الأربعاء 23 / جمادى الآخرة / 1446 - 25 / ديسمبر 2024
حديث «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس..»
تاريخ النشر: ٠٤ / رمضان / ١٤٢٦
التحميل: 2737
مرات الإستماع: 12393

نعمتان مغبون فيهما كثير

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ[1].

قوله ﷺ: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس لا يدل على الحصر، بمعنى: أن الغبن الذي يقع للناس ليس فقط في الصحة والفراغ، بل يقع لهم في ذلك ويقع لهم في غيره، يقع لهم مثلاً في المال، ويقع لهم في كثير من تصرفاتهم وشئونهم، ولكن لما كان الإنسان إنما ينطلق للعمل إن وُجد عنده فراغٌ وعافية فإنه بذلك يستطيع أن يقوم بكثير من الأعمال كما قال الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله- وذلك أن الإنسان إن كان مشغولاً لم يتمكن من القيام بالأعمال التي يريدها، وإذا كان الإنسان مريضاً فإنه أيضاً قد لا يتمكن من كثير من الأعمال التي يريدها، سواء كان في الطاعات، أو في الذنوب والمعاصي، ولذلك فإن معالجة الإنسان الذي ينفلت مع أهوائه أن يُشغل بما ينفعه.

فالفراغ يجعل هذا الإنسان يفكر بماذا يقضي هذا الوقت، فلربما ينجرف في أودية الهلكة، كذلك إذا كان الإنسان مريضاً فإنه لا يفكر في الغالب إلا في علته، ومرضه، وطريق الخلاص من ذلك، لا يفكر في المعصية، والمنكر، والشر، وما إلى ذلك، فتنكسر نفسه.

فأقول: سواء كان في العمل الطيب الصالح، أو كان في العمل الفاسد، والنبي ﷺ يقول: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ.

وقد قال النبي ﷺ: اغتنم خمساً قبل خمس... وذكر منها: وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل سقمك[2].

والمُشاهَد في حياتنا وفي غالب أحوالنا لو نظر الإنسان في ساعات اليوم والليلة فهي أربع وعشرون ساعة، ونظر إلى الاستغلال الحقيقي، الإنتاج الحقيقي، الاستثمار الحقيقي لهذه الساعات فإنه قد يفاجأ في بعض الأحيان أنه لا يصل إلى ساعة أو ساعتين، والباقي يتقضى في نوم وذهاب وإياب، وأمور لا طائل تحتها، وأحياناً لربما ينقضي ذلك مع وهم كبير أنه مشغول.

فلو أراد الإنسان أن يحصي كل خرجة، وذهاب ومجيء له في يومه وليلته، ويعد ذلك من الأشغال -حتى الأمور الرتيبة- فإنه سيتوهم أنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً زائداً على ما هو فيه، بينما الواقع أن عنده أوقاتاً كثيرة جداً، يعني على سبيل المثال لو أراد الإنسان أن يعد الذهاب إلى المسجد خمسة ارتباطات في اليوم، ويقول: عندي كل يوم خمسة مواعيد سيعيش في وهم كبير.

هناك أمور أصبحت جزءاً من حياة الإنسان بشكل رتيب، لكن يحتاج أن ينظم بقية الأمور الأخرى، ينظم الأعمال بمدى أهميتها والحاجة إليها، وما هو مستعجل منها، وما هو مؤخر، ويضع له برنامجاً يمشي عليه، أما أن تبقى الأوقات مفتوحة وعشوائية، ومن سبق إلى زمانه ووقته غلب عليه وأخذ منه ما شاء، ويبقى الإنسان في مجال الزيارات، والذهاب، والمؤانسة، والجلوس مع الناس أمام وقت مفتوح، لربما يجلس من بعد التراويح إلى الفجر، أو أمام الإنترنت، فهذا الكلام غير صحيح إطلاقاً، ولذلك لو فكر الإنسان في واقعه وزمانه لوجد أنه مغبون حقيقة، وإن توهم في كثير من الأحيان أنه مشغول، لكن العبرة بالإنتاج، العبرة بالاستثمار الحقيقي لهذه الساعات، ولذلك يمكن أن يُختزل عمر إنسان يعيش ستين سنة، أن يختزل عمره من الناحية الواقعية إلى خمس سنوات، أو ست سنوات، أو سبع سنوات، والباقي ضائع لا قيمة له، لا ينتفع به، هذا إذا ما كان يضره عند الله .

ولذلك فإن الإنسان ينبغي أن يراعي هذا المعنى الكبير، ويراعي كل ما أعطاه الله من النعم وينظر في ماذا تصرّف بها، وهل انتفع بها الانتفاع المطلوب.

نعمة الذكاء –مثلاً- الله أعطاها الكثيرين، وكذلك التفكير الصحيح، فمن الناس من يكون كل تفكيره في المعصية، والذنوب، والجرائم، وكيف يصل إليها، وكيف يغوي هذه، وكيف يوقع بهذه، وما إلى ذلك.

وآخر لربما يكون كل تفكيره في أمور لا تستحق هذا الجهد كله، كيف يحصل لقمة العيش، مع أن هذه قضية ضمنها الله ، ولا تحتاج أن ينصبّ كل تفكير الإنسان عليها، لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها[3].

والذين يحصّلون الأرزاق لا يحصّلونها بذكائهم، وقدراتهم العقلية، وإنما هذا رزق كتبه الله له يأتيه بأدنى تسبب، فلا يصح أن نعطل نعمة التفكير، ونجعلها في أمر قد ضمنه الله -تبارك وتعالى، فلا يكون للإنسان أي اهتمامات إلا في تحصيل لقمة العيش.

وهكذا في كثير من الأمور الفائتة، أحياناً ينشغل الإنسان في التفكير بأشياء مضت لا يجدي التفكير فيها عنه شيئاً، أمور انتهت، خسارة وقعت، مصائب وقعت، أحزان، نكبات، فقد حبيب، فيجلس الإنسان يفكر بها، ويجترّ هذه المناظر، والمشاهد المحزنة، وهذا لا يعود عليه بطائل، بل بالعكس يشل تفكيره، ويضعف قوى القلب، ويضيع عليه الزمان من غير أن ينتفع بشيء، بل إن ذلك يضره، لكن الإنسان يحاسب نفسه في تقصيره مع الله -تبارك وتعالى، ويستدرك ذلك، ويتلافى التقصير.

علو همة العلماء واستثمارهم للوقت

العلامة المعروف ابن عقيل الحنبلي -رحمه الله، صاحب كتاب الفنون الذي قُدر بثمانمائة مجلد، من أذكياء العالم، هذا الرجل كان يقول: إني في عشر الثمانين أجد ما كنت أجده وأنا ابن العشرين، أو كلمة نحو هذا.

يعني: من الهمة، وما كان يأكل شيئاً يُمضغ، كان يستف الكعك؛ لأنه ما يحتاج إلى مضغ، حتى لا يضيع وقته بسبب الأكل، وكان ابن أبي حاتم يقرأ على أبيه أبي حاتم -رحمه الله- كان يقرأ عليه إذا دخل الخلاء، يجلس خارجاً، ويقرأ عليه عند الباب، حتى لا يفوت هذا الوقت الذي يجلس فيه في الخلاء، إلى هذا الحد!، ونحن كم نجلس على مائدة الإفطار، وغير مائدة الإفطار؟

وكم تجلس نساؤنا في إعدادها؟، من الظهر وهن في المطبخ، ثم بعد ذلك في آثارها من تصفيف وترتيب الأواني وغسلها، فيذهب أكثر من نصف اليوم في هذه الأيام الشريفة على أمور تافهة يمكن للإنسان أن يستعيض بما هو دون هذا، وهكذا في أمور كثيرة.

الشيخ ابن عثيمين من المعاصرين، قرأت في ترجمته، فعجبت منه على تقدم السن والرجل له دروس يومية بين المغرب والعشاء طول السنة بلا انقطاع، ولا كلل، ولا ملل، وعنده درس بين الأذان والإقامة وفي الأجازات الصيفية عنده خمسة دروس في الصباح، وعنده بعد المغرب درس، وبين الأذان والإقامة درس، وعنده لقاء بالطلاب الذين يسكنون في مساكن الطلبة، وعنده لقاء الدورية، وعنده لقاء أيضاً بطلاب العلم الذين يأتون من خارج عنيزة، وله لقاء بأعضاء هيئة الأمر بالمعروف، ولقاء بأعضاء الدعوة، ولقاء بجمعية تحفيظ القرآن، وله أيضاً لقاء بكبار طلبة العلم، كبار طلابه، وعنده لقاء اسمه الباب المفتوح، يحضره كل أحد من الناس، وعنده أيضاً خطبة جمعة، بعض طلاب العلم إذا كان عنده خطبة جمعة لا يسمع، ولا يبصر، ولا يأكل، ولا يستطيع أن يسوي شيئاً، بسبب الخطبة والإعداد لها، ولا يفكر بشيء آخر، وكلما قيل له شيء قال: عندي خطبة، وعندي إعداد خطبة.

الخطبة عند الشيخ جزئية، وعنده بعد العصر شرح رياض الصالحين كل يوم، وهو إمام في التراويح، وهو عضو في هيئة كبار العلماء، وعضو في المجمع الفقهي.

فقط متابعة البرنامج بهذه اللقاءات الدورية هذه تحتاج إلى مكتب وفريق يتابعونها ويذكّرونه بها، والشيخ في الغالب يعمل لوحده، رجل يحمل هذه الأشياء كلها، وإنتاجٌ علمي، تميزٌ في الفتوى، تميز بطريقة التعليم، تميز في الخطابة، تميز في كل شيء، فنحن نسأل الله أن يرحم حالنا وضعفنا وعجزنا.

والإنسان أحياناً يعمل أشياء بسيطة جداً ويشعر أنه أرهق كثيراً، كلمة المسجد بعد العصر عشر دقائق هذه يمكن أن تُعتبر عند بعض الناس إرهاقاً، بينما هو يحضر في محاضرات المدرسة، أو الكلية خمس أو ست أو سبع ساعات، وصارت جزءاً رتيباً من حياته لا يشعر بها، لماذا لا يشعر بها؟

لكن لو قلنا له: احضر خمسة دروس في اليوم يقول: من يطيق هذا؟ وهكذا الذي يعلِّم لو قيل له: علِّم باليوم أربعة أو خمسة دروس.

يقول: هذا قتْل، وفي الكلية الآن تدرِّس أربعة دروس أو نحو هذا وما قتَلَك ذلك!.

لكن النفس تحتاج إلى فقه في التعامل معها، والاحتيال عليها، وأن لا تسيطر علينا الأوهام، وهناك أشياء نستطيع أن نتجاوزها، ونتغلب عليها، باعتبار أنها جزء من حياتنا اليومية الرتيبة التي لا نحتاج أن ننقطع لها أو نعدها من الأشغال القاطعة.

أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يشغلنا بما يقربنا إليه، وأن يرحم موتانا، وأن يشفي مرضانا، وأن يعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب لا عيش إلا عيش الآخرة (8/ 88)، رقم: (6412).
  2. أخرجه الحاكم في المستدرك، كتابُ الرِّقاقِ (4/ 341)، رقم: (7846)، والبيهقي في شعب الإيمان (12/ 476)، رقم: (9767).
  3. عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ قال: نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فأجمِلوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/ 166)، رقم: (7694).

مواد ذات صلة