الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
الحديث عن آيات الباب
تاريخ النشر: ٠٨ / ربيع الأوّل / ١٤٢٦
التحميل: 2641
مرات الإستماع: 2569

قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ۝ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فابتدأنا في الليلة الماضية الحديث عن المراقبة، وبينا أن المراد بالمراقبة: أن يستحضر العبد مراقبة الله واطلاعه عليه، في كل حركاته، وسكناته، وأحواله، وشئونه كلها، فينعكس أثر ذلك على عمل الإنسان، ويكون عليه رقيب من نفسه، يراقب عمله، ويراقب لحظه، ولسانه وجوارحه.

فإذا هم بعمل من الأعمال تذكر رقابة الله ، ثم بعد ذلك لم يقدم إلا على ما يبيض وجهه عند لقاء ربه، الله يراه، والملائكة يكتبون وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ ۝ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الإنفطار:10-12].

أورد الإمام النووي -رحمه الله- كعادته في صدر الباب جملة من الآيات، فمن ذلك قول الله : الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ۝ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218-219] أي: حين تقوم إلى صلاتك، على أحد الأقوال التي ذكرها المفسرون، يراك حين تقوم من الليل لتصلي.

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، وذلك أنه يراه في تقلبه بين راكع وساجد في أحوال الصلاة كلها في جملة المصلين، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، يعني: في المصلين، فهو يصلي في جملتهم، الله يراه وهو يركع ويسجد ويقوم ويقعد، وهذا يقتضي أن الإنسان إذا وقف بين يدي الله في الصلاة أنه يستحضر نظر الرب -تبارك وتعالى- إليه، وهذا من أدعى الأمور التي تجلب الخشوع.

فمن أسباب الخشوع أن يستحضر الإنسان أن الله يراه وهو يصلي، وهو ساجد، وهو قائم، فلا يتصرف تصرفاً في الصلاة لا يليق من واقف بين يدي ملك الأملاك .

قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}

وقال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد:4]، يعني: أنه معكم بالعلم والإحاطة، فهو يراكم وأنتم في خلوتكم، ويراكم وأنتم في جلوتكم، وليس معنى ذلك أن الله مخالط لخلقه، بحيث إنه مصاحب لهم بذاته ، فالله فوق عرشه، بائن من خلقه، ولكنه مع الخلق بالعلم والإحاطة، فهو يرى عباده ومطلع عليهم، وعالم بأحوالهم في حال خلوتهم، وفي حال جلوتهم.

وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ، في أي مكان، فالله يراك، ومن الناس من يخلع ربقة الحياء إذا خلا، إذا خلا بمحارم الله انتهكها، فلو استحضر أن الله  معه ويراه، وأن الملائكة يشاهدونه لانكف عن ذلك، ومن الناس من يخلع ربقة الحياء إذا سافر.

ولربما لدى بعض العامة مثل يرددونه مضمونه: أن الإنسان إذا ذهب إلى بلد لا يُعرف فيها فإنه يفعل ما يحلو له، هذا معنى المثل ولا يحسن ذكره.

فهذا يدل على ضعف الإيمان، وضعف الرقابة، فالله الذي تعبده هاهنا هو المعبود هناك، والملَك الذي يكتب عليك هاهنا هو الملك الذي يكتب عليك هناك، والله -تبارك وتعالى- الذي تعبّدك بشرائع الإيمان تعبدك بها هنا، وتعبدك بها هناك، فلماذا إذا سافر الناس خلعت المرأة حجابها؟ أو حورته وغيرته وحرفته، لماذا تصنع ذلك؟ أليس الذي تعبّدها بالحجاب هنا هو ربها والذي تعبدها بالحجاب هناك هو ربها ، أم أن ذلك صار عادة تتخذ من أجل موافقة الناس في تقاليدهم كما يقال؟.

قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء}

وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء [آل عمران:5]، أكده بإنّ، إن الله لا يخفى عليه شيء، وشيء هنا نكرة في سياق النفي يدل على العموم، لا يخفى عليه شيء مما تحاول أن تخفيه.

مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، فالله مطلع على أسرار الإنسان وخفاياه، وما يخطه بيمينه، ومطلع على خائنة الأعين التي يسارق بها النظر إلى ما حرم الله خلسة دون أن يتفطن إليه أحد، فإذا تحركت النفس من أجل أن ينظر الإنسان إلى شيء مما حرم الله ، فليستحضر هذه المعاني.

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}

 قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فالله حاضر مشاهد لعباده، قادر على أخذ المسيء منهم متى شاء، وعقوبته قد أحلها بأقوام، فينبغي أن يكون ذلك رادعاً لغيره، كما قال الله : وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10]، وقال حينما عاقب قوم لوط: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 83].

قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}

 وقال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19]، وخائنة الأعين هو ما ينظر الإنسان إليه خلسة، النظر المحرم الذي يفعله الإنسان، ويحاول أن يخفيه عن غيره، سواء كان منفرداً دون الناس، أو كان معهم، فهو يلحظ وينظر دون أن يشعر به أحد، فإذا كان الإنسان لربما يستحي أن ينظر نظراً فاحصاً يديمه -يديم هذا النظر- أمام الآخرين، فالله يراه حينما يسارق هذا النظر، وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ، أي: ما تكنّه من محبة وبغض، وحب للخير، ورغبة في الشر، وإيمان، وكفر، ونفاق، وما أشبه ذلك من المعاني، كل ما يخفيه الصدر، فالله السر عنده علانية، والإنسان مكشوف بكل محتوياته بعروقه، وشرايينه وأوردته وعروقه الدقيقة وغيره، كما أنه مكشوف بما يحويه من المعاني والخواطر والأفكار والإيرادات والعقائد وما إلى ذلك، مكشوف أمام الله تماماً.

فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن لا يضمر الإنسان إلا الخير، ولا يسر سريرة سيئة الله يطلع عليها وهو يخفيها على الناس.

الناس لا يملكون لك شيئاً، لكن الله هو الذي يملك عقوبتك، ويملك ثوابك، فينبغي أن تتجمل بين يديه، ولا يمكن التجمل بين يدي الله إلا بالصدق، والمراقبة، وإلا فإن الله لا يخفى عليه حال الإنسان، من نفاق، وتصنع.

قال: والآيات في الباب كثيرة معلومة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مواد ذات صلة