الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
توصيف كتاب رياض الصالحين
تاريخ النشر: ٢٨ / ذو القعدة / ١٤٢٢
التحميل: 9984
مرات الإستماع: 5352

بسم الله الرحمن الرحيم

توصيف كتاب رياض الصالحين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فحديثنا في هذه الليلة عن توصيف لكتاب رياض الصالحين: تختلف مقاصد العلماء -رحمهم الله- وطرقهم  في تأليف سنة النبي ﷺ، فمنهم من يقصد جمع حديث رسول الله ﷺ بحسب المسانيد، وبعضهم يقصد جمعه على طريق أبواب العلم، كالبخاري ومسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي وما أشبه ذلك، فيذكرون أبواب العلم، الإيمان، الطهارة، الزكاة، الصلاة، الحج، والجهاد، والمعاملات، وأشياء في الأخلاق والفضائل والآداب، وما إلى ذلك.

وبعضهم يقصد جمعه على أحاديث الأحكام خاصة، كما فعل المقدسي في أحكامه الصغرى والكبرى، وكما فعل الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وكما فعل أيضاً المجد في كتابه منتقى الأخبار، فهؤلاء يجمعون حديث رسول الله ﷺ الذي يتعلق بالأحكام خاصة، فيذكرون المياه ثم الطهارة على ترتيب أبواب الفقه.

أما النووي -رحمه الله- فإنه قصد قصداً آخر، فأراد أن يجمع كتاباً يجمع فيه الأوامر المتوجهة إلى المكلف، مما يتعلق بعبادته كصلاته وصيامه وزكاته وحجه وما إلى ذلك، والمنهيات المتوجهة إليه كالنهي عن رذائل الأخلاق كالكبر والغيبة والنميمة، وما شابه ذلك، وأيضاً المكروهات، وكذلك المستحبات وفضائل الأعمال، فهذا الكتاب بهذه المثابة لا يعد من كتب الأحكام، ولا يعد من الكتب التي تقصد جمع الحديث مبوباً على أبواب العلم، وإنما قصد أن يضع كتاباً يصلح لعامة الناس على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم في العلم، فهو يصلح للعامة، ويصلح لطلاب العلم، فهو كتاب عظيم النفع، وهذا من الأسباب التي جعلت لهذا الكتاب قبولاً ورواجاً على مر العصور.

والنووي -رحمه الله- ذكر في مقدمته ما قصده من تأليف هذا الكتاب، وأشار إلى الطريقة التي سار عليها فيه، فهو يقول:

قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57]، وهذا تصريح بأنهم خُلقوا للعبادة، فحق عليهم الاعتناء بما خلقوا له، والإعراض عن حظوظ الدنيا بالزهادة، فإنها دار نفاذ لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشرع انفصام لا موطن دوام، فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العُباد، وأعقل الناس فيها هم الزهاد، ولهذا لما ذكر الله خبر أيوب ﷺ وذكر قصته في موضعين متشابهين من كتاب الله عقب ذلك في أحد الموضعين بقوله: فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84] وفي الموضع الآخر وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ [ص:43]، فأخذ بعض العلماء -وهو ما يسمى بدلالة الإشارة عند الأصوليين- من مجموع الآيتين أن أعقل الناس، وأن أولي الألباب هم أعبد الناس؛ لأنه قال في أحد الموضعين وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ، وفي الموضع الآخر وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ، فالعابدون هم أصحاب العقول، وأصحاب العقول هم أهل العبادة، ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن الرجل لو أوصى بماله أو بشيء من ماله لأعقل أهل البلد فإنه يُعطَى لأعبد أهل البلد، أخذاً من هاتين الآيتين.

فالنووي -رحمه الله تعالى- يقول: فلهذا كان الأيقاظ من أهلها، وأعقل الناس فيها هم الزهاد، وصدق -رحمه الله؛ لأن نظرهم كان بعيداً فآثروا الباقي الدائم على المستلذ العاجل.

ولذلك فإن من آثر الدنيا ومتع الدنيا فإنه يكون قد قصر نظره فلم يجاوز أنفه، واستعجل شيئاً كان الحري به أن يتمهل وأن يتمعن وأن ينتظر كي يخلد إلى نعيم دائم لا انقطاع له، قال الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] والآيات في هذا كثيرة، ولقد أحسن القائل:

إنّ للهِ عباداً فُطَنا طلّقوا الدنيا وخافو الفِتنا
نظروا فيها فلمّا علموا  أنها ليست لحيٍّ وَطَنا
جعلوها لُجَّة واتخذوا  صالحَ الأعمال فيها سُفنا

يقول النووي -رحمه الله: فإذا كان حالها ما وصفتُه، وحالنا وما خُلقنا له ما قدمتُه فحق على المكلف أن يذهب بنفسه مذهب الأخيار، ويسلك مسلك أولي النهى والأبصار، ويتأهب لما أشرت إليه، ويهتم بما نبهت عليه، وأصوب طريق له في ذلك، وأرشد ما يسلكه من المسالك التأدب بما صح عن نبينا سيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.

وبهذا نعرف أن النووي -رحمه الله- قصد بذلك أن يربي هذه النفس وأن يرفعها إلى سلم في درجات عالية من سلم العبودية، فالمقصود من هذا الكتاب هو تزكية النفوس، وإصلاحها باتباع سنة نبينا محمد ﷺ.

يقول-رحمه الله: وقد قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] وقد صح عن رسول الله ﷺ : والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه[1] ،وأنه قال: من دل على خير فله أجر فاعله[2] ،وأنه قال: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا[3]، وأنه قال لعليٍّ -: فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم[4].

فرأيت أن أجمع مختصرًا من الأحاديث الصحيحة مشتملاً على ما يكون طريقًا لصاحبه إلى الآخرة، ومحصلًا لآدابه الباطنة والظاهرة، جامعًا للترغيب والترهيب وسائر أنواع آداب السالكين، من أحاديث الزهد، ورياضات النفوس، وتهذيب الأخلاق وطهارات القلوب وعلاجها، وصيانة الجوارح، وإزالة اعوجاجها، وغير ذلك من مقاصد العارفين، وألتزمُ فيه أن لا أذكر إلا حديثًا صحيحًا من الواضحات، مضافًا إلى الكتب الصحيحة المشهورة، وأُصدِّر الأبواب من القرآن العزيز بآيات كريمات، وأوشِّح ما يحتاج إلى ضبط أو شرح معنى خفي بنفائس من التنبيهات، وإذا قلت في آخر حديث: متفق عليه، فمعناه رواه البخاري ومسلم.

إلى آخر ما ذكر -رحمه الله تعالى رحمة واسعة، فقصد بهذا الكتاب أن يذكر الأحاديث الصحيحة خاصة، وأن يقتصر عليها، وقد قسمه كما ذكر إلى أبواب متعددة، إلى أبواب كثيرة، قسمه إلى كتب، وتحت هذه الكتب جملة من الأبواب، والعلماء عادة يقسمون هذا التقسيم للتسهيل والتيسير، ولترتيب مسائل العلم، لتجتمع المسائل المشتبهة تحت باب واحد يجمعها، ولا شك أن ذلك أيسر على القارئ والناظر فيه؛ لأن من يقرأ كتابًا مسرودًا سردًا واحداً من أوله إلى آخره فإن ذلك مظنة للملل، ولكنه إذا بوبه فيكون كالمسافر يقف في محطات متتابعة، فهو يعاود نشاطه بعد كل محطة، ولهذا كان كتاب الله ، مقسمًا إلى سور كما هو معلوم، والله تعالى أعلم.

فالإمام النووي-رحمه الله- جعل كتاب رياض الصالحين على كتب، وجعل تحت هذه الكتب أبوبًا، وجملة ما فيه من الكتب تسعة عشر كتابًا، سماها كلها، غير الكتاب الأول لم يضع له عنوانًا، وجملة ما فيه من الأبواب ثلاثمائة واثنان وسبعون بابًا، وربما ذكر الكتاب وأراد به الباب في بعض المواضع القليلة، كما فعل في كتاب الفضائل، حيث أدرج تحته كتاب الاعتكاف، وكتاب الحج.

وقد أدرج -رحمه الله- في الأبواب -كما ذكر هنا في المقدمة- بآيات من القرآن، ثم يذكر الأحاديث عن النبي ﷺ، ولربما أشار إلى بعض الآيات التي ذكرها في باب أو مناسبة سبقت، ولربما أشار إلى بعض الأحاديث التي ذكرها في موضع سابق.

وكأنه يشرح هذه الآيات بالأحاديث عن رسول الله ﷺ واعتنى بالنقل عن الصحيحين خاصة، وينقل أيضاً عن السنن، كسنن الترمذي، وأبي داود، والنسائي من الكبرى، وينقل أيضًا عن الحاكم في المستدرك، والموطأ لمالك، وينقل من سنن ابن ماجه، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي، وصحيح ابن خزيمة، وسنن البيهقي الكبرى، وينقل أيضاً عن سنن الدارقطني.

ويضبط بعض الكلمات المشكلة، ويفسر غريب الحديث الذي يحتاج إلى تفسير، ويذيِّل الحديث ويعقب ما يذكره من الروايات، يعقب ذلك بدرجة الحديث، وليس ذلك دائماً، فأحيانًا يكتفي بكلام المصنف الذي خرّج الحديث كالترمذي، كأن يقول: حسن صحيح، وأحيانًا يكتفي بما سكت عنه أبو داود في سننه، وفي كثير من الأحيان إذا كان الحديث في غير الصحيحين يذكر درجته.

ويذكر رواةَ الحديث من أصحاب النبي ﷺ، ويطيل أحيانًا في ذكر كُنى الراوي، وما له من ألقاب وما شابه ذلك، مما وقع فيه خلاف بين المترجمين له.

هذا توصيف لهذا الكتاب، وأسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (4/ 2074)، رقم (2699).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخير (3/ 1506)، رقم: (1893).
  3. أخرجه مسلم،  كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/ 2060)، رقم: (2674).
  4. أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن (3/ 1357)، رقم (3498)، ومسلم،  كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب، (4/ 1872)، رقم: (2406).

مواد ذات صلة