الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا» ، "كان إذا دخل العشر.."
تاريخ النشر: ٠٥ / رمضان / ١٤٢٦
التحميل: 2517
مرات الإستماع: 13699

أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكان آخر ما تحدثنا عنه هو قول النبي ﷺ: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ[1]، حيث إن الكثيرين تفتك بهم هاتان النعمتان.

إنّ الشبابَ والفراغَ والجِدَة مفسدةٌ للمرء أيُّ مفسدة

وهنا حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكورا[2]، متفق عليه.

ونحوه في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة [3].

فالنبي ﷺ كان أكمل الأمة عبودية لربه ومولاه ، ومضت الأحاديث في أن من تقرب إلى الله شبراً تقرب الله منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب الله منه باعاً، وكذلك قول النبي ﷺ: اغتنم خمساً قبل خمس...[4].

وما أشبه هذا من النصوص التي تحث على المزيد من العمل الصالح، فالنبي ﷺ كان أكمل الأمة استجابة لربه، وإقبالاً على عبادته، ومحبة له، وما إلى ذلك من المعاني، فهنا: كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، أي: يقوم قياماً طويلاً حتى تتشقق قدماه، وجاء في بعض الروايات حتى تتورم قدماه[5].

وليس بينهما منافاة؛ لأنها إذا تورمت من طول القيام فإنها تتشقق، فعائشة -رضي الله عنها- تسأله، تقول له: كيف تفعل هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، كما قال الله : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، فقال: أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً.

والشكور هو كثير الشكران، وذلك -أعني الشكور- هو ظهور أثر النعمة على المنعم عليه، والله يقول: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].

سمو مقصد العبادة

فالمقصود أن الإنسان يتعبد لله -تبارك وتعالى- ليس فقط من أجل تكفير الذنوب والسيئات، بل مَن عرَفَ الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته عظَّمه وانجذب قلبه إلى عبادته، فأسَرَتْه تلك المعاني والصفات الكاملة لله -تبارك وتعالى، فلا يملك إلا أن ينقاد له، وأن يتعبد له، وأن يعظمه حق التعظيم؛ لأنه العظيم الأعظم، كذلك الإنسان يتعبد لله -تبارك وتعالى، ويكثر من الأعمال الطيبة الصالحة من أجل أن يكفر الله عنه ذنوبه، ويمحو تقصيره وزلاته، ولهذا قال الله : وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ۝ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115].

فالحاصل أن الإنسان يحتاج إلى صبر على الطاعة؛ لأن النفس تتفلت على صاحبها، فالله أمر ذلك الرجل الذي قارف مع تلك المرأة ما لا يليق مما لا يوجب الحد، لما سأل النبي ﷺ وندم على عمله، قال الله: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114][1].

فالإنسان يعمل الأعمال الطيبة الصالحة من أجل أن يكفر عن الذنوب أيضاً، ولهذا عمر مثلاً لما جادل النبي ﷺ في صلح الحديبية، ثم ندم بعد ذلك ذكر أنه لم يزل يعمل أعمالاً لها.

وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة لما قال النبي ﷺ في غزوة بدر: مَن لقي العباس فلا يقتله؛ لأنه خرج مكرهاً، فقال أبو حذيفة: نقتل أبناءنا وآباءنا وإخواننا ونترك العباس؟، والله لئن لقيته لأضربنه بالسيف، فندم بعد ذلك، فكان يعمل أعمالاً كثيرة، حتى إنه رأى أن ذلك الذي صدر منه لا يكفره إلا القتل في سبيل الله، فقتل شهيداً ، هو ومولاه سالم كما هو معروف[2]

 فالمقصود أن الإنسان يعمل أحياناً لتكفير السيئات، ويعمل أيضاً شكراً لله -تبارك وتعالى- على ما أفاض عليه من النعم الظاهرة والباطنة، نعمة عافية البدن، ونعمة المال، ونعمة المعافاة من البلايا والمحن والفتن، وما أشبه ذلك، ونعمة الإفضال عليه بالإسلام، وهدايته إلى الصراط المستقيم، فكل عبادة تصدر من الإنسان هي نعمة تستوجب الشكر، فنحن حينما نوفق إلى بلوغ رمضان، أو إلى صيام رمضان هذه نعمة تحتاج منا إلى شكر، وإذا صلينا التراويح هذه نعمة تحتاج إلى شكر، وهكذا في أحوالنا كلها، فيكون الإنسان دائماً يتقرب إلى الله بألوان القربات.

فهذا النبي ﷺ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فكيف بالضعفاء؟ كيف بأصحاب الذنوب العظيمة الكثيرة المتتابعة المتكررة وليس عندهم، أو عندنا عهد من الله بأن يغفر لنا هذه الذنوب؟.

فنحن أحرى أن نقوم بالأعمال الصالحة، وأن نكثر من نوافل العبادات ليكون ذلك جبراً لما نقص، أو لما يقع من النقص في الفرائض.

كان إذا دخل العشر
وجاء من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر. متفق عليه[1].

معناه: أنه لا يقرب أهله في تلك الليالي، والمقصود بها العشر الأواخر من رمضان، فهذا يعني: التشمير للعبادة، والتفرغ لها، والانقطاع عن المألوفات التي كان يفعلها، حتى نوم الليل، فقد كان النبي ﷺ ينام سائر العام، ويقوم بعض الليل، وإذا جاءت العشر أحيا الليل كله من أوله إلى آخره بين صلاة وذكر وقراءة، وما أشبه ذلك.

أسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (3/ 47)، رقم: (2024)، ومسلم، كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (2/ 832)، رقم: (1174).

مواد ذات صلة