الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار..»
تاريخ النشر: ٢٩ / ربيع الأوّل / ١٤٢٧
التحميل: 2475
مرات الإستماع: 25999

يؤتى بالرجل يوم القيامة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث عن باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهى عن منكر وخالف قوله فعله، وتحدثنا على جملة من الآيات التي صدر بها المؤلف -رحمه الله- هذا الباب.

ثم ذكر حديث أسامة بن زيد ، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه[1].

وقوله ﷺ: يؤتى بالرجل هذا مفهوم لقب لا حجة فيه، أي: أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك، فالمرأة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ولا تمتثل، داخلة في هذا الوعيد.

يقول: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، أي: تخرج، وأقتاب البطن المقصود بها: الأمعاء، وهي جمع قِتْب، فتخرج أمعاؤه، فيدور بأمعائه كما يدور الحمار في الرحى، والرحى هو الحجر الكبير الذي يطحن به الحب، ويربط بحمار، ويطرح هذا الحجر على حجر آخر أملس فيوضع الحب في نحو حوض أو ما أشبه ذلك، فيدور هذا الحجر الكبير الذي يجره الحمار حتى يطحن هذا الحب، كما يدور الحمار في الرحى، فيدور على أمعائه، وتكون هذه الأقتاب قد خرجت من البطن، والقِتب منها مما يتصل به، كأنه ذلك الحبل الذي ربط بالحمار، فيدور بالرحى بهذه الصورة البشعة، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟، وهذه النار التي يجتمع أهلها ربما تكون هي نار الموحدين، أي: من المسلمين، فهم يعرفون هذا الإنسان كان آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، ويحثهم على طاعة الله ، فكانوا يظنون أنه من الناجين لما يرون من حسن مقاله ودعوته إلى الخير، فلما رأوا حاله بهذه البشاعة سألوه وقالوا له: ما الذي أوردك هذه الموارد؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟، فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.

وهذا الحديث يدل على وعيد من خالف قوله فعله، إذا تباينت الأقوال والأفعال، وصار الإنسان يتكلم بما لا يعمل فهو متوعَّد بهذا

هذا الحديث يدل على وعيد من خالف قوله فعله، إذا تباينت الأقوال والأفعال، وصار الإنسان يتكلم بما لا يعمل فهو متوعَّد بهذا، ولكن الأعمال على مراتب، أما الواجبات فإنه لا يجوز للإنسان أن يتركها بحال من الأحوال، والمحرمات لا يجوز للإنسان أن يقارفها، وأما المندوبات فهي أنواع كثيرة جداً، ولا يستطيع الإنسان أن يفعل كل المندوبات، وكذلك قد لا يستطيع أن يترك جميع المكروهات، لكنه يأمر بطاعة الله مطلقاً من الواجبات والمندوبات، وينهى عن المنهيات، سواء كان ذلك من قبيل المنهي للتحريم، أو كان من قبيل المنهي للكراهة، ويكون النهي عن المكروهات من باب الاستحباب، فالمقصود أن مثل هذه الأمور بمجموعها لا يستطيع الإنسان أن يحيط بها، فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذا المتوعَّد بهذا الوعيد هو الذي ترك الواجب أو فعل المحرم، وكان يأمر به أو ينهى عنه.

مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الناس في هذه القضية على مراتب متعددة:

فأكمل المراتب وأعظمها هو الذي يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويجتنبه، وهذا هو الكمال.

والمرتبة التي تحته هو من يفعل المعروف لكن لا يأمر به، ويترك المنكر لكن لا ينهى عنه، وهذا حال كثير من المسلمين، لا يجترئ، فتراه يجبن أو يستحيي أو يخجل.

والمرتبة الثالثة وهو الذي يأمر بالمعروف لكن لا يفعل، وينهى عن المنكر ويفعل المنكر.

والمرتبة الرابعة هو الذي لا يأمر بالمعروف ولا يفعل المعروف، ولا ينهى عن المنكر ويفعل المنكر.

والمرتبة الخامسة وهي أسوأ هذه المراتب هو الذي ينهى عن المعروف ولا يفعل المعروف، ويأمر بالمنكر ويفعل المنكر، هؤلاء هم الشياطين، الشياطين الذين يضلون الناس، من شياطين الإنس والجن، لا يحبون طاعة الله ، وينكرون على من فعل ذلك، ويعيقونه، ويلمزونه، وما يتركون طريقاً يستطيعون به صرفه عن طاعة الله إلا فعلوه، كما قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ۝ عبداً إذا صلى ۝ أرأيت إن كان على الهدى ۝ أو أمر بالتقوى [العلق: 9-12]، فهذا شر المراتب.

من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

والمقصود أنه ليس لأحد أن يفهم من هذا الحديث، أو من الآيات السابقة كقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ[البقرة:44]، أنه إن لم يكن ممتثلاً في نفسه فلا يجوز له أن يأمر و ينهى، ليس كذلك، بل الأمر والنهي واجب، والفعل والامتثال واجب، فإذا ضيع واجبًا فلا يحق له أن يضيع الواجب الآخر، فيكون بذلك مستجمعاً لألوان من التقصير، فالذي يأمر وينهى ولا يمتثل أحسن من الذي لا يأمر ولا ينهى ولا يمتثل، فلابد أن يُفهم هذا الحديث على وجهه، وكل إنسان لا يخلو من تقصير.

إذا لم يَعظ الناسَ مَن هو مذنبٌ فمَن يعظُ العاصين بعدَ محمدِ

ولهذا قال بعض السلف لمن اعتذر عن الأمر بالمعروف والدعوة أو عن وعظ الناس لأنه مقصر قالوا: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فمن الذي يكون مستجمعاً لأوصاف الكمال؟!، لو كان كل إنسان لا يتكلم في شيء من البر وطاعة الله ، ويحث الناس على هذا إلا أن يفعله فمعنى ذلك أن الناس يبقون في جهالة، وهذا غير صحيح، والدال على الخير كفاعله[1]، والإنسان قد يفتح له في بعض الأبواب من طاعة الله بعد الالتزام بالواجبات وترك المحرمات، ولا يفتح له في أبواب أخرى من البر، ولكنه يحث الناس عليها، ويبين فضلها، ويدعوهم إلى ذلك فيكون مأجوراً، فإن امتثل أحدٌ بناء على ما سمع فإنه له كأجره.

هذا خلاصة ما يمكن أن يقال في هذا الباب.

وأسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونمتثل أمر الله -تبارك وتعالى، ونجتنب نهيه وما يسخطه، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود، أول كتاب الأدب، باب في الدال على الخير كفاعله، (7/ 447)، رقم: (5129)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، رقم (108). 

مواد ذات صلة