسول الله ﷺ، ولقول الله -تعالى-: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ الطلاق:1، يعني العدة التي أمر الله بتطليق النساء بها.

فطلاق السنة على أربعة أشكال، وطلاق البدعة على أربعة أشكال، كما قال بعض أصحاب النبي -ﷺ.

فإذن بعض العلماء يقول: ضابط، ويجعل لنا تقاسيم وليست قاعدة.

فإذن هذا الإطلاق الثاني للضابط.

وبعض العلماء يطلق اللفظ: وهو ضابط على معنى القاعدة، فكثير من أهل العلم لا يفرقون بين القاعدة والضابط، ولا مشاحّة في الاصطلاح، حتى الذين فرقوا بين القواعد والضوابط أكثرهم عند التطبيق لما ألفوا وبدءوا يذكرون القواعد، ذكروا جملة من الضوابط، ذكروها من ضمن القواعد.

ويطلق الضابط بمعناه الأخص -عند من فرق بين القاعدة والضابط، وهذا الذي يعنينا هنا- على القضية الكلية التي تجمع جزئيات في باب واحد، يعني يمكن أن نعبر عنها بعبارة نقول: الضابط قاعدة صغيرة تتعلق بباب واحد، فإذا كانت تتعلق بأكثر من باب فهي قاعدة، وإذا كانت تتعلق بباب واحد مثلما تقول: "الأصل في الذبائح المنع"، أو في بعض المواريث تقول مثلاً: "كل ذكر أدلى بأنثى فإنه لا يرث إلا كذا"، وتذكر ما يستثنى في هذا مثل: ولد الأم، هذا معنى الضابط.

إذن الفرق بينه وبين القاعدة اتضح الآن، القاعدة عامة تشمل أبوابًا، والضابط في باب واحد، لما نقول مثلاً: "الأصل في الماء الطهورية ما لم يتغير أحد أوصافه بنجاسة"، هذا ضابط أو قاعدة؟، عند من لا يفرق بين القاعدة والضابط يمكن أن يقول عنه: إنه قاعدة، وعند من يفرق يكون ضابطًا يختص بباب المياه من كتاب الطهارة، لاحظتَ "الأصل في الماء الطهورية إلا إذا تغير أحد أوصافه".

وبعض أهل العلم يقول: وهذا أشبه بالفروع الفقهية، يعني لو أردنا أن نلطف العبارة قليلاً فقد لا نقول: أشبه بالفروع الفقهية، لكن نقول: هذا ضابط من الضوابط؛ لأنه يختص بباب، لأنه يدخل تحته جزئيات لكنها في باب، أو ضمن باب واحد.

هذا الفرق بين القاعدة والضابط.

هذا أهم فرق.

وهناك فروقات أخرى: أن الضوابط الخلاف قد يكون في أصلها؛ لأنها أشبه بالفرع، بينما القاعدة كبيرة جدًّا، الغالب أن أصل القاعدة يوافقون عليه لكن يختلفون في بعض فروع القاعدة، في بعض تفاصيلها فقط، لكن الضابط إذا اختلفوا فيه عادة يختلفون في أصله، هل هو صحيح أصلاً أو لا؟، فهذا فرق بين القواعد والضوابط من حيث نظر العلماء له، لا من حيث هو.  

الفرق الأول: فرق بين القاعدة والضابط من حيث حقيقته، هذا يشمل أبوابًا، وهذا يتعلق بباب واحد.

من حيث نظر العلماء له وموقفهم منه خلافهم في الضوابط يكون في أصلها غالباً، وفي القواعد في تفاصيلها وفروعها.

أيضاً الخلاف في تفاصيل الضوابط أقل منه بالنسبة للخلاف في تفاصيل القواعد؛ لأن الضابط محدود جدًّا، وكلما كان الشيء محدوداً كلما كانت نسبة الخطأ في تفاصيله أقل، بخلاف الشيء المُبرَم العام، فإنه يدخل تحته تفاصيل كثيرة جدًّا قد لا يوافَق عليها، ولهذا كان الذي يطلق الأحكام العامة غالباً ما يكون مجانبًا للدقة في التعبير، فحينما تقول مثلاً: كل الطعام حلال، يقول لك: لا، ليس كل الطعام حلالا، الخنزير حرام، والميتة حرام، والخمر حرام، والسموم حرام، وكل ذي مخلب من الطير فهو حرام، وكل ذي ناب من السباع فهو حرام، لكن قل: عامة الطعام حلال، قل: الأصل في المطعومات الحل، هذه قاعدة وهي أغلبية، لما أقول: "الأصل في المطعومات الحل"، غير لما أقول: كل مطعوم فهو حلال، "الأصل في المطعومات الحل"، يخرج عن هذا الأصل تفاصيل وجزئيات، وما إلى ذلك.

الأمر الثالث: نشأة القواعد:  

كيف نشأت القواعد؟، لا شك أن القواعد كانت معروفة لدى أصحاب النبي ﷺ وهم أئمة الفقه، ومعروفة لدى التابعين وأتباع التابعين، وإن كان هذا المصطلح -القواعد- لم يستعمل إلا في الأزمنة المتأخرة، لكنها كانت معروفة قطعاً، وإذا نظرت إلى أقاويل الصحابة كعمر تجد جملاً متنوعة هي قواعد، بل أحاديث النبي ﷺ لما يقول: (الخراج بالضمان)([5])، قاعدة، (إنما الأعمال بالنيات)([6])، قاعدة، بل هي أكبر قاعدة وأجل قاعدة.

وهناك جملة من الأدلة من أقوال النبي ﷺ تمثل قواعد قد تستعمل بلفظها وقد يعبر عنها بعبارات، لكن المضمون هو حديث رسول الله -ﷺ.

بل حتى الآيات القرآنية الله حينما يأمرنا: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ النحل: 90 ارجع إلى أقوال المفسرين كالقرطبي -رحمه الله- وانظر كيف يتكلم عن هذه الآية، وما تضمنته من القواعد العامة للشريعة في باب المأمورات، وباب المنهيات.

وقل مثل ذلك في أقوال السلف القاضي شريح، الشعبي، وجماعة من فقهاء التابعين، تجد عبارات تستعمل إلى اليوم استعمال القواعد، بل هي قواعد، ولربما يغير في لفظها بعض الشيء.

فإذن القواعد لا شك أنها كانت مدركة لدى أصحاب النبي ﷺ ولدى سلف الأمة، وهم أفقه الأمة، وهم أعلم الناس بذلك، لا يمكن أن يجهلوا هذه القواعد التي هي عبارة عن الأسس التي يبنى عليها الفقه.

فإذن إدراكهم للقواعد أعظم من إدراكنا، لكنهم لم يدونوا هذه العلوم لعدم حاجتهم؛ لأنها بالنسبة إليهم سليقة مثل أصول الفقه، وعلوم العربية، هل كانوا جهلة بالنحو؟ لربما لا يعرف هو مصطلحاتنا، لكن ذلك بالنسبة إليه من السليقة، لم يدونوا في أصول الفقه، ولم يتكلموا عن كثير من المصطلحات التي تكلم عليها من جاء بعدهم، ولكن أصول الفقه الحقيقية كانت سليقة، وكانت حاضرة في أذهانهم، وهم أعلم الناس بهذه الأشياء، لكن لسلامة فطرهم وأفهامهم وأذهانهم لم يحتاجوا إلى تدوين هذه الأشياء، إنما احتاج إليها الناس بعد ذلك، فالفروع كثيرة جدًّا ومنتشرة، فاحتاج الناس بعد ذلك إلى معرفة القواعد للمّ شعث الفروع والجزئيات، الجزئيات لا يستطيع أحد أن يحيط بها، ولهذا تجد أمثال أبي عبيد، القاسم بن سلام، وجماعة، يصرحون أن حفظ الجزئيات أمر غير ممكن إطلاقاً، ولكن الشأن هو أن يحفظ الإنسان الكليات والقواعد، بل إن بعض أهل العلم يصرح يقول: إذا كان الأمر قد ضاق عليك يا طالب العلم وما وجدت إلا دراسة الفروع أو القواعد فادرس القواعد؛ لأنها تجمع لك شتات الفروع.

لكن متى بدأ جمع القواعد الفقهية؟ من أول من جمعها؟

قبل التأليف فيها بقليل كان هناك رجل من علماء الأحناف في القرن الرابع الهجري يجلس في المسجد بعد صلاة العشاء وهو أعمى، ثم يغلق باب المسجد ويردد جملة من القواعد الفقهية جمعها، وهذا أمر لا يُعوز طالب العلم جمْع القواعد من الكتب المتناثرة من عبارات السلف، فهذا جمع نحواً من ثلاثين قاعدة، وصار يرددها في كل يوم بعد العشاء في المسجد وهو أعمى، ويغلق الباب لا يسمعها أحد، ثم بعد ذلك تسامع الناس أن هذا الرجل عنده جملة من القواعد يرددها بصوت مسموع بعد العشاء في المسجد، فجاء أحد الأشخاص ودخل في حصير من حصر المسجد، فلما شعر ذلك العالم الحنفي أن الناس قد خرجوا، وأقفل الباب بدأ كعادته يردد القواعد، وهذا يسمع، فسمع سبع عشرة قاعدة، ثم أخذته سعلة، كحّ، فسمعه وجاءه وضربه، وطرده من المسجد، ما سمع سوى هذه القواعد سبع عشرة قاعدة، وذهب وأخبر عنها، وفاته الباقي.

فجاء رجل من العلماء -علماء الحنفية-، يقال له: "حسين المروزي"، متوفى سنة اثنتين وستين وأربعمائة، فجمع جملة من القواعد الفقهية.

وأيضاً هناك من جمع في هذا أشياء قبله، وهو "أبو الحسن الكرخي" أيضاً من الحنفية، متوفى سنة أربعين وثلاثمائة، فألف أول كتاب في القواعد الفقهية، وهو المعروف بـ"أصول الكرخي"، ثم تتابع التأليف، وكثر جدًّا في كل المذاهب، كما سألمح بعد قليل -إن شاء الله.

أما القواعد الخمس الكبرى فأول من يعرف بالتأليف فيها: "العلائي"، والعلائي متأخر معاصر لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله.

وأما من ألف في القواعد الفقهية تحت مسمى: "الأشباه والنظائر" فأول من عرف بهذا ابن الوكيل.

رابعا: أهمية القواعد:

القواعد تجمع لك الجزئيات بعبارة مختصرة، حينما تحفظ قاعدة في الفقه، أو في أصول الفقه، أو في غيره، أو في التفسير: "التأسيس مقدم على التوكيد"، ثم تأتي وتطبق على الأدلة، هذه قاعدة أصولية تفسيرية، فإذا جاءت عبارة في التفسير مثلاً: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الحشر:24، الْخَالِقُ الْبَارِئُ هل هما بمعنى واحد؟ إذا أعملت قاعدة: "التأسيس مقدم على التوكيد"، تقول: الْخَالِقُ هو المقدر، والْبَارِئُ هو المنشئ للخلق، قدر ثم أنشأ وأوجد.

كما يقول القائل يمدح ملِكًا:

ولأنتَ تَفْرِي ما خلقتَ وبعْ *** ضُ القومِ يخلُق ثم لا يفري([7]).

ولأنت تفري ما خلقتَ يعني ما قدّرت، وبعضُ القومِ يخلق يعني يقدر، ثم لا يفري، لا يستطيع أن ينفذ، ملك من الملوك يخطط وآخر يخطط، هذا يخطط وينفذ، وهذا يخطط ولا يستطيع أن ينفذ.

فإذن القواعد هي عبارات قصيرة جدًّا محكمة تجمع لك شتات الفروع، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة؟، حينما تحفظ قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، فأتاك إنسان وقال: عنده سلس في البول، ولا يستطيع أن يجلس دقيقتين دون أن يخرج منه هذا البول، فماذا نقول له؟

نقول: صلِّ على حالك؛ لأن "المشقة تجلب التيسير".

إنسان مهنته صباغ، كله صبغ، نقول له: أزل هذا الصبغ قبل الصلاة؛ لأنه يمنع من وصول الماء، سيقول لك: تبقى نقط كثيرة بين الأصابع وبين الأظافر وفي اللحم، لا أستطيع، ماذا نقول له؟

نقول له: "المشقة تجلب التيسير"، أزل ما تستطيع وتتمكن من إزالته، والباقي مغتفر.

التحرز من النجاسات بالنسبة للمرأة المرضع يصعب عليها كل صلاة، تحتاج أن تغير الثياب، نقول لها: تحرِّي الطهارة، واغسلي ما غلب على ظنك أن النجاسة قد وقعت عليه، ولكن يغتفر من هذا ما يغتفر مما يصعب التحرز منه.

الكلّابون، الذين يربون الكلاب للصيد أو الحراسة أو لغيرها من الأغراض المعتبرة شرعاً: حراسة، وصيد، ويلحق بها الآن قضايا تتعلق بالأمن، وما أشبه ذلك، ومعرفة المخدرات.

فهؤلاء ممن يدربون الكلاب، ويعيشون معها، ويدربونها، صياد، أو نحو ذلك، الكلب طول وقته يدور حوله، وحول إنائه، وحول راحلته، وحول متاعه، وأثاثه ولباسه، وكل شيء، ماذا يصنع؟ كلما أراد أن يصلي يغسل ثيابه وآنيته ويغسل بدنه، ويغتسل، وهو في الصحراء، لا يستطيع، فمثل هؤلاء يغتفر لهم ما لا يغتفر لغيرهم ممن مر في الطريق لربما لأول مرة يشاهد كلبًا في حياته، فجاء هذا الكلب ولربما أصابه شيء من لعابه، أو أصابه شيء من رشاش بوله، أو نحو ذلك، فرق بين هذا وهذا، "المشقة تجلب التيسير"، و"إذا ضاق الأمر اتسع"، فالقواعد تجمع الفروع الكثيرة، تستطيع أن تطبقها على كل مثال يرِد عليك.

العلماء لهم عبارات كثيرة جدًّا في بيان أهمية القواعد؛ اخترت منها أربع عبارات:

العبارة الأولى لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول فيها: "لابد من أن يكون مع الإنسان أصول كلية تردّ إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم" ذكره في الفتاوى الجزء التاسع عشر صفحة ٢٠٣.

العبارة الثانية للزركشي، صاحب كتاب: "المنثور في القواعد"، يقول: "إن ضبط الأمور المنتشرة المتعددة في القوانين المتحدة هو أوعى لحفظها، وأدعى لضبطها، وهي إحدى حِكم العَدد التي وضع لأجلها"([8])، تقول: جاءني عشرة، بدلا من أن تقول: جاءني زيد ومحمد وصالح وخالد وسعيد، وعبد الرحمن، "حِكم العَدد"، بدلا من أن تقول: هذا، وهذا، وهذا، وهذا، وهذا، وهذا، تقول: يأتني منكم عشرة.

يقول: "والحكيم إذا أراد التعليم لابد أن يجمع بين بيانين: إجمالي تتشوف إليه النفس.."([9]).

إجمالي: معناه أنه يذكر قضية مجملة كلية، فتتطلع النفوس إلى شرحها وتفصيلها وبيانها، ثم بعد ذلك يبدأ يفصلها، "وتفصيلي تسكن إليه".

العبارة الثالثة للشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- وهو صاحب الكتاب الذي نشرحه، يقول في معرض كلامه على كتب شيخ الإسلام في كتاب حافل جيد اسمه: "طريق الوصول إلى العلم المأمول في معرفة القواعد والضوابط والأصول" جمعه من عشرات الكتب من كلام شيخ الإسلام ومن كلام ابن القيم -رحمه الله-: "ومن أعظم ما فاقت به غيرها" -يعني كتب شيخ الإسلام- "وأهمِّه، وتفردت على سواها أن مؤلفها -رحمه الله- يعتني غاية الاعتناء بالتنبيه على القواعد الكلية، والأصول الجامعة، والضوابط المحيطة في كل فن من الفنون التي تكلم بها"([10]).

ثم يقول: "ومعلوم أن الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان، والأصول للأشجار، لا ثبات لها إلا بها، والأصول تبنى عليها الفروع، والفروع تثبت وتتقوى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى وينمى نماء مطرداً، وبها تعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه به كثيراً"([11]).

العبارة الأخيرة وهي للشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في كتاب: "الرياض الناضرة"، وهو ضمن المجموعة الكاملة أيضاً الجزء الأول صفحة ٥٢٢ يقول: "من محاسن الشريعة وكمالها وجمالها وجلالها: أن أحكامها الأصولية والفروعية والعبادات والمعاملات، وأمورها كلها لها أصول وقواعد تضبط أحكامها، وتجمع متفرقاتها، وتنشر فروعها، وتردها إلى أصولها، فهي مبنية على الحكمة والصلاح"، إلى آخر ما ذكر.

هذه أربع عبارات للعلماء -رحمهم الله- في بيان أهمية القواعد، والكلام في أهمية القواعد يمكن أن يزاد عليه أشياء كثيرة، يقال: معرفة القواعد تنمي الملكة، وهي أيضاً تضبط فهم الإنسان بحيث لا يتشتت، ولا يتناقض، في هذه القضية يقول: هذا الحكم يجوز، وأخرى نظيرة لها في باب آخر يقول عنها: إنها لا تجوز، مع أن القضية متحدة، فإذا ضبط القاعدة كان ذلك أدعى لاتحاد الحكم، وعدم التناقض، فتكون أحكامه مطردة.

فهذه أبرز الفوائد التي تذكر في القواعد.

خامساً: طرق العلماء -رحمهم الله- في التأليف في القواعد:

إذا تتبعنا كتب القواعد نجد أن العلماء لا يؤلفون على طريقة متحدة.

الطريقة الأولى: أن يرتب على طريقة الترتيب الهجائي، على حروف المعجم، ينظر الحرف الذي تبدأ فيه القاعدة ويضعها، بغض النظر هذه تتعلق بباب معين إذا كان يذكر الضوابط أو لا يفرق، وهذه عامة، وهذه بخلافها، فهو بحسب الحرف الذي تبدأ به هذه القاعدة، وممن مشى على هذا الزركشي في كتاب: "المنثور في القواعد" رتبها على الحروف، وكذلك أبو سعيد الخادمي في "مجمع الحقائق"، وكذلك البركتي من علماء بنجلاديش له كتاب اسمه: "القواعد الفقهية"، رتبوا هذه الكتب على الحروف.

الطريقة الثانية: أن ترتب على الأبواب الفقهية، هذا إذا كانت أشبه بالضوابط، وإلا هناك ستواجهنا إشكالات في القواعد العامة؛ لأنها يصعب أن تحصر في باب معين، مثل قاعدة: "الأمور بمقاصدها" تدخل في جميع الأبواب، فأين توضع؟ فآفة هذه الطريقة أنها تفوت على الإنسان القاعدة في الأبواب الأخرى، فعلم القواعد لا يصلح أن يُجعل على الأبواب.

ومن العلماء الذين ألفوا بهذه الطريقة المَقَّرِي في كتابه: "القواعد"، وهو من علماء المالكية، وكذلك كتاب:  القرافي في الفروق، رتبه بعض علماء المالكية، وكذلك الشيخ عظُّوم في: "المسند المُذهب في ضبط قواعد المذهب"، وكذلك محمود حمزة في: "الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية"، وكذلك البكري في كتاب: "الاستغناء في الفَرق والاستثناء"، وابن خطيب الدهشة في: "مختصر من قواعد العلائي وكلام الأسنوي".

الطريقة الثالثة: أن يؤلف كيفما اتفق من غير مراعاة للترتيب، وممن ألف بهذه الطريقة ابن رجب -رحمه الله- في كتاب: "القواعد الفقهية"، والوَنشريسي في كتاب: "إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك"، وكذلك ابن عبد الهادي في كتاب: "مغني ذوي الأفهام".

الطريقة الرابعة: هي أن يرتب باعتبارات أخرى؛ مثل: شمولية القاعدة، وكثرة الاتفاق والاختلاف فيها، فيراعي هذه الأمور، فيقسم الكتاب بناءً عليها، فبعضهم يجعل الكتاب ثلاثة أقسام:

القسم الأول: قواعد كلية يرجع إليها أغلب المسائل في أبواب مختلفة؛ مثل قاعدة: "الأمور بمقاصدها".

القسم الثاني: قواعد كلية ترجع إليها بعض الأبواب، تتعلق ببابين أو ثلاثة، أو نحو هذا.

القسم الثالث: قواعد خلافية، هذه في كثير من الأحيان يجعلونها مبدوءة بالاستفهام: هل؟ لأنها غير مجزوم بها؛ لكثرة الخلاف فيها.

وممن ألف على هذه الطريقة بهذا التقسيم: التاج السبكي في كتاب: "الأشباه والنظائر"، والسيوطي في: "الأشباه والنظائر"، وابن نجيم أيضاً في كتاب: "الأشباه والنظائر"، وإن كان بعضهم لم يذكر بعض هذه الأقسام، لكن عموماً راعوا هذه الطريقة في الجملة.

هذه أربع طرق في تأليف العلماء في القواعد.

سادساً: أنواع القواعد:

القواعد يمكن أن نجعلها على أنواع بالنظر إلى ناحيتين: من ناحية شمولية القاعدة للأبواب، فنقول: هناك قواعد تتعلق بأبواب كثيرة، أو بجميع الأبواب، وهناك قواعد تتعلق بباب واحد، هذه التي يسمونها بـ"الضابط".

الناحية الثانية التي تلاحظ في القواعد هي: الاتفاق والخلاف، هناك قواعد يكاد الناس يتفقون عليها، مثل قاعدة: "الأمور بمقاصدها"، "المشقة تجلب التيسير"، وهناك قواعد يكثر الخلاف في أصلها، أو في فروعها، فضلاً عن جزئياتها، القاعدة أحياناً يكون لها فروع كبيرة وتحت الفروع جزئيات، وإذا نظرت في مثل كتاب ابن رجب -رحمه الله- ترى ذلك جليًّا، مثل الأمور المتداخلة التي تستوي في الـظاهر من حيث الصورة: تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع، إذا أتيت والإمام راكع تكفيك واحدة.

كفارة اليمين إذا حلفت على شيء، ثم حلفت على هذا الشيء بعد العصر أيضاً، ثم حلفت بعد العشاء قبل أن تكفر عن نفس الشيء، تقول لولدك: والله ما تسافر إلى المكان الفلاني، هذا بعد الظهر، أو ما تذهب إلى المكان الفلاني، ثم ذهب، ثم جئت اليوم الثاني وحلفت عليه على نفس الموضوع ثم ذهب، ثم جئت اليوم الثالث وحلفت عليه على نفس الموضوع ثم ذهب، تكفيك كفارة واحدة أو ما تكفيك قبل التكفير؟ قبل أن تكفر؟ تكفيك.

لكن إذا حلفت على أشياء متعددة؛ حلفت الآن على ولدك ألا يذهب إلى المكان الفلاني، وحلفت ألا تأكل من الطعام الفلاني، وحلفت على زيد أن يأكل من طعامك، وما حصل لا هذا ولا هذا ولا هذا، كم تحتاج إلى كفارة؟ هل القاعدة أن هذه الأمور المتداخلة تكفي عنها كفارة واحدة؟.

الآن (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) تحية المسجد، إذا صلى سنة الظهر هل تكفي؟

والأمور المفترقة، مثل: الطواف هو تحية البيت، إذا جاء إنسان وصلى ركعتين تكفي عنه، وإذا دخل وصلى الفرض هل يكفي عنه أو لا؟

وهكذا في أمثلة كثيرة في أبواب متعددة.

فهذه القواعد الخلاف فيها كثير، ليست كقاعدة: "الأمور بمقاصدها".

القواعد بالنسبة لشموليتها وعدم شموليتها منها ما يتعلق بجميع الأبواب أو أكثر الأبواب، ومنها ما يتصل بباب واحد وهو ما يسميه بعضهم بـ"الضابط".

وحتى هذه الضوابط منها ما يشمل جزئيات كثيرة، وهناك وجه أن يسمى: قاعدة على الأقل، وهناك ما لا تكاد تجد له إلا مثالين أو ثلاثة أمثلة، أو أربعة أمثلة، حتى الضوابط متفاوتة.

الأمر السابع: ما هي طريقة العلماء في صياغة القواعد؟

بعض العلماء يتوسع في التعبير عن القاعدة، ابن رجب -رحمه الله- لربما تحتاج أن تجمع القاعدة من أربع صفحات، ثم تحاول أن تعبر عنها بعبارة مختصرة.

ومن العلماء من يزن الحرف في التعبير عن القاعدة، ويدقق في ذلك.

صياغة القواعد أحياناً يصوغونها بجملة خبرية، مثلما نقول: "التأسيس مقدم على التوكيد".

وأحياناً يصوغونها بطريقة الاستفهام، قاعدة أصولية مثلاً: "هل الأمر يقتضي التكرار؟"

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا الأحزاب: 56، يكفيك أن تصلي عليه مرة واحدة في العمر، أو في الصلاة، أو كلما سمعته تصلي عليه؟

نحن مأمورون أن نقول كما يقول المؤذن، فإذا سمعنا هذا المؤذن أذن الآن في هذا المسجد ورددنا معه، وبعد قليل سمعنا المسجد الآخر أذن نردد معه أو لا؟ "هل الأمر يقتضي التكرار؟"

هذه القاعدة هناك خلاف كثير فيها، ولذلك تجد العالم قد لا يجترئ فيجزم فيقول: الأمر يقتضي التكرار، وإنما يأتي بها بطريقة الاستفهام: هل الأمر يقتضي التكرار؟ وهذا من أدب العلماء -رحمهم الله-، وأظن أن من الأمور المهمة التي ينبغي أن تراعى في مثل هذه الدورات أو في الدروس العلمية أو غير ذلك أنها لا تقتصر على التعليم فقط للمسائل أو القواعد أو لغيرها، يجب أن نتعلم معها الأدب في التعبير، الأدب في الحكم على الأشياء والتورع من إطلاق الأحكام حينما تكون المسألة تحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل، يمكن أن يعبر الإنسان بعبارات يقول: أظن أن الأمر فيه كذا، لو قيل بأن هذا أقرب إلى الوجوب لم يكن ذلك بعيداً، عبرْ بعبارة لا يكون عليها تبعة عند الله: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ النحل:116.

أما أن نعمد إلى طريقة غير صحيحة فنقول: أبداً التمتع هو العمل المشروع في الحج، وكل قول سواه فهو ساقط، عبارة كبيرة جدًّا هذه، أو تقول: الإفراد هو الأفضل ما عداه فهو ساقط لا يستحق أن يلتفت إليه، كيف هذا؟ وقد يسمعك بعض من لا بصر له، ويظن أن هذا الكلام صحيح، وله وجه، هذه العبارة فيها مجازفة كبيرة جدًّا، لكن قل: أظن أن الأقرب أن التمتع هو أفضل الأنساك للدليل الفلاني، وليس هذا بقاطع.

تقول: قراءة الفاتحة مع الإمام لو قيل بأنها تقرأ لم يكن ذلك بعيداً، نظراً للدليل الفلاني والدليل الفلاني، وليست القضية بقاطعة.

معنى الأحرف السبعة هي وجوه من وجوه التغاير في القراءة كالتقديم والتأخير والإبدال، وما إلى ذلك، وليس ذلك بقاطع، هذا أحد الأقوال، لو قيل بأن هذا معنى الأحرف السبعة لكان له وجه، أما أن تقول: معنى الأحرف السبعة القول الذي لا مرية فيه ولا محيد عنه، ولا يمكن أن يلتفت إلى غيره أنها سبعة أوجه من وجوه التغاير، هذا لا يصلح، وليست هذه طريقة.

كذلك التعبير بالعبارات التي تعتبر كبيرة، وقد تصلح لبعض العلماء الكبار لكن لا تصلح لطلاب العلم، لا داعي للتعبير بها.

فلان قد أبعد النُّجعة، الصواريخ هذه التي نجدها أحياناً في هوامش بعض الكتب التي تسمى محققه، يتربى عليها صغار الطلبة، وينشأ عليها، ويظن أن هذه الطريقة الصحيحة في التعلم، ويستعمل هذه العبارات، وتكون هذه المنافرات على طريقة المنافرات في تشجيع الأندية الرياضية، هذا الشاب الصغير بدلا من أن يتحمس مع أولاد الجيران على تشجيع النادي الفلاني أو النادي الفلاني، ويحصل بينهم من المنافرة، دخل في أمور أخرى الآن وهي الخلاف بين العلماء، فبدأ يتكلم يظن أن القضية بنفس الطريقة التي يتكلم بها حينما كان يشجع النادي الذي كان يحبه، فهذا خطأ.

فالمفروض أن نراعي هذه الأشياء.

فالمقصود: أن العلماء -رحمهم الله- في التعبير عن القواعد ليست طريقتهم واحدة، منهم من يختصر ويلخص، ومنهم من يسهب في العبارة، وأحياناً يعبرون عن القاعدة بطريقة استفهامية، وأحياناً بجملة خبرية، وعبارتهم تتفاوت؛ لأنهم لم يجلسوا في مكان واحد ويتفقوا في مجمع على صياغة القواعد، بينهم قرون متطاولة، ولهم أنظار متفاوتة؛ فمثلاً قاعدة: "اليقين لا يزول بالشك" نجد الخطّابي يعبر عنها: اليقين لا يَزحم الشك" لا إشكال، ابن عبد البر يعبر عنها بقوله: "اليقين لا يزيله الشك" آخر يعبر عنها: "اليقين لا يزول بالشك"، وهذا هو التعبير المشهور.

وسنلاحظ هذا في القواعد التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- في الكتاب.

تأمل قاعدة أخرى كيف تتفاوت عبارات العلماء فيها عبر القرون، الشافعي -رحمه الله- وهو قبل التأليف في القواعد، لكن في كثير من عباراته وعبارات الإمام مالك في كتاب: "المدونة" قواعد فقهية، الشافعي -رحمه الله- مثلاً يقول: "منزلة الوالي من الرعية منزلة الولي من اليتيم"، يعني يتصرف حسب المصلحة، مسئول عن هده الأموال، لا يتوسع فيها، لا يصرفها في وجوه لا داعيَ لها مثلاً، هذه القاعدة يعبر عنها ابن السبكي يقول: "كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف في المصلحة"، لاحظتَ الفرق بين العبارتين.

وآخر يقول -وهي العبارة المشهورة عن هذه القاعدة أو هذا المعنى-: "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"، لاحظ عبارة الشافعي -رحمه الله-: "منزلة الوالي من الرعية منزلة الولي من اليتيم"، ثم انظر: "تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة".

ثامناً: نماذج من المؤلفات في القواعد الفقهية:

مذهب الأحناف:

مثل كتاب: "أصول الكرخي" الذي ذكرت قبل قليل، المتوفى سنة ثلاثمائة وأربعين.

"تأسيس النظر" للدبوسي، توفي سنة أربعمائة وثلاثين، جعله ثمانية أقسام.

وهناك كتب أخرى، لا أريد أن أطيل في ذكرها.

مذهب المالكية:

"أصول الفتيا" للخشني، توفي سنة ٣٦١ فيه كليات ونظريات في المذهب.

"القواعد" للمَقَّري، توفي سنة ٧٥٨، هذا أوسع كتب المالكية تقريباً، مرتب على الفقه، فيه ألف ومائتا قاعدة، مطبوع الكتاب، القواعد للمقري مطبوع جزء منه، فيه ألف ومائتا قاعدة تقريباً، لكن غالب هذه القواعد من الضوابط وليست بقواعد بالمعنى المعروف، هي ضوابط فقهية مختلف فيها، وكثير منها يورد بصيغة الاستفهام: هل كذا كذا؟

مذهب الشافعية:

"قواعد الأحكام ومصالح الأنام" للعز بن عبد السلام، المتوفى سنة٦٦٠، يدور حول قاعدة واحدة هي: "جلب المصالح مقدم على درء المفاسد"، لماذا اقتصر على هذه القاعدة؟ لأنه يرى أن جميع القواعد ترجع إليها، وجميع الفقه يرجع ويستند إليها في النهاية، فاقتصر عليها، وشرح عليها شرحاً رائعاً.

"المنثور" للزركشي المتوفى سنة ٧٩٤، وهو كتاب حافل يعد من أجمع الكتب في القواعد، رتب قواعده على حروف المعجم، فيه ألف قاعدة.

وكذلك: "الأشباه والنظائر" للسيوطي، المتوفى سنة ٩١١.

فيه خلاصة لما ذكره من سبقه، مثل: ابن السبكي، وابن الوكيل، وغيرهم ممن كتب في القواعد، وهو من أحفل الكتب في القواعد، ومن أنفعها، وهو من الكتب التي تتوسع في ذلك.

مذهب الحنابلة:

هناك قواعد ابن رجب وهو من أوسع كتب القواعد أيضاً، ولكن هذا الكتاب قد لا يصلح إلا لمن درس الفقه على المذهب دراسة جيدة، وقوية، ودراسة فيها من التوسع، ليست على قول واحد؛ لأن هذا الكتاب يذكر أشياء كثيرة جدًّا في الخلاف داخل المذهب، ويذكر كثيرًا من مصطلحات المذهب التي يحتاج الإنسان أن يعرفها على الأقل بقراءة بعض الكتب التي كتبت في التعريف ببعض القضايا المتعلقة بالمذهب، مثل "مدخل إلى مذهب الإمام أحمد"، لابن بدران، ومثل ما كتب أيضاً الشيخ بكر أبو زيد في الموضوع، وغيره؛ لأنه يذكر مصطلحات إذا قال لك مثلاً: وهذا في رواية، وهذا مُخرَّج، هذا تخريج، ما معنى التخريج في المذهب؟ إذا قال لك: هذا نص عن الإمام أحمد، إذا قال لك: هذا قاله صاحب الرعاية، إذا قال لك: هذا قاله صاحب المنتهى، إذا قال: هذا قال به أبو بكر عبد العزيز، من هو أبو بكر عبد العزيز؟ فهذا بالنسبة إليه من المعروفين، كما تقرأ مثلاً: الحافظ ابن حجر، أو فلان، أو فلان، ممن تعرفهم من المشهورين لديك، فتحتاج أن تعرف هؤلاء في داخل المذهب.

ولذلك أقول: دراسة علم القواعد لا يقال: إنها آخر ما تدرس كما يقال لبعض طلبة العلم بإطلاق، منها ما يدرس في البداية، ويمكن أن يدرس لعموم طلبة العلم مثل هذا الكتاب، ومثل القواعد الخمس الكبرى، وهي ضمن هذه القواعد التي سندرسها -إن شاء الله- كما سيأتي.

وهناك أشياء الواقع أنها تدرس فيما بعد، مثل كتاب: "قواعد ابن رجب"، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي، و"الأشباه النظائر" لابن نُجيم الحنفي، وأمثال هؤلاء.

وهناك كتب كثيرة في المذهب، وكذلك لبعض المعاصرين منهم من شرح القواعد الخمس، ومنهم من تكلم على جملة من القواعد، ومنهم شرح علم القواعد وبيّن المراد به، ثم ذكر تطبيقات، سواء على القواعد الخمس أو على غيرها، أو غير ذلك، الكتب كثيرة جدًّا في هذا الباب، ومن تتبع ودرس -بإذن الله- وواصل فإنه سيجد متسعًا من العلم والمؤلفات في هذا الباب.

تاسعاً: توصيف هذا الكتاب:

هذا الكتاب الذي ندرسه أذكر بعض الإيضاحات حوله.

هذا الكتاب ألفه المؤلف -رحمه الله- وهو في مقتبل شبابه، ألفه في الثامن عشر من شهر ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف، ومعلوم أن المؤلف -رحمه الله- كان مولده سنة ألف وثلاثمائة وسبع للهجرة، فكم يكون عمر المؤلف لما ألف هذا النظم وشرحه؟.

 

هذا الكتاب ألفه المؤلف -رحمه الله- وهو في مقتبل شبابه، ألفه في الثامن عشر من شهر ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف، ومعلوم أن المؤلف -رحمه الله- كان مولده سنة ألف وثلاثمائة وسبع للهجرة، فكم يكون عمر المؤلف لما ألف هذا النظم وشرحه؟.

 

عمره تقريباً كان ثلاثًا وعشرين سنة.

إذن هذا من أول مؤلفاته.

بينما الكتاب الآخر: "القواعد الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة"، كان من آخر مؤلفاته، ألفه قبل وفاته بسنتين تقريباً، ولا شك أن معرفة توقيت كتابة المؤلف هذا الكتاب تفيد في أشياء كثيرة جدًّا.

وقد جلس للتأليف -رحمه الله- وعمره ثلاث وعشرون سنة، أول ما بدأ يدرِّس بهذا السن، وكان يدرِّس ويتعلم في نفس الوقت، يحضر عند شيوخه، وهذا هو الذي ينبغي لطالب العلم أن يستمر على التعلم، وحضور الدروس إلى أن يموت، ما يقول: أنا وصلت، وأنا لا أحتاج إلى التعلم، أو يحتاج أن يوضع له درس بين أربعة جدران، لا يراه فيه أحد، حتى لا يعاب أنه لا يزال يفتقر للعلم، ولعله في محاضرة: "الطريق إلى العلم" -إن شاء الله- أذكر نماذج كثيرة من حال السلف أنهم كانوا يتعلمون إلى أن ماتوا، والواحد منهم يجلس خمسين سنة عند العالم -وهو عالم- يتعلم، ولو لم يكن له في هذا إلا دفع الكبر عن نفسه لكفاه، تربية عملية.

وأبيات هذا الكتاب تسعة وأربعون بيتاً.

والطبعات السابقة سقط منها بيتان.

عشرة من هذه الأبيات هي في المقدمة، وهي تعتبر كثيرة بالنسبة للعدد القليل لهذه الأبيات، وقد ذكر هذه المنظومة على بحر الرجز.

كم قاعدة اشتملت عليها هذه الأبيات؟، هذا الكتاب كم فيه من القواعد؟

فيه إجمالاً نحو خمس وثلاثين قاعدة، يمكن أن نعتبر خمسًا منها كما سيأتي -إن شاء الله- من القواعد الأصولية، وليست من القواعد الفقهية.

ويمكن أن نجعل اثنتين منها من الضوابط وليست من القواعد، بناء على ما سبق من التفريق بين القواعد والضوابط.

أما الفرق بين هذا الكتاب والكتاب الآخر للمؤلف وهو "القواعد الجامعة" فكتاب القواعد الجامعة ذكر فيه ستين قاعدة، وهذا ذكر فيه خمسًا وثلاثين إجمالاً، فإذا حذفنا خمسًا منها -وهي القواعد الأصولية-، واثنتين -وهما من الضوابط-، فيكون تقريباً النصف.

في كتاب: "القواعد الجامعة" ذكر ستين قاعدة، وأعقبها بجملة من الفروق والتقاسيم غير مرتبة، يعني ما وضع التقاسيم لوحدها، والفروق لوحدها، وإنما أجمل، فذكر نحواً من أربعة وعشرين فرقاً من الفروق، وذكر نحواً من اثنين وثلاثين تقسيماً من التقاسيم.

إذن الكتاب نصفه في القواعد، ونصفه في الفروق والتقاسيم.

وجوه التداخل بين الكتابين:

كتاب "القواعد الجامعة" يشتمل على نحو سبع وعشرين قاعدة مما في هذا الكتاب الآخر.

إذن عامة ما في الكتاب من القواعد موجود في "القواعد الجامعة".

كتاب: "القواعد الجامعة" ذكر من القواعد الخمس الكبرى أربعاً، لم يذكر أكبر قاعدة وهي: "الأمور بمقاصدها"، ربما لأنها معروفة مشهورة في الكتب، أو أنه ذكرها في هذا الكتاب.

هذا الكتاب ذكر القواعد الخمس الكبرى وزيادة، والقواعد الخمس الكبرى: هي قاعدة: "الأمور بمقاصدها"، وقاعدة: "اليقين لا يزول بالشك"، وقاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وقاعدة: "الضرر يُزال"، وقاعدة: "العادة مُحكَّمة"، هذا نهاية الكلام على هذه المقدمات التي تعطيك تصوراً عن هذا العلم.

وسأشرح -إن شاء الله تعالى- هذا النظم في كل مجلس سبعة أبيات عدا مجلس واحد فأشرح فيه سبعة عشر بيتاً؛ وهي أبيات المقدمة؛ لأن المقدمة ليس فيها شيء يحتاج الوقوف عنده، بحيث نفرغ منه -إن شاء الله تعالى- في ستة مجالس -بإذن الله -.

 


[1]- أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم: (1)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله ﷺ: (إنما الأعمال بالنية)، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، رقم: (1907).

[2]- أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس، رقم: (444)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحية المسجد بركعتين، وكراهة الجلوس قبل صلاتهما، وأنها مشروعة في جميع الأوقات، رقم: (714).

[3]- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر، رقم: (1420)، والنسائي، كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس، رقم: (461)، وأحمد في المسند، رقم: (22693)، وقال محققو المسند: "حديث صحيح"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1276)، وفي صحيح الجامع، برقم (3243).

[4]- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، رقم: (46)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، رقم: (11).

[5]- أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا، برقم (3508)، والترمذي، أبواب البيوع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبًا، برقم (1286)، والنسائي، كتاب البيوع، باب الخراج بالضمان، برقم (4490)، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، برقم (2243)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، برقم (1315).

[6]- سبق تخريجه.

[7]- انظر: تهذيب اللغة (7/ 16)، ومقاييس اللغة (4/ 497)، ولسان العرب (10/ 87)، وتاج العروس (25/ 252).

[8]- المنثور في القواعد الفقهية (1/ 65).

[9]- المصدر السابق (1/ 66).

[10]- مقدمة طريق الوصول إلى العلم المأمول في معرفة القواعد والضوابط والأصول.

[11]-المرجع السابق.

 

مواد ذات صلة