الأربعاء 25 / جمادى الأولى / 1446 - 27 / نوفمبر 2024
48- أصول منقولة من كتبه وفتاويه المتفرقة ومطاوي كتبه شيئا فشيئا (القواعد 732- 748)
تاريخ النشر: ١٦ / جمادى الآخرة / ١٤٣٤
التحميل: 2292
مرات الإستماع: 2061

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"من أنكر من أهل الإلحاد وجود الرب، قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي، خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك.

وقد عُلم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجبًا بنفسه، ولا قديمًا أزليًّا، ولا خالقًا لما سواه، ولا غنيًا عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين، أحدهما: غني، والآخر فقير، وأحدهما خالق، والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئًا موجودًا ثابتًا، وليس أحدهما مماثلاً للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قدمه، وهو موجود بنفسه، وأحدهما غني عن كل ما سواه، والآخر ليس بغني، وأحدهما خالق، والآخر ليس بخالق، فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم، موجودًا بنفسه ليس موجودًا بنفسه، غنيًا عما سواه ليس بغني عما سواه، خالقًا ليس بخالق، فيلزم اجتماع النقيضين على تقدير تماثُلُهما، وهو منتفٍ بصريح العقل، كما هو منتفٍ بنصوص الشرع، مع اتفاقهما في أمور أخرى، كما أن كل منهما موجود ثابت له حقيقة، وذات هي نفسه، فعلم بهذه البراهين اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهًا قائلاً للباطل، والله أعلم؛ وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه، فإن الله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يَشرَكه في شيء من ذلك، والعبد أيضًا مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزهٌ عن مشاركة العبد في خصائصه".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا الكلام واضح، وهو يُناظَر فيه من كان جاحدًا لوجود الله -تبارك وتعالى-، من الملاحدة، ومن عنده شك في وجود الله ، وهذا وإن كان لا يُعرف في زمن النبي ﷺ وفي قرون تعاقبت بعده، إلا أنه وُجد في هذا العصر الذي يقولون عنه: إنه عصر العلم، فصار أعرف المعارف، وأظهر الحقائق ملتبسًا على هؤلاء، لا يعرفونه، وقد لا يُقرون بوجوده أصلاً -أعني الملاحدة-.

ثم بعد ذلك لما وجدت وسائل الاتصال الحديثة، والإنترنت، أصبحت شبه أولئك ومذاهبهم الفاسدة في متناول الجميع، يقرأ ذلك أُغيلمةٌ، ليس لهم معرفة ولا بصر بالعلم، ولا بما جاء به الرسول ﷺ، بل ليست لهم عقول تُسعف، وإلا فإن العقول مُدركة أن وجود الله -تبارك وتعالى- من أبيّن الأمور، وأنه لا يحتاج إلى كد للأذهان، ولا جولان للفكر، والنزاع بين أهل الإيمان وأهل الشرك إنما كان في وحدانية الله ، ولم يكن في ربوبيته، فضلاً عن أن يكون في وجوده.

فعلى كل حال مثل هذا الكلام الذي قاله، حاصله: أنه يقال لهذا الإنسان: هذه الموجودات، كل موجود إما أن يكون قائمًا بنفسه، لم يحتج إلى موجد ابتداءً، ولا يحتاج إلى من يُقيمه، وإما أن يكون قائمًا بغيره، وإما أن يكون غنيًّا بذاته، وإما أن يكون فقيرًا، فقره ذاتي، وإما أن يكون أزليًّا، الذي عبّر عنه بالقديم، وإما أن يكون حادثًا، وإما أن يكون خالقًا، وإما أن يكون مخلوقًا، وهكذا.

فهذا المخاطَب لو سُئل عن هذه الموجودات: الإنسان، والحيوان، وما إلى ذلك من هذه المخلوقات التي نشاهدها، هل هذه خالقة أم مخلوقة؟ وهل هذه أزلية أم حادثة؟ وهل هذه قائمة بنفسها، أو أنها محتاجة إلى من يقيمها، فيكون قيامها بغيرها؟

الإنسان الآن أوجد نفسه، أو أنه حادث كائن بعد أن لم يكن، هل هو أزلي قديم أو أنه حادث؟ فهذه الأسئلة حينما تطرح لا بد أن يقول: إنه حادث، وإنه فقير؛ لأنه لو وضعت يدك على أنفه، ومنعت عنه النفس لحظات، فيكون كالسمكة التي خرجت من الماء، يموت، إذن هو فقير بذاته، يحتاج إلى من يقيمه، ليس بقائم بنفسه، حادث بعد أن لم يكن، ولد بتاريخ كذا.

فالموجودات إما أن يكون كذا أو كذا، فإذا أقر أنه مخلوق، وحادث، وفقير، يقال: الحادث لا بد له من محدث، والذي لا يقوم بنفسه لا بد له من يقيمه، والمخلوق لا بد له من خالق، من الذي خلقه؟ لا يمكن أن يكون جاء هكذا من غير موجد، فطالما أنه حادث، وفقير، وبحاجة إلى من يقيمه، إذن من الذي يقيمه ويوجده ويكلأه بالليل والنهار؟ فهذه طريقة في المحاورة لمثل هؤلاء الناس الذين يغالطون في حقائق قد دلت عليها الفطر والعقول، فضلاً عن النقل، يعني: حتى البهائم تعرف خالقها، فكيف بالإنسان الذي أعطاه الله العقل، ووجدت عنده الفطرة؟ خلقت عبادي حنفاء[1]، فمثل هؤلاء الملاحدة نقاشهم وحوارهم ليس بالشيء العسير والصعب، بل هو من أسهل الأشياء، وليس عندهم حجج إطلاقًا، وإنما هي دعوى قد تنطلق من بعض الألسن، ولكن الفطر تردها وترفضها؛ لأنها قضايا فطرية لا يمكن للإنسان أن يغالط ويكابر فيها.

فإذا كان لا بد من خالق ومخلوق، أزلي وحادث، غني بذاته، وفقير بذاته، فالله هو الخالق الغني، الأزلي، القائم بنفسه، ولا يمكن أن يتحد هذا وهذا، في الصفات، يعني: ما يمكن أن يكون الخالق خالقًا، والمخلوق خالقًا، ولا يمكن أن يكون الخالق أزليًّا، والمخلوق أزليًّا، ولا يمكن أن يكون الخالق غنيًّا بذاته، والمخلوق غنيًّا بذاته، فلا بد أن يكون هذا غني، وهذا فقير، هذا خالق وهذا مخلوق، هذا أزلي وهذا حادث.

إذن الله -تبارك وتعالى- له صفات الكمال التي تليق بجلاله، ولا يشاركه في ذلك المخلوق، فالمخلوق لا يشارك الخالق، ولا يماثله، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] لكنه قد يوجد الاشتراك في بعض الأوصاف، في أصل الصفة، ولكن الحقائق تختلف، فالوجود مثلاً صفة، هذا موجود، والكلام صفة، والسمع صفة، والبصر صفة، هذه صفات، والله يوصف بأنه سميع وبصير، ويخبر عنه بأنه موجود، والمخلوق يقال عنه: موجود، ويوصف بأنه سميع، وبصير، ومتكلم، لكن الاشتراك في أصل الصفة، لا يعني: الاتفاق في حقائق الصفات، وأنها متماثله من كل وجه، وإنما للمخلوق منها ما يليق به، وللخالق منها ما يليق بجلاله وعظمته، فكلام الخالق غير كلام المخلوق، وسمع الخالق غير سمع المخلوق، وحياة الخالق غير حياة المخلوق، وهكذا، فهذا حاصل هذا الكلام.

"الأقوال نوعان، فما كان منصوصًا في الكتاب والسنة، وجب الإقرار به على كل مسلم، وما لم يكن له أصل في النص والإجماع لم يجب قبوله ولا رده حتى يعرف معناه".

هذا في مناظرة طوائف أهل البدع من أهل الكلام، الذين يستعملون عبارات لم ترد عن الشارع، والكلام في الأمور الغيبية، كالكلام في صفات الله، ونحو ذلك، ينبغي أن يكون موقوفًا على السمع -على النقل-؛ لأنه لا مجال للعقول أن تصف الله -تبارك وتعالى- بما لم يصف به نفسه، أو تنفي عنه أشياء أثبتها لنفسه، أو لم ينفها، إلا أن يكون ذلك من النقائص المعلومة، فكل ما تنزه عنه المخلوق من صفات النقص، فالخالق أولى بالتنزه عنه.

يقول: "الأقوال" هذه التي يعبرون بها، ويتفوهون بها، والألفاظ التي يستعملونها يقول: "نوعان، فما كان منصوصًا في الكتاب والسنة وجب الإقرار به على كل مسلم، وإن لم يعرف معناه" يقر ويسلم؛ لأن هذا ورد في الكتاب والسنة، خفي عليه معناه عرفه غيره، فهذا الذي خفي عليه معناه يكون في حقه من قبيل المتشابه، الذي نسميه بالمتشابه النسبي، بالنسبة إليه متشابه، لكن بالنسبة لغيره معلوم، فإذا خفي عليه شيء لم يدركه عقله، فإنه لا يسارع بنفيه، فالعقول قاصرة، وإنما عليه أن يقر، يقول: أنا أُثبت هذا، وإن كنت لم أعقل معناه، فهذا واجب، مثل ماذا؟ مثل الأوصاف التي وصف الله بها نفسه، كما وصف نفسه بأنه يتكلم، وبأنه سميع، وبصير، وعليم، وحكيم، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر[2]، فلا يأتي إنسان ويقول: والله ثلث الليل الآخر بالكرة الأرضية يختلف، نقول: أنت تتكلم عن المخلوق أو تتكلم عن الخالق؟! إن كنت تتكلم عن مخلوق فنضرب لك مثالاً من حال المخلوقين، إذا أمن الإمام، فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه[3]، فكم واحد يصلي في البلد ويقول: آمين؟ وهذا في مخلوق يُؤمِّن، وهم الملائكة، فنقول: هذا في علم الغيب، هو كما قال النبي ﷺ، فإذا كان هذا مخلوق، فكيف بالخالق ؟ فالخالق لا يقاس على المخلوقين، فيقال: هذا ثلث الليل الآخر يختلف، نقول: إذا كنت تتحدث عن الخالق، فالله على كل شيء قدير، والله أعظم وأجل من نقيس ذلك بعقولنا القاصرة، وأفهامنا الضعيفة، فإذا لم يدرك عقلك هذا فحينها تسلم بذلك، وتفوض معناه إلى عالمه، وأهل السنة ليست عقيدتهم التفويض، هم يعرفون المعاني، لكن المعين الذي خفي عليه معنى الدليل المعين، فإنه يُفوضه، ولا يخوض برأيه، ويكون قائلاً على الله بلا علم، فينفي أو يثبت بلا علم.

ما كان منصوصًا في الكتاب والسنة وجب الإقرار به، لا مجال لنفيه، سواءً كان ذلك في صفات الله ، أو كان في غيره من الحقائق التي أخبر عنها الشارع، فالنبي ﷺ أخبر: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء[4]، فلا يأتي إنسان ويقول: هذا عقلي ما يقبله، نقول: دع عقلك جانبًا، عليك بالتسليم، كما قال بعض السلف: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم[5]، والله يقول: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

والنبي ﷺ حينما يقول عن النساء: ما رأيت من ناقصات عقل ودين[6]، فليس لرجل ولا لمرأة أن يعترض على هذا، ويقول: هذا أمر لا يمكن أن أعقله، نقول: وإن لم تعقله، تفوض ذلك إلى عالمه، فالنبي ﷺ لا يخبر إلا بحق، فلا يجوز تحريف الكلم عن مواضعه، أو نفي ما أثبته الشارع، وهذا باب واسع، وكثير من الناس يجترؤون على النصوص من الآيات والأحاديث فينكر، تقول له: الحديث في صحيح البخاري، يقول: وأنا ما لي، وأنا ما لي؟! لا يمكن أن يصدر هذا من إنسان يعرف ما يخرج من رأسه، لا بد من التسليم، والإذعان، والاستسلام الكامل.

يقول: "وما لم يكن له أصل في النص والإجماع لم يجب قبوله، ولا رده حتى يُعرف معناه" فإن كان مما أثبته المعصوم استفصل، انظر المعنى ما هو؟ وماذا يراد بهذه الألفاظ؟ فإن كان المعنى مما أثبته المعصوم أثبتناه، وإن كان مما نفاه نفيناه، وإن لم يظهر فيه لا هذا ولا هذا، توقفنا فيه، لكننا لا نستعمل هذه الألفاظ المجملة التي تحتمل الحق والباطل، وإنما نستعمل الألفاظ الواضحة التي لا تحتمل حقًا وباطلاً، لكن أهل البدع يستعملون ألفاظ، مثل لفظة (الجسم، والتركيب، والجهة) يقول لك: الله في جهة أو ليس في جهة؟ نقول له: هذا اللفظ ما ورد في الكتاب والسنة، وماذا تقصد بالجهة؟ إن كنت تعني العلو، وأن الله فوق العالم، فالله -تبارك وتعالى- أثبت هذا، بقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان:59] وإن كنت تقصد أنه في جهة مخلوقة، وأن بعض خلقه يحيط به فهذا باطل؛ لأن الله أعظم من أن يحيط به شيء من خلقه.

ولما يقول: الله ليس بجسم، نقول: هذه اللفظة (جسم) ما وردت في نصوص الكتاب ولا في السنة، ماذا تقصد بها؟ إن كنت تقصد بذلك نفي ما أثبته الله لنفسه، فقد أثبت أن له يدًا، وأن له وجهًا، وما إلى ذلك من الصفات، فنقول: كلامك هذا باطل، أنت تنفي بكلامك المجمل هذا -لفظة (جسم)- نصوصًا ثابتة، وصفات ثابتة في الكتاب والسنة، وإن كنت تقصد معنىً آخر، فبيّن لنا هذا المعنى، لكن نحن لا نثبت هذه اللفظة -لفظة (جسم)- لأنها لم ترد، كما يقولون: هل يوصف الله -تبارك وتعالى- بأنه مركب أم غير مركب؟

فالمشكلة أن هؤلاء لما تركوا نصوص الكتاب والسنة تجرؤوا، وصاروا يتكلمون بأشياء نخاف حتى من حكايتها؛ لأن فيها سوء أدب مع الله، والله أعظم وأجل من أن تخوض الأذهان والآراء، فتتكلم عن العظيم الأعظم بمثل هذه الطريقة، لكن أهل السنة يثبتون ما ثبت في الكتاب والسنة، على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] غير خائضين بآرائهم، ولا متهوكين بأفهامهم، وإنما هو التسليم الكامل لنصوص الكتاب والسنة، هذا هو طريق السلامة المحققة، مذهب السلف الصالح ، ومذهب الصحابة الذي تلقوه عن رسول الله ﷺ، وهو الذي عليه خيار الأمة، حتى تُرجمت كتب الفلسفة والمنطق اليوناني، فصار هذا الخوض في كل شيء، في أشياء لا نستطيع حتى أن نحكيها -نسأل الله العافية-، يتكلمون عن الله كأنهم يتكلمون عن أي شيء آخر، بلا تعظيم، ولا تقديس، ولا إجلال، والإنسان أحيانًا يحكي أشياء وليست من الأشياء التي هي أعظم ما عندهم، ويخاف أن يتنزل الغضب بمجرد الحكاية فقط لمذهبهم، نسأل الله العافية.

"ما من طائفة من أهل الانحراف إلا ومعها حق وباطل، فإذا خوطبت بيّن لها أن الحق الذي ندعوكم إليه أولى بالقبول من الحق الذي وافقناكم عليه".

هذا الكلام ذكره في هذا الكتاب (منهاج السنة): "ما من طائفة من أهل الانحراف إلا ومعها حق وباطل"[7]، هو كما يقول شيخ الإسلام: "فإن البدعة لو كانت باطلاً محضًا لظهرت وبانت، وما قبلت، ولو كانت حقًا محضًا، لا شوب فيه، لكانت موافقة للسنة، فإن السنة لا تناقض حقًا محضًا لا باطل فيه، ولكن البدعة تشتمل علي حق وباطل"[8]، يعني: يكون فيها شائبة من حق، تكون بمنزلة الطُّعم لهؤلاء الناس الذين تصغى أفئدتهم لمثل هذا الباطل، فيتمسكوا بهذا الضلال والانحراف من أجل هذه الشائبة؛ ولذلك تجد كل ناعق على وجه الأرض له تبع، شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول هنا: "وما من طائفة إلا ومعها حق وباطل، فإذا خوطبت بيّن لها أن الحق الذي ندعوكم إليه هو أولى بالقبول من الحق الذي وافقناكم عليه"[9]، يعني: الآن لو جئنا لليهود والنصارى عندهم حق وباطل، فمن الحق الذي عندهم: الإيمان بنبوة موسى ، والإيمان بنبوة عيسى ، لكن تأليه النصارى لعيسى باطل، والإيمان بالكتاب المنزل بالتوراة والإنجيل هذا حق، وإن كانوا حرفوا هذه الكتب، فتحريفهم هذا باطل، فحينما ندعوهم، نقول لهم: الحق الذي ندعوكم إليه أولى بالقبول من الحق الذي وافقناكم عليه، نحن وافقناكم مثلاً على نبوة موسى ، وعلى نبوة عيسى ، وعلى أن التوراة كتاب من عند الله، والإنجيل كتاب من عند الله، وإن كانت حرفت فيما بعد، لكن أصلها منزلة.

ونختلف معهم في كونهم لا يثبتون نبوة محمد ﷺ، ولا يؤمنون أن القرآن منزل من عند الله مثلاً، فنقول لهم: نحن اتفقنا معكم على نبوة موسى وعيسى -عليهما السلام- وإبراهيم ، وأن الله أنزل صحف إبراهيم، والتوراة، والإنجيل، الذي ندعوكم إليه نُبوة محمد ﷺ وأن الله أنزل القرآن أولى بالقبول من الحق الذي وافقناكم عليه، فنبوة محمد ﷺ أولى بالقبول من نبوة موسى وعيسى -عليهما السلام-؛ لماذا؟ لأن كل دليل يستدلون به على إثبات نبوة موسى ، أو عيسى ، فذلك أولى وأحق إثبات نبوة محمد ﷺ، الذي يرد به اليهود على من خالفهم في نبوة موسى ، أو في أن الله أنزل التوراة أولى أن يقال في إثبات نزول القرآن، وإثبات نبوة محمد ﷺ، وقد مضى الكلام على هذه القضية.

والرافضة يثبتون فضل علي ، وخلافته، وإن كانوا يغلون فيه ويألهونه، فتأليههم وغلوهم هذا باطل، وينكرون فضل الأئمة الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله عنهم أجمعين-، وعن جميع أصحاب رسول الله ﷺ، وينكرون إمامتهم -يعني الخلافة-، فماذا يقال لهم؟ يقال: نحن اتفقنا معكم في إمامة وخلافة علي، وفي فضله -رضي الله تعالى عنه-، فخلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان أولى بالصحة من خلافة علي، فكل ما يُذكر من دليل في فضل علي -رضي الله تعالى عنه-، وفي إثبات خلافته، والرد على من خالف في ذلك، فإنه يقال من باب أولى في إثبات خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان -رضي الله تعالى عن الجميع-، وهكذا، وهذا مضى الكلام فيه.

فالأشياء التي يقدحون بها في فضل أبي بكر وعمر تتوجه من باب أولى إلى من يثبتون إمامته وفضله، وهكذا اليهود والنصارى، وما من سؤالٍ أو اعتراض يرد على نبوة النبي ﷺ، وخلافة الشيخين، إلا ويرد على نبوة غيره، وخلافة غيرهما، ما هو مثله، أو أعظم منه، وما من دليل يدل على نبوة غير محمد ﷺ، وخلافة أبي بكر وعمر، إلا والدليل على نبوة محمد ﷺ، وخلافتهما أقوى منه.

يقول: أما الباطل الذي بأيدي المنازعين، فتبيّن أنه يمكن معارضته بباطل مثله، وأن الطريق الذي يُبطل به ذلك الباطل يبطل به باطلهم، فمن ادعى الإلهية في المسيح، أو علي، أو غيرهما، عُورض بدعوى الإلهية في موسى وآدم، وعمر بن الخطاب، فلا يذكر شبهةً يظن بها الإلهية لعيسى أو لعلي -بالنسبة للرافضي- إلا ويُذكر في الآخر نظيرها، وأعظم منها، فالنصراني إذا قال: عيسى بدون أب، نقول له: آدم بدون أب ولا أم، هل تقول: بأن آدم إله؟ وهكذا.

يقول: فالحق يظهر صحته بالمثل المضروب له، والباطل يظهر فساده بالمثل المضروب له، يعني: تضرب له مثل بآدم وهكذا.

يقول: لأن الإنسان قد لا يعلم ما في نفس محبوبه، أو مكروه من حمد وذم، إلا بمثل يضرب له، فإن حبك الشيء يعمي ويصم[10]، فحبهم لعلي جعلهم يجعلونه في مرتبة الإلهية، ويحتجون بقول النبي ﷺ: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى[11]، وسيأتي الرد على هذا بأن ذكر شيء من الخصائص، أو الصفات في سياق معين، لا يعني المشابهة من كل وجه، يعني: أنه لا يشبه موسى حتى في النبوة.

يقول: والله ضرب الأمثال للناس في كتابه لما في ذلك من البيان، والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مُثّلت له نفسه بأن يراها في مرآة، وتُمثل له أعماله بأعمال غيره؛ ولهذا ضرب الملكان المثل لداود بقول أحدهما: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص:23]... إلخ.

"التوبة والاستغفار لا يوجب تنفيرًا، ولا يزيل وثوقًا، بل لا يتم كمال العبد إلا بذلك، بخلاف دعوى البراءة مما يُتاب منه، ويُستغفر، والسلامة مما يُحوج إلى الرجوع إلى الله، والالتجاء إليه، فإنه هو الذي ينفر القلوب، ويزيل الثقة، فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب أو جاهل، وأما الأول فإنه يصدر عن الصادقين العالمين".

هذا الكلام ذكره في سياق الرد على من زعم أنه لم يكن من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما يوجب الاستغفار والتوبة، يعني: بعض المبتدعة وبعض أهل الكلام يقولون: بأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- معصومون، ليس في البلاغ فقط، بل لا يصدر منهم الذنب؛ لماذا؟ قالوا: لأنه لو صدر منه الذنب، أو تاب من ذنب، فإن ذلك يرفع الثقة به.

وشيخ الإسلام يقول: بأن التوبة والاستغفار لا يوجب تنفيرًا؛ وذاك يقول: هذا ينفر من اتباعه، يقول: ولا يزيل وثوقًا، بل لا يتم كمال العبد إلا بذلك، بخلاف دعوى البراءة مما يُتاب منه ويُستغفر، والسلامة مما يحوج إلى الرجوع إلى الله، والالتجاء إليه، فهذا الذي ينفر القلوب، ويزيل الثقة، فإن هذا لم يُعلم أنه صدر إلا عن كذاب أو جاهل، يعني لو قال: أنا ما يحصل مني لا سهو ولا غفلة ولا خطأ أبدًا، يقال: هذا لا يتأتى للمخلوق، فهذه دعوى، والواقع يخالفها، لكن حينما يقول: بأنه صدر منه ما يوجب التوبة، فالله قال عن آدم : وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ۝ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121- 122] وقال: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37] وذلك قوله -تبارك وتعالى-: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا [الأعراف:23] فهذه الكلمات التي قالها آدم لما أكل من الشجرة، فكانت حال آدم بعد التوبة أكمل من حاله قبل التوبة، والإنسان -كما سبق- في بعض المناسبات أن حاله تكون بعد الذنب تارة أفضل، وتارة تكون كما كانت، وتارة تكون دون ذلك، فإذا وُفّق للتوبة، فالمؤمن يستشعر هذه المعصية دائمًا، ويزداد من الطاعات، فترتقي مرتبته في سُلّم العبودية.

وعلى كل حال الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما سبق، هم معصومون في البلاغ عن الله وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] وقال النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو: اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق[12]، يشير إلى لسانه -عليه الصلاة والسلام-، هذا في البلاغ.

أما ما يتعلق بالمخالفات، ونحو ذلك، فيقال: الكبائر لا تصدر منهم، فضلاً عن الشرك حاشاهم، أما الصغائر فتقع، إلا الصغائر التي تكون مدنسات، فهذه لا تصدر من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

"وأصحاب النبي ﷺ ولله الحمد، من أصدق الناس حديثًا عنه، لا يُعرف منهم من تعمد عليه كذبًا، مع أنه يقع من أحدهم من الهنات ما يقع، ولهم ذنوب، وليسوا معصومين، ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والامتحان أحاديثهم، واعتبروها بما تُعتبر به الأحاديث، فلم يوجد عن أحد منهم تعمد كذب، بخلاف من بعدهم، فإنهم لا يساويهم، ولا يقاربهم أحد ؛ ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات، باتفاق أهل العلم بالحديث والفقه؛ حفظًا من الله لهذا الدين، ولم يتعمد أحد الكذب على رسول الله ﷺ إلا هتك الله ستره، وكشف أمره، وقد كان التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة لا يكاد يُعرف فيهم كذاب، لكن الغلطَ لم يسلم منه بشر".

لكن الغلط لا يسلم منه بشر، يعني الخطأ والسهو.. إلخ، فالصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كلهم عدول ثقات لا يتعمدون الكذب، هذا يحتاج إليه في الرد على بعض المشككين والملبِّسين، وهذا الكلام كان يقوله بعض الرافضة، والآن يقوله بعض الذين يتلقون من بعض المواقع المشبوهة في الشبكة وغيرها، فالصحابة -رضي الله تعالى عنهم- رووا لنا هذه السنة، كان هناك من المنافقين، فهل روى أولئك من أهل النفاق شيئًا؟ الجواب: لا، هم أبعد من ذلك، وأصحاب النبي ﷺ الذين رووا عنه، ونقلوا لنا سنته هم عدول ثقات، لا يمكن أن يتعمد الواحد منهم الكذب، وأهل النفاق ما كانوا يفقهون ولا يعقلون، ولم يكن الواحد منهم يرفع رأسًا بما يقوله رسول الله ﷺ فيعقله فضلاً عن أن يحفظه، وما كانت هذه القضية تعنيهم شيئًا إطلاقًا، وقد وصفهم الله بقوله: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] خشب مسندة، يعني: لوح، واللوح هو البليد، فهو جالس في هذا المسجد ولا يفهم ولا يفقه، لكن لمآرب عنده، فإذا خرجوا من عنده ﷺ قالوا: مَاذَا قَالَ آنِفًا[محمد:16] ماذا كان يقول؟! وهم يسمعون الآيات تنزل! فهؤلاء هم الذين وصفهم الله : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [محمد:16] فمثل هؤلاء لا يعقلون عن الله، ولا يفقهون كلام رسول الله ﷺ فضلاً عن أن يحفظوه، ثم بعد ذلك يبلغونه للأمة، فلا يمكن أن يوجد من هؤلاء أحد له عناية بالرواية، وإن روى شيئًا على سبيل الافتراض والتنزل، فإما أن يرويه كما حدّث به النبي ﷺ، أو أنه يختلق الكذب عليه، وأصحاب النبي ﷺ متوافرون، فلو حصل شيء من هذا لكُشف ولسقط، ولا يمكن أن يجترئ منافق أن يتسنم هذه المرتبة، المنافق أبعد من هذا، والله قد تولى حفظ هذا الدين، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ومن حفْظ هذا القرآن أن الله حفظ سنة رسوله ﷺ، وإن كان الوضع والخطأ في الرواية واقع، إلا أن أئمة هذا الشأن لا ينطلي عليهم شيء من ذلك، فقد سخّر الله لها النقاد والعلماء والأئمة والجبال، الذين ميزوا الزيف من الخالص، والبهرج من النقي.

يقول: ولم يتعمد أحد الكذب على رسول الله ﷺ إلا هتك الله ستره، وكشف أمره، وهذا صحيح.

"قد يقال: إن الإيمان أرجح من الكفر إذا احتيج إلى المفاضلة عند من يظن أن ذلك أرجح، كقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] وقوله: وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الجمعة:9] قوله: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ [البقرة:232] بل قد يفضل الله نفسه على من عُبد من دونه، كقوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] وقول السحرة: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73] وما أشبه ذلك من ذِكْر (أفعل) التفضيل مما ليس في المفضل عليه شيء؛ لأن التنزل في المناظرات ونحوها من تمام الإنصاف، ومن الداعي للنظر في الأدلة والبراهين المرجحة، وفيها دعوة لطيفة لأهل الانحراف، كما هو معروف بالتأمل".

هذا الكلام الأخير هو من كلام الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، من قوله: "وما أشبه ذلك" إلى آخر الكلام، وهذه القضية هي أحد الأجوبة، ونحن عرفنا أن (أفعل) التفضيل، كفلان أفضل من فلان، وفلان أعلم من فلان، وفلان أكرم من فلان، وفلان أطول من فلان، تكون في الأصل بين اثنين، اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر فيها، فحينما تقول مثلاً: هذا الكأس أطول من هذا الكأس، والكلام متجه، وصحيح لا إشكال فيه، وتقول: هذا المكان أريح من هذا المكان، فهذا لا إشكال فيه، وتقول: زيد أعلم من عمرو، وعمرو أكرم من زيد، لكن ما تقول: زيد أعلم من السارية، فالسارية ليس عندها علم، ولا تقول: زيد أكرم من الحجر، فالحجر لا يوصف بالكرم، فـ(أفعل) التفضيل لا تتأتى هنا، ولا تقول: زيد أطول من النملة، أو تقول: هذا السيف أقطع من عصا المكنسة، هذا استهزاء بالسيف.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يُنْقِصُ قَدْرَهُ إِذَا قِيْلَ: هَذَا السَّيْفُ أَمْضَى مِنَ العَصَا[13]

ففي هذا إزاء؛ لأنك جئت بـ(أفعل) التفضيل (أقطع) بين شيئين ليس بينهما اشتراك.

طيب نحن نجد في القرآن أشياء، مثل قوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] هل في مقارنة؟ ما في مقارنة، وقال مقارنًا بين أهل الجنة وأهل النار: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62]، وهكذا في قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] فنحن في مناسبات سابقة ذكرنا قاعدة، وهي: أن (أفعل) التفضيل قد تأتي مرادًا بها مطلق الاتصاف، يعني الوصف، وليس معنى التفضيل، وضربنا لذلك أمثلة، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17] يعني: التقي، وليس المقصود (أفعل) التفضيل على أحد الأقوال في الآية.

فشيخ الإسلام هنا يذكر أمرًا آخر، يقول: إن هذا قد يرد على سيبل التنزل، يكون الطرف الآخر عنده لوثة، فيعتقد أن هذا المفضَّل عليه، وهي هذه الأصنام أنها تنفع وتضر، وأنها آلهة في زعمه، فيأتي قوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59] مراعًا في ذلك اعتقاد السامع أو المخاطب، من باب التنزل، والقرآن قد يرد الخطاب فيه مراعًا فيه حال المخاطب، وهي أنواع، وقد ذكرتُ بعضها في بعض المناسبات، فهذا أحد الأجوبة عن هذه المسألة (أفعل) التفضيل، حيث لا يوجد مقاربة بين المفضل والمفضل عليه.

"والله منزَّه أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص، والله تعالى منزَّه عن كل نقص، ومستحق لغايات الكمال، وليس له مثل في شيء من صفات الكمال، فهو منزَّه عن النقص مطلقًا، ومنزَّه في الكمال أن يكون له مثل، وقد دلَّ على ذلك سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فبيّن أنه أحد صمد، واسمه الأحد يتضمن نفي المثل، واسمه الصمد يتضمن جميع صفات الكمال".

منزَّه أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختُص بالمخلوقين فهو صفة نقص، السمع هل يختص بالمخلوق؟ لا، لكن الولد يختص بالمخلوق، فالله منزَّه عنه، فهو وإن كمالاً في المخلوق إلا أنه كمال نسبي، وليس بكمال مطلق، وحينما نقول: كل كمال كان للمخلوق فالخالق أولى به؛ لأنه مسدي الكمال، المقصود به الكمال المطلق، وليس الكمال النسبي، الزوجة تختص بالمخلوق أليس كذلك؟ إذن الله منزَّه عن ذلك، لكن الكلام لا يختص بالمخلوق، فالله لا ينفى عنه ذلك؛ لأن المخلوق يتصف به، لكن للمخلوق منه ما يناسب حاله، ويصلح لمثله، وللخالق ما يناسب كماله.     

يقول: وقد دلّ على ذلك سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فبيّن أنه أحد صمد.

قال: واسمه الأحد يتضمن نفي المثل، يعني: منفرد بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ليس له نظير، وصمد يتضمن جميع صفات الكمال، والصمد له عدة معاني، منها: أنه تصمد إليه الخلائق في حاجاتها وفقرها ومسكنتها، فهو ملجؤها في رزقها، وفي كل ما تفتقر إليه، فهو الموصوف بجميع صفات الكمال، وتجدون في كلام العرب وأشعارهم ومدحهم لبعض الملوك والكبراء والأجواد الذين يبذلون وينفقون، أحيانًا يصفونه بأنه صمد، إذا أرادوا أن الناس يرجعون إليه.

"جميع الرسل -عليهم السلام-، وجميع أهل الملل يعلمون قطعًا أن الملائكة ليست كما يقوله زنادقة الفلاسفة أنها قوى معنوية، وإنما هم مخلوقون من نور، كما أخبر بذلك النبي ﷺ، وأنهم كما وصفوا في الكتاب والسنة، ومن زعم أن جبريل هو العقل الفعال، وهو ما يتخيل من نفس النبي ﷺ من الصور الخيالية، وكلام الله ما يوجد في نفسه، كما يوجد في نفس النائم، فهذا مما يعلم كل من علم ما جاء به الرسول ﷺ أنه من أعظم الأمور تكذيبًا للرسول ﷺ، ويعلم أن هؤلاء أبعد عن متابعة الرسول من كفار اليهود والنصارى، وأن هذا مذهب زنادقة الفلاسفة".

يعني: النبي ﷺ أخبرنا عن الملائكة وخلقهم، وأنهم خلقوا من نور، لكن هؤلاء الفلاسفة ومن شابههم يتحدثون بمحض عقولهم، وسبق أن الفلاسفة هم أضل الناس في الإلهيات، يعني: في أمور الغيب، وما يتعلق بالله وصفاته، وما إلى ذلك، وقل مثل هذا في سائر الأمور الغيبية، وكذلك من زعم أن جبريل هو العقل الفعال، هذا يقوله الفلاسفة، والعقل الفعال سبق الكلام عليه، وما المراد به؟ وأنه يطلق عدة إطلاقات، فيقولون: إن ما يوجد في نفس النبي ﷺ من الوحي، ونحو ذلك، هي مما يفيضه العقل الفعال على نفس النبي ﷺ؛ ولهذا يقولون: بأن الوحي هو فيض فاض من العقل الفعال على النفوس الطاهرة الزكية، إلى غير ذلك من الأباطيل التي يذكرونها، فالعقل الفعال تارة يقولون: هو جبريل، وتارة يقولون غير ذلك، في كلامهم الذي مضى في الكلام على العقول العشرة التي يزعمون أنها تدبر العالم، فهذا كله من الخيالات والوساوس التي يتخيلونها، ولا حقيقة لشيء من هذا.

"التشبيه الممتنع تشبيه الخالق بالمخلوق، أو تشبيه المخلوق بالخالق، فيمتنع اتصاف الرب بشيء من خصائص المخلوقين، كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق، ويمتنع أن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب، وأما إذا قيل: حيٌ وحيٌ، وعالم وعالم، وقادر وقادر، وقيل: لهذا قدرة، ولهذا قدرة، ولهذا علم، ولهذا علم، كان نفس علم الرب لم يشركه فيه العبد، ونفس علم العبد لا يتصف به الرب تعالى عن ذلك، وكذلك سائر الصفات، وليس في إثبات هذا محذور، فإن المحذور إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر".

يعني: الذي ورد في الكتاب والسنة نفي المماثلة، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] أما نفي المشابهة فلم يرد في نصوص الكتاب والسنة، وإنما الذي ورد نفي المماثلة؛ ولهذا الأدق في التعبير أن نقول: نثبت صفات الرب -تبارك وتعالى- من غير تكييف ولا تمثيل، لا نقول: ولا تشبيه، وإنما نقول: ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل.

وذكرنا في مناسبة سابقة أن الوجود أنواع، فهناك وجود ذهني، حينما نقول مثلاً: الحياة أو السمع أو البصر، فنحن نعرف الفرق بين الحياة وبين السمع وبين البصر، نعرف ما معنى هذا؛ فلما نقول: يد، نعرف أنها غير السمع والبصر والحياة، فهذا معنىً مشترك لا وجود له إلا في الأذهان، هذا الذي يُسمى الوجود الذهني، أنا قلت الآن: حياة، لكن إذا أردت شيئًا في الخارج فلا بد من تقييد، فتقول: حياة الله، وحياة زيد، وحياة عمرو، وحياة الإنسان، فإذا قيَّدته فهنا يكون للخالق حياة تليق بجلاله وعظمته، وللمخلوق حياة تليق بضعفه وعجزه وفنائه، فحياة الخالق لا تماثل حياة المخلوق، إذن أين وُجد الاشتراك؟ في الذهن، فإذا قيِّد فهذا الوجود الخارجي، فالأول هو الوجود الذهني، والثاني: هو الوجود الخارجي، هذا لا مجال للتماثل فيه، والتماثل هو التطابق من كل وجه، وأما التشابه فهو وجود قدر مشترك، مع وجود فروقات.

"ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء، وأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن القوة التي في العرش، وفي حملة العرش هو خالقها، بل نقول: إنه خالق أفعال الملائكة الحاملين، فإذا كان هو الخالق لهذا كله، ولا حول ولا قوة إلا به، امتنع أن يكون محتاجًا إلى غيره، ولا قال أحد: إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته، فضلاً عن أن يكون محتاجًا إلى قوة شيء من مخلوقاته، ولا يقول أحد: إنه محتاج إلى العرش، مع أنه خالق العرش، والمخلوق مفتقر إلى الخالق، لا يفتقر الخالق إلى المخلوق، وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات، وهو الغني عن العرش، وكل ما سواه فقير إليه".

يعني: أن الله -تبارك وتعالى- غناه ذاتي، فليس بمفتقر إلى شيء سواه، وكل مخلوق ففقره ذاتي، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق الملائكة، وهو الذي خلق العرش، وخلق حملة العرش، والله ليس بمفتقر إلى شيء من ذلك، وخلقه فقراء إليه من كل وجه، فحينما يخبر الله أنه استوى على العرش، أو يقول: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17] ليس معنى ذلك أنه -تبارك وتعالى- بمفتقر إلى شيء من هذه المخلوقات، بل هو المقيم لها، فلا قيام لشيء منها إلى بإقامته ، وهذا من معاني اسمه (القيوم) القائم بنفسه، المقيم غيره، القائم على خلقه بأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم.

"وقد استقر في بدائه العقول أن الأفعال الاختيارية من العبد تكسب نفس الإنسان صفات محمودة، وصفات مذمومة، بخلاف لونه وطوله وعرضه، فإنها لا تكسبه ذلك، فالعلم النافع، والعمل الصالح، والصلاة الحسنة، وصدق الحديث، وإخلاص العمل لله، وأمثال ذلك تُورث القلب صفات محمودة، ففعل الحسنة لها آثار محمودة في النفس، وفي الخارج، وكذلك السيئات، والله تعالى جعل فعل الحسنات سببًا لهذا، والسيئات سببًا لهذا، كما جعل أكل السم سببًا للمرض والهلاك، وأسباب الشر لها أسباب تُدفع بمقتضاها، فالتوبة والأعمال الصالحة يُمحى بها السيئات، والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات، والله تعالى يخلق الاختيار في المختار، والرضا في الراضي، والمحبة في المحب، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، ولهذا أنكر الأئمة على من قال: جَبَرَ الله العباد".

الحمد والذم إنما يكونان على الصفات الاختيارية، فعندنا الصدق والأمانة، والإيمان، والتقوى، صفات اختيارية، أما الطول والبياض، والسواد، والجمال، والدمامة، هذه ليست صفات اختيارية، فما يُحمد الإنسان إلا على الأوصاف الاختيارية، يقال: تقي، صادق، أمين، خلوق، أما الصفات الاضطرارية فلا يُحمد عليها؛ لأنه يحمد عليها من وهبها، فلا تحمد إنسان فتقول:  والله  والله والله ما شاء الله عليه طويل، على سبيل الحمد له، وإنما تقول: سبحان الخالق، إذا رأيته حسن الصورة، هذا ليس منه، وإنما من الله، فالذي يُحمد على ذلك هو مسدي النعمة.

وهكذا الذم، إذا كان الإنسان قصير القامة، أو كان دميمًا في خلقته، أو ضئيلاً، أو نحو ذلك، هل يذم بهذا؟ لا، هذا الذي أعطاه الله ، وليس بيده، فالحمد والذم لا يكونان إلا على الصفات الاختيارية، فالذي يريد الكمالات ما يعتز وينتشي ويرتفع بأمور لا يد له فيها، كأن يقول: أنا من البلد الفلاني، أو من القبيلة الفلانية، وأبي فلان، ونسبي فلان، أو نسبي يرجع إلى فلان، فهذه أمور لا يد لك فيها، لست أنت الذي اخترت النسب، ولا أن تكون من أهل ذلك البلد، ولا أن تكون بهذه الصفة من طول وقصر وجمال وخلافه، فهذه لا يتعلق بها المدح والذم، إنما أرنا أعمالك أنت، يقول الشاعر:

لئنْ فخَرْت بآباء لهم شرفٌ لقد صدَقْتُ ولكنْ بئس ما ولَدوا[14]

وقال الآخر:

إِنَّ الفَتَى مَنْ يقَوْلُ: هَا أنَاذَا لَيْسَ الفَتَى مَنْ يَقُوْلُ: كَانَ أَبِي[15]

فالإنسان يمدح بجِده وعمله واجتهاده وصلاحه وتقواه وانجازاته، فهذا مناط الحمد والذم، يكونان على الصفات الاختيارية.

أما المدح فبينه وبين الحمد فروقات، الحمد لا بد مواطأة القلب، أما المدح فقد يكون كاذبًا إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب[16]، المدح قد يكون على صفة اختيارية، أو قد يكون على صفة غير اختيارية، فالمدح أوسع من الحمد.

يقول: والله تعالى يخلق الاختيار في المختار والرضا، فالله هو المحمود أولاً وآخرًا، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53] فهو الأول والآخر، الأول: هو المبتدئ بالنعم، وهو الآخر الذي تصير إليه الأمور، وهو الذي يرث الأرض وما عليها، هذا بعض المعاني الداخلة في الأول والآخر، فمنه المبتدأ ، وإليه المنتهى، وعلى هذا بأي شيء يفتخر الإنسان، ويترفع على الناس، ويتعامل معهم بفوقية، ويظلمهم؟ فإذا كان فيه كمالات فيشكر ربه -تبارك وتعالى- على هذا ويتواضع، ويسأل ربه المزيد، وإذا كان فيه نقص استدرك، وهو يعلم أن الإنسان إنما يرتفع بتوبته وعمله الصالح.

"ومما يُبيّن هذا: أن الله تعالى جهة خلقه وتقديره غير جهة أمره وتشريعه، فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه، وما يضرهم، بمنزلة أمر الطبيب للمريض بما ينفعه، فأخبر الله على ألسنة رسله بمصير السعداء والأشقياء، وأمر بما يوصل إلى السعادة، ونهى عما يوصل إلى الشقاوة، وخلقه وتقديره يتعلق به، وبجملة المخلوقات".

"يتعلق به" يعني: الأمر والنهي (الشرع) شَرَعَه -تبارك وتعالى- لمصالح وحِكَم، يرتفع به الناس، ويكونون على حال من الاستقامة، ويعبّدون أنفسهم لله ، ويشرفون بهذا، فنهاهم عن كل ما يضرهم، وأمرهم بكل ما ينفعهم ويرفعهم، هذا التشريع (الأمر الشرعي)، لكن فيما يتعلق بالخلق والتقدير، فهذا أمر كوني، وأمره الكوني، وهو قدره وقضاؤه، وما يخلقه في هذا الكون، وما يوجده ، هذا تظهر فيه -وبجملة المخلوقات- معاني الأسماء الحسنى؛ القوي، العزيز، الجبار، الرحيم، الحليم، وما إلى ذلك من معاني الصفات، تظهر في هذه الأشياء التي نشاهدها، فنرى الناس في حال من القنوط، فينزل المطر، فتتجلى رحمته، ونرى قومًا مجرمين مكذبين مكابرين فينزل العذاب، فتتجلى قدرته وعزته وقوته، وكمال عدله، ويتجلى جبروته وعظمته، وتظهر فيه معاني الأسماء والصفات.

وبجملة المخلوقات يعني: أفعاله خير، والشر ليس إليه، لكن هذه الأفعال قد يحصل بسببها ضرر على بعض الأفراد، فتكون بالنسبة إليه شرًا ونقمة، فهذا المطر الذي ينزله الله ، ويسوق السحاب، وتنزل الأمطار، هذا خير، وفيه مصالح عظمى كلية للناس، لكن بيت زيد انهدم، وعمرو غرق ولده، وفلان انجرفت سيارته في الوادي، فهذا شر بالنسبة لهذا المعين، لكن بالنظر إلى الأمر الكلي -جملة المخلوقات- فنزول المطر مصلحة وخير، قد ينزل قرار من إنسان حكيم، له ولاية، فيه مصلحة للناس، لكن يتضرر منه زيد في بعض مصالحه، ويتضرر منه عمرو، لكن بقيت المصلحة العامة ظاهرة، فهذا يكون خير أو شر؟ يكون خيرًا، وهكذا، ففي جملة المخلوقات ليس الشر في شيء من أفعال الله، كلها خير، لكن الشر في مفعولاته قد يقع في المخلوق.

"وخلقه وتقديره يتعلق به وبجملة المخلوقات، فهو يفعل لما فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه، كالمطر، وإن كان في ضمن ذلك تضرر بعض الناس بسقوط منزله، وانقطاعه عن سفره، وتعطيل معيشته، وكذلك رسالة محمد ﷺ، لما في إرساله من الرحمة العامة، وإن كان في ضمن ذلك سقوط رئاسة قوم، وتألمهم بذلك".

يعني: الآن ذاك الذي سقط بيته، وهو من أهل الإيمان، أو غرق ولده، أو تعطلت سيارته، أو نحو ذلك، هو يُؤجر أيضًا، والله لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وبعث النبي ﷺ خير وصلاح للبلاد والعباد، لكن ببعثة النبي ﷺ سقطت رئاسة هذا، وهذا سبيت نساؤه، وهذا قتل، فشيخ الإسلام يقول: حتى هؤلاء الذين قتلوا، وسقطت رئاساتهم، لا يخلو من خير، أنه لم يتمادَ في الشر، فجُعل للشر الذي يصدر منه حد، فخير له من أن يبقى في رئاسته وملكه والشر جارٍ على يده، والكفر مقرٌ في رعيته، يقول: هذا خير بالنسبة  له؛ وهذا الذي قُتل، خير له من أن يبقى يعيش مدة أطول على الكفر فيزداد كفرًا.

"فإذا قدِّر على الكافر كفره، قدَّره لما في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري، وإن كان مقدرًا، ولما له في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة.

الإنسان حي حساس، متحرك بالإرادة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: أصدق الأسماء الحارث وهمام[17] فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: كثير الهم، والهم مبدأ الإرادة والقصد، فكل إنسان حارث همام، وهو المتحرك بالإرادة؛ وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور، فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد، فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور، وما هو من جنسه، كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس، ونحو هذه الأمور".

يعني: أن نفسه تتوجه بالهم بقصد الفعل حينما يحصل له الإدراك، وحينما يحصل له الشعور بالشيء، ويكون هذا المعلوم يستهويه، ويروق له، ولو كان معصية، فنفسه تتطلبه؛ لماذا؟ لأنه حساس همام وحارث، فهو كثير الهم، فالخطرات لا تتوقف عنده، والهم دون العزيمة، ثم بعد ذلك هو كاسب عامل، فإذا عُرف هذا فإن العبد يجتهد في توجيه إراداته ومراداته إلى ما يرضي الله -تبارك وتعالى-، فيكون حرثه وسعيه وكده في طاعة ربه ومليكه .

"فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب، والحي مفطور على حب ما ينفعه ويلائمه، وبغض ما يكرهه ويضره، فإذا تصور الشيء الملائم النافع أراده وأحبه، وإذا تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه".

ولذلك حينما نشرح معاني الأسماء الحسنى مثلاً فهذا يحرك النفوس إلى الإقبال إلى الله، وتعظيمه، وطاعته، وحينما تذكر صفات القوة والعظمة والجبروت، وما إلى ذلك، فإن هذا يجعله ينقبض من معصيته، ويخاف، وهكذا حينما نذكر صفات النبي ﷺ، فتُقبِل القلوب على محبته وإجلاله وتعظيمه، فيكون أحب إليها مما سواه -عليه الصلاة والسلام-، وقل مثل ذلك إذا بُيِّن فضل العلم أقبلت النفوس عليه؛ ولهذا يحتاج الإنسان إلى بيان فضائل الأعمال مثلاً، تُبيّن فضل الصلاة، وفضل التبكير إلى الجمعة، وفضل بر الوالدين؛ من أجل أن يقبل الإنسان على هذا.

وهكذا حينما تُبيّن ما ورد من الزجر في التقصير بهذه الأمور، فإن النفس تحجم؛ لماذا؟ لأن الإنسان حساس، له شعور، فهذا الشعور هو المقدمة للإرادة، تريد أنه ينجذب فأبرز له ما يجذبه في هذه الأمور، فتنجذب نفسه نحوها، فيحصل منه القصد والهم، ثم يتحول إلى عزيمة، ثم يكون عملاً في الخارج، وهكذا إذا أردته لا يقبل على هذا فنفره منه، اذكر له ما فيه من القبح، والمعاني السيئة.

"لكن ذلك التصور قد يكون علمًا، وقد يكون ظنًّا وخرصًا، فالفطرة مجبولة على حب ما تحتاج إليه، ودفع ما يضرها، وأنها تستعين بالله على ذلك، وهذا موجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده، وإيجابها ذلك؛ ولهذا أمر الله العباد أن يسألوه أن يعينهم على فعل ما أمر.

أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله خالق أفعال العباد، وعلى أن العبد قادر مختار، يفعل بمشيئة وقدرته، والله خالق ذلك كله، وعلى الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية، وعلى أن الرب يفعل بمشيئته وقدرته، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لم يزل قادرًا على الأفعال، موصوفًا بصفات الكمال، متكلمًا إذا شاء، وأنه موصوف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله محمد ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون علمه المحيط، ومشيئته النافذة، وقدرته الكاملة، وخلقه لكل شيء، ومن هداه الله لفهم قولهم علم أنهم جمعوا محاسن الأقوال، وأنهم وصفوا الله بغاية الكمال، وأنهم المتمسكون بصحيح المنقول، وصريح المعقول، وأن قولهم القول السديد السليم من التناقض، الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه".

هذا الكلام مضى في مناسبات شتى، وهو في غاية الوضوح، وقوله هنا: بأنهم متفقون على الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية[18]، طبعًا يقصد بالنسبة للمخلوقين، فالأفعال الاضطرارية هي ما يصدر عنا مثل: الرعشة، وحركة المصروع، وحركات النائم، والحركات الاختيارية: هي ما نزاوله بإرادتنا واختيارنا، فالحساب والجزاء يتعلق بأفعالنا الاختيارية مما يتصل بالتكليف.

"أنعم الله على المكلفين بنعم أصولية وفروعية، مشتركة بين البر والفاجر، وخص المؤمنين بنعم أخرى، بها تمت عليهم النعمة، فأوجدهم بعد العدم، وخلق لهم الأسماع والأبصار والعقول، وجميع ما تتم به العافية، وأعطاهم قوتين عظيمتين، بها يوجدون أفعالهم، ويختار كل منهم ما أراد من الأفعال الحسنة والقبيحة، وهما المشيئة والإرادة والقدرة، وباجتماع القوتين تتم الأقوال والأفعال، ثم أنه كمل على جميعهم النعمة، بأن أمرهم أن يصرفوا مشيئتهم وإرادتهم إلى ما ينفعهم مما يحبه الله ويرضاه، وأن يمتنعوا عما يكرهه الله، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ لتفصيل ما يحبه الله مما يكرهه، والترغيب في هذا، والترهيب من هذا بكل وسيلة وطريق، وأخبرهم بما يترتب على ذلك من الثواب والعقاب، وأشهدهم أنموذجًا من ذلك في دار الدنيا، وكل هذه الأمور وتوابعها اشترك فيها كل أحد، فلم يبق لأحد على الله حجة، بل حجته ورحمته وصلت إليهم كلهم، ثم إنه تعالى خص المؤمنين بخصائص من رحمته بها آمنوا، واهتدوا، وعملوا الصالحات، وهو أنه حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم كل ما فعلوا شيئًا من الهداية، وقصدوا مراضي ربهم أمدهم بهدايات متنوعة، ولطف بهم، ويسرهم لليسرى، وجنبهم العسرى، وحفظهم، ودافع عنهم بإيمانهم السوء والفحشاء، فاستقاموا على الصراط المستقيم بمنته ورحمته، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، أفبعد هذا يبقى حجة للمعاند، وشغب للمكابر؟ يحتج فيه بالقدر، ولم يبق إلا أن يقول: كيف خص المؤمنين بما خصهم به دوننا؟ فيقال: هذا فضله وإحسانه يؤتيه من يشاء، فلم يمنع الكافر والفاجر حقًا له يستحقه، بل منع عنه فضله الذي خص به المؤمنين لكمال حكمته، ولعلمه أنه لا يستحق هذا الفضل؛ لإعراضه عن ربه، واعتراضه عليه، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23]".

يقول: أنعم الله على المكلفين بنعم أصولية وفروعية مشتركة بين البر والفاجر، المؤمن والكافر، مثل ماذا؟ بعْث الرسل، وإنزال الكتب، وهداية الإرشاد، هذه نعمة لجميع الخلق، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] يقوله لنبيه ﷺ، فهذه مشتركة بين الجميع، لكن هداية التوفيق التي في قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] خص بذلك بعض خلقه، فهداهم واجتباهم وحباهم، فهذا فضله يؤتيه من يشاء، فليس لأحد أن يحتج على الله ؛ لأن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن للخلق ما يحتاج إليه، ولم يترك في الحق لبسًا، بقي أن يقول: بأن الله لم يوفقه للهدى، فيقال: هذا فضله يؤتيه من يشاء، لكن حينما يتخلف هو عن أسباب الهدى، وعن العمل بطاعة الله ، هو لم يطلع على ما في الكتاب الأول، ولم يطلع على القدر، ولم يطلع على اللوح المحفوظ، لكن نفسه قعدت به عن طاعة الله ، محتجًا بأنه لم يُوفق، وأن الله لم يهده، فليس لأحد أن يحتج على الله بهذا، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد:17]، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ۝ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10].

"خلق الله إبليس كما خلق الحيات والعقارب والنار، وغير ذلك؛ لما في خلقه ذلك من الحكمة، وقد أمرنا أن ندفع الضرر عنا بكل ما نقدر عليه، ومن أعظم الأسباب استعاذتنا منه، فهو الحكيم في خلق إبليس وغيره، وهو الحكيم في أمرنا بالاستعاذة منه، وهو الحكيم إذ جعلنا نستعيذ به، وهو الحكيم في إعاذتنا منه، وهو الرحيم بنا في ذلك كله، المحسن إلينا، المتفضل علينا، إذ هو أرحم بنا من الوالدة بولدها، وهو الخالق لتلك الرحمة، خالق الرحمة أولى بالرحمة من الرحماء".

هذا جواب على سؤال في خلق الله بعض المخلوقات، كإبليس والأشياء التي يتأذى الناس منها، كالحيات والعقارب والحشرات، وما إلى ذلك، فيقال: الله عليم حكيم، فما ظهر للعبد حكمته فبها، وما خفي منه فيرجع إلى هذا الأصل الكبير: أن الله لم يخلق شيئًا إلا لحكمة، فخلق إبليس مثلاً فيه ضرر على من أغواهم، ومن أضلهم، وما إلى ذلك، وفيه مصالح كلية عظمى، فبخلق إبليس تظهر المجاهدات، ويحصل الامتحان والابتلاء والاختبار للخلق، ويتمايز الناس، فيظهر المؤمن من الكافر، والمطيع من العاصي، وكذلك أيضًا تتمايز نهاياتهم ومآلاتهم، ففريق إلى الجنة، وفريق إلى السعير، فيوجد هؤلاء، ويوجد هؤلاء، وتظهر بذلك من معاني أسمائه الحسنى، وصفاته العلى الشيء الكثير، فيما يعامل الله به أولياءه وحزبه، وما يعامل به أعداءه من حزب الشيطان وأوليائه، إلى غير ذلك، حتى إن بعضهم لربما سأل: ما الحكمة من خلق الذباب؟ فكان الجواب: ليذل الله به أنوف الطغاة أو الجبابرة، هذه قد يقال: إنها من الحكم، ولكن الله له حكم كثيرة في هذه الأشياء، لا نعلمها، ولكن الله هو الذي يعلمها، لا يوجد شيء إلا لحكمة.

"قد ضمن الله السعادة لمن أطاعه، وأطاع رسوله ﷺ، وتوعد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك، فطاعة الرسول ﷺ هي مناط السعادة وجودًا وعدمًا، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار، ومحمد ﷺ فرقٌ بين الناس، فدل الخلق بما بينه لهم، وقد قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] فمن اجتهد بطاعة الله ورسوله بحسب الاستطاعة، كان من أهل الجنة، والله يرفع درجات المتقين المؤمنين بعضهم على بعض بحسب إيمانهم وتقواهم".

كما قال الله : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] وقال: فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] قال: ولا يشقى فإذا كان لا يشقى فهذا نفي الشقاء في الدور الثلاثة في الدنيا والبرزخ والآخرة، فإذا نفى عنه الشقاء معنى ذلك أنه يكون في سعادة؛ ولهذا قال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] هذا في الدنيا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] فعلى قدر ما يكون عند العبد من اتباع الرسول ﷺ والهدى الذي جاء به، والاستقامة على طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ يكون عنده من الانشراح والسرور واللذة والسعادة والحبور، وإذا كان معرضًا بعض الإعراض يكون له من الوحشة والضيق بقدر ما عنده من الذنوب والمعاصي والمخالفات.

والله أعلم.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم (2865).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل برقم (1145) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل برقم (758).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين برقم (780) ومسلم في الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين برقم (410).
  4. أخرجه مسند أحمد ط الرسالة برقم (7572) وقال محققو المسند: "حديث صحيح".
  5. من قول الزهري كما في صحيح البخاري (9/ 154).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم برقم (304) ومسلم في الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات برقم (79، 80).
  7. منهاج السنة النبوية (2/ 345).
  8. درء تعارض العقل والنقل (1/ 209).
  9. منهاج السنة النبوية (2/ 345).
  10. هذا من الأمثال العربية، انظر: مقاييس اللغة (4/ 134).
  11. أخرجه البخاري في كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن -رضي الله عنه- برقم (3706) ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل علي -رضي الله عنه- برقم (2404).
  12. أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب في كتاب العلم برقم (3646) وصححه الألباني.
  13. البيت للكميت بن زيد في الدر الفريد وبيت القصيد (4/ 157).
  14. البيت في الدر الفريد وبيت القصيد (9/ 85) بلا نسبة، وفي أخبار القضاة (3/ 162) منسوباً إلى القاضي شريك.
  15. البيت منسوب للإمام علي -رضي الله عنه- في مجاني الأدب في حدائق العرب (1/ 21).
  16. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح، إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح برقم (3002).
  17. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء برقم (4950) وصححه الألباني، ولفظه: ((أحب الأسماء إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقها حارث، وهمام)).
  18. منهاج السنة النبوية (3/ 129).

مواد ذات صلة