الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «كان ملك فيمن قبلكم..» (1-9)
تاريخ النشر: ١١ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3069
مرات الإستماع: 4389

استخدام القصص كوسيلة تعليمية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما ذكره الإمام النووي -رحمه الله- في باب الصبر حديث صهيب في قصة الغلام والراهب والساحر، وهو حديث طويل معروف، أما صهيب فقد ذكرنا طرفاً من خبره، وترجمته .

عن صهيب أن رسول الله ﷺ قال: كان ملِك في من كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبِر قال للملك ...[1].

من هذا نستنبط فائدة، وهي: أن من وسائل التعليم والتربية، والدعوة إلى الله ذكر الأخبار والقصص، ولا شك أن النفوس تتطلع إلى ذكر الأخبار، وتتشوق إلى معرفتها، وهذا أمر قد جبلت عليه النفوس، لا ينكر، وتجد النفوس في سماع الأخبار من النشاط ما لا تجده عند سماع تقرير مسائل العلم ابتداء، لكن كل شيء له ما يناسبه ويلائمه، وكل شيء له قدره المناسب، فالإسراف في القصص والأخبار أمر لا يجمل ولا يحسن، ولم يكن ذلك من هدي النبي ﷺ في دعوته وتعليمه، فكان ﷺ تارة يعلم ابتداء، فيأمر وينهى وينكر، وتارة يذكر الخبر والقصة، وتارة يسأل أصحابه ثم يجيبهم، وتارة يسألونه ثم يجيب ﷺ، وتارة يختلفون فيما بينهم، فيبين لهم وجه الصواب، إلى غير ذلك من وسائله في التعليم، ومعلوم حديث جبريل ﷺ لما جاء في صورة رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب[2]، إلى آخر الحديث المعروف.

فذكرُ القصص لا شك أنه مفيد، إذا كانت هذه القصص هادفة، وهو أمر حسن لا غضاضة فيه، ولاسيما النفوس الشاردة التي لم تتروض بعد على العلم، ولم تعتد على سماعه، فإنه قد يثقل عليها وتثقل عليها مجالسه، فإذا سمعت شيئاً من هذه الأمور التي تخف على النفوس فإنها تتقبل ذلك غالباً، ولكن يراعى في هذه القصص أن تكون نافعة، وإلا فإن القصص من شأنها أن تدمر، وأن تلعب بالمشاعر والغرائز، وأن تحرك كوامن النفوس، لتنبعث إلى مقارفة ما لا يليق، وتمتد النفس متطلعة إلى معصية الله ، بل لربما سهلت عليها الجريمة بسبب دربتها في قراءة مثل هذه القصص والأخبار؛ إذ إن من شأن ذلك أن يرقق أثره في النفس، فيخف، ويرى الإنسان أنه لا غضاضة فيه، وما أخبار المسلسلات والأفلام غير المسئولة عن مسامعكم ببعيد، وما أخبار آثارها عن مسامعكم ببعيد، العصابات، الجريمة، والسرقة من غير حاجة، إلا أنهم صاروا يطبقون ما شاهدوه في تلك الحكايات والأفلام والبرامج التي تدلهم على المكروه، وتزين لهم ذلك على أنه بطولة، وأنه مهارة.

والقرآن فيه الكثير من القصص، وفي سنة رسول الله ﷺ قدر صالح من ذلك، وهي أفضل هذه القصص، فينبغي لنا أن نعتني بها، وأن نتفهمها ونتدبرها، وأن نذكر منها من الفوائد والعبر ما نحتاج إليه في سلوكنا إلى الله -تبارك وتعالى.

كان ملك فيمن قبلكم

يقول: كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، يعني: في الأمم الغابرة، والسحر معروف، بعض أهل العلم يقول: إنه مأخوذ من الخفاء؛ لأن الساحر إنما يأتي ما يأتي من كيد وتدبير بطريق خفية، يخفى مأخذها على الناس، سواء كان ذلك من نوع الخداع والإيهام -وهو لون من ألوان السحر بمعرفة خواص الأشياء، وإن لم يكن له حقيقة، بمعنى: أنه يكون قلباً للأشياء عن حقائقها، وإنما على سبيل التمويه- أو كان ذلك أخذاً للأبصار، بحيث إنه يتراءى له الأمر على غير حقيقته، أو كان ذلك من النوع الثالث، وهو موجود ثابت على الأرجح من أقوال أهل العلم، وهو يحصل بإذن الله : وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ [البقرة:102]، وذلك عن طريق إمراض الصحيح، وإجهاض الحامل، بل لربما وصل بالإنسان إلى حد القتل بالسحر، وكم من بيوت قد خربت -وأهلها لا يدرون عن سبب خرابها- عن طريق السحر.

فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ[البقرة:102]، عن طريق الحب والبغض، وعن طريق النفرة التي توجد في القلب، أو تصوير الزوج أو الزوجة بصورة مستبشعة كريهة، أو غير ذلك مما يحصل في نفس المسحور، هذا كله موجود، ونسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة من الشرور، ومن الأشرار ومن كيد الفجار.

فهذا الساحر يقول: لما كَبِر -بالكسر- يعني: تقدمت به السن، وبالضم كَبُر بمعنى: عظُم، تقول: كَبُر هذا الأمر بمعنى عظم، وتقول: كَبِر هذا الولد بمعنى صار كبيراً، هذا هو الفرق بين كَبِر وكَبُر.

قال: فلما كبِر هذا الساحر، قال للملك: إني قد كبِرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، وهذا فيه من العبر ما لا يخفى، ويؤخذ منه أن هؤلاء الذين تغلغل الشر إلى دخائل نفوسهم، فأشربت قلوبهم هذا الشر، أو السحر، أو الباطل، أنهم لا يتركونه إلى آخر نفس، لا يتركونه مظنة الكِبر.

والإنسان يعلم بانتقاله وزواله من هذه الحياة، ولذلك شُرع لنا أن يقول الكبير -بالذات أكثر من غيره: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، يقولها الإنسان في حال تقدم العمر، إذا وقع به مرض مخوف يتوقع منه الموت، فإنه يكثر في آخر أيامه أن يقول ذلك، ويكثر من الاستغفار كما أمر الله نبيه ﷺ بعد أن أدى مهمته في البلاغ أن يقول ذلك.

فهؤلاء الأشرار يزدادون شراً وغياً على شرهم وباطلهم وغيهم، حتى عند ظن الانتقال من هذه الحياة والمفارقة لهذا العيش، ولا يترك ما هو فيه، فينبغي أن يكون أهل الحق، وأهل الصدق، وأهل الإيمان أولى وأوفى، وأثبت على مبادئهم إلى آخر رمق.

وواضح أن ذلك الملك من الأشرار؛ لأنه قرب الساحر، ولو كان من أهل الفضل والخير لما قرب الفجار، وهذا الملك الشرير ليس بحاجة إلى من ينبهه إلى شر جديد يبقى فيه ضرره وشره وباطله، ولكن بطانته السيئة تغريه بالمنكر، فيتضاعف ذلك في نفسه، مع ما يوجد فيه ابتداء.

يقول له: أنا قد كبرت فأتني بشاب صغير أعلمه السحر، ليمتد ذلك أطول مدة ممكنة، فيبقى السحر في أرضك وبلدك ومملكتك، كما قال الملأ من قوم فرعون: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127]، ففرعون ليس بحاجة إلى أن يقال له هذا الكلام، فهو يكفي وحده، ولا يحتاج إلى إغراء بالباطل والشر.

فجاوب فرعون على وجه الإسراع سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127].

فينبغي لكل أحد من أهل الفضل والعلم والبر والتقوى والمعروف أن يغرس غراساً، وهذا الصغير الذي تحقره الآن سيكون كبيراً عما قريب بإذن الله ، وكل العظماء كانوا في يوم من الأيام أطفالاً في مهدهم لا يفقهون شيئاً، ولا يعلمون شيئاً من أمور العظمة، وإنما كان لهم ذلك بفضل الله ، ثم بالتربية الصحيحة التي تدرجوا فيها في سلم الكمالات، فلا ينبغي أن تحقر شيئاً، فإذا كان أهل الشر بهذه النفس يريدون بقاء الشر من بعد موتهم، فأهل الفضل والصلاح أولى بذلك، والنبي ﷺ قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له[3] فيترك علماً، والله يقول: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، على أحد التفسيرين: وَآثَارَهُمْ بمعنى: ما تركوه، وخلفوه من بعدهم من العلم الذي ينتفع به، أو غير ذلك مما تركوه من المنافع العامة، كالأوقاف، والمساجد التي عمروها، وغير ذلك مما تركوه.

ولا أدري ماذا يستفيد الواحد من أهل الشر حينما يترك تركة من الشر يأتيه وزرها على مر الليالي والأيام؟

الإنسان يكفيه ذنوبه، تهلكه وتحرقه، فضلاً عن أن يتحمل ذنوب الآخرين، تصور إنساناً يشقى، ويعافس ما يعافس من الجرائم والآثام لنفسه بسبب شهواته، فأمره إلى الله سيجازيه على هذه المعاصي، لكن حينما يكون هذا الشر متعدياً، يُخرج برامج، تمثيليات، مسلسلات يراها الملايين، وهي أشياء محرمة، فكل من نظر إليها فهو له نصيبه من الوزر، لا ينقص من أوزارهم شيئاً.

الواحد ذنوبه لوحدها تكفي، فما حاجته في ذنوب الناس؟ حينما يكتب كتابة يضلل بها الآخرين ما حاجته بهذا؟ كل من قرأ هذه الكتب، وضل بسببها على مر القرون فله نصيب من الوزر، فهؤلاء الذين في المقابر لم تتوقف أعمالهم، يأتيهم إما من الثواب، أو من الأوزار بحسب ما خلفوا، وتركوا.

فينبغي للإنسان أن ينتبه لهذه القضية، فتكفيك ذنوبك، وإذا مت دعها تنقطع بعدك، أما أن يبقى يتلقى كل يوم فاجعة وهو في قبره فهذا أمر في غاية السوء بالنسبة إليه، وذلك أمر يزيد في وزره، ويثقل كاهله، ونحن ضعفاء لا نطيق، ولا نتحمل عذاب الله .

نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يفتح قلوبنا للهدى والتقى والعفاف والغنى، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام (4/ 2299)، رقم: (3005).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله -سبحانه وتعالى-(1/36)، رقم: (8).
  3. أخرجه الترمذي، كتاب الأحكام، باب في الوقف (3/ 660)، رقم: (1376)، والنسائي، كتاب الوصايا، فضل الصدقة عن الميت (6/ 251)، رقم: (3651).

مواد ذات صلة