الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»
تاريخ النشر: ٢٠ / شعبان / ١٤٢٧
التحميل: 1641
مرات الإستماع: 4059

هذا خير من ملء الأرض مثل هذا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين -أي من لا صيت له- أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي عباس سهل بن سعد الساعدي الخررجي قال: مر رجل على النبي ﷺ فقال لرجل عنده جالس: مر رجل على النبي ﷺ فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟، فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله ﷺ ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله ﷺ: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله ﷺ: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا. متفق عليه.

جاء في بعض الروايات أن النبي ﷺ قال لأبي ذر[1].

وفي بعض الروايات أن النبي ﷺ قال لهم، سألهم[2]، وأبو ذر كان حاضراً، وكان قد حضر مجلسَ رسول الله ﷺ بعضُ أصحابه.

فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال رجل من أشراف الناس، يعني: أن أبا ذر لم يجب، وكان أحدَ من سمع هذا السؤال رجلٌ من أشراف الناس.

قال: هذا والله حري إن خطب أن يُنكح، يعني: أن يُزوج، الناس يتسابقون على تزويجه، والقرب منه، وإن شَفَع أن يُشفَّع، يُحقَّق له ما يريد، إذا توسط لإنسان قبلت وساطته، فسكت رسول الله ﷺ ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله ﷺ: ما رأيك في هذا؟، فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله ﷺ: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا[3]، متفق عليه.

هذا: يعني هذا الفقير الذي إذا خطب ما يزوج، وإذا شفع لا يشفع، وإذا تكلم لم يسمع، خير من ملء الأرض من هذا، ملء الأرض كم؟ آلاف الملايين من هذا.

المقياس الحقيقي للإنسان

فهذا أيها الأحبة يدل على المقياس الحقيقي، الميزان الذي يوزن به الناس، وهو أنهم يوزنون بالتقوى، بتقوى الله ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]، التقي هو الأكرم، والأفضل، والأشرف، وكلما قلت تقوى الله في قلب العبد كلما قلت منزلته، وإنما يتفاوت الناس حقيقة بمثل هذه القضايا، أما عند أهل الدنيا فإن التفاوت يحصل عندهم بالمظاهر والأموال، فإذا جاءوا إلى إنسان وعنده قصر كبير عظم في أعينهم، وتأدبوا معه في الكلام، وفي حركاتهم، وينادونه بكنيته، وما أشبه ذلك، وإذا رأوا مركبه لربما يمر بهم فيقفون من أجل أن يمر وإن كان الطريق لهم، كأنه يعطيهم من أمواله شيئاً، ولا يدعونه إلا بكنيته، بأحسن الكنى، وأما ذاك الفقير فإنه ليس له إلا الزجر، إذا مر بسيارته المنكسرة لم يقف له أحد، ولم يلتفت له أحد، وكل إنسان يلتفت إليه وينظر إليه بقوة، وبشزر، وهذا ينهره، وهذا يكهره، وهذا يذمه، وهذا يشتمه، وإذا جاء إليهم تأففوا وتأذوا من مقابلته، ومن النظر إليه، ومن جلوسهم معه، يستنكفون من ذلك.

فأقول: أيها الأحبة، ينبغي أن نراعي هذه المعاني، وأن يكون عندنا قدر الإنسان بحسب ما عنده من الدين، والخير والصلاح، وبحسب ما يحمل من القيم، لا بمظهره، حتى لو كان مظهره الدين، فكم من إنسان مظهره الدين، وقلبه منطوٍ على قلب ذئب، إنما التقوى لله -تبارك وتعالى، بل لربما لا يظهر على الإنسان أحياناً تلك السيما من الصلاح، وعنده من الخير، والخوف من الله ، وما أشبه ذلك الشيء الكثير، ولهذا لا نستعجل، هذا هو المقصود، لا نستعجل في الحكم على الناس، هذا الذي أريد، لا نستعجل في الحكم على الناس، نعم، إذا صلح القلب صلحت الجوارح، وظهر هذا الصلاح على ظاهر الإنسان، ولكن هذا ليس دائماً، أن ظاهر الإنسان يدل على باطنه، قد يوجد تفاوت، وقد يوجد في الإنسان كثير من الصلاح، ولا يبدو كثيراً على ظاهره لسبب أو لآخر، قد يكون هناك أسباب، ورأينا شيئاً من ذلك.

وهكذا أيها الأحبة في أمور كثيرة، فلا يستعجل الإنسان بالحكم على الناس، ولا يحكم عليهم بمجرد ظواهرهم، أيًّا كان، لا يحكم عليهم بمجرد ظواهرهم، وللأسف فإن الكثيرين المعيار عندهم: معيار الظاهر، لربما رأوا هذا الإنسان ظاهره الدين، أو نحو ذلك، وظنوا أنه من أتقى عباد الله، فأتمنوه في قضايا مالية، وفي قضايا المعاملات، ولم يكتبوا معه عقداً، ولا قيداً، ولا شرطاً، ثم بعد ذلك تتبدى أمور أخرى، وتقع مشكلات، ويضطرون فيها إلى المحاكم، وقد لا يخرجون بمطلوب.

وهكذا أيضاً كثير من الناس يحكم على الإنسان بحسب لباسه، وهندامه، وسيارته، ومركبه، والساعة التي يلبسها، والخاتم الذي يلبسه، هذا خاتم قيمته سبعون ألف ريال، يتعمد أن يلبسه من أجل أنه يعرف أن الكثيرين بهذه المنزلة، يعني: يقيسونه بهذا، وقد سمعت قبل أيام أن رجلا يدير مؤسسة من المؤسسات، عنده موظف، هذا الموظف كان إذا جاء إليه بورقة، أو بعذر، أو بتقرير عن غياب يوم، يقول: أنت تأتي بعذر؟، ويأخذه أمام ويمزقه، لماذا؟ لأن هذا يعتني كثيراً بمظهره، ويلبس لباسًا غالي الثمن جدًّا، ثم انتقل هذا الإنسان إلى مكان آخر، وقُدر أن يزور ذلك المدير تلك المؤسسة الجديدة الأخرى، ويجلس مع مديرها، فإذا بهذا يدخل، فيقول: هذا عندك؟، ويثني عليه، هذا إنسان أنيق، وهذا إنسان كذا، وهذا ما هو من الناس الذين أي كلام، هذا ما يلبس إلا كذا، وما يركب إلا كذا، فقط، ينظر إلى هذه القضايا، هذا هو المقياس عنده، ويصرح به، هذا هو العجيب.

فإذا كانت العقول بهذه الطريقة فإذاً ما على الناس إلا أن يتظاهروا بمثل هذه المظاهر، ولو بالاستعارة تستعير المرأة الحلي الغالي الثمن، ويستعير الإنسان ساعة زميله أو واحدٍ من قرابته، أو من معارفه إذا أراد أن يذهب ليتوظف، أو من أجل أن يقابل شخصاً، أو نحو ذلك، فتفرش له هذه المؤسسة بالزهور، ما شاء الله ما شاء الله، بل هذا وقع لي، في أحد الأيام ذهبت إلى إحدى المدارس، ومعي ملف مليء بشهادات التقدير لمن أردت أن أسجله في هذه المدرسة، مليء بالشهادات، ظننت أنه سيُسأل عنها، وأن لها قيمة، ولم يُنظر فيها إطلاقاً، أنت أين تعمل؟ هذا السؤال الوحيد، أين تعمل؟، لست أنا الذي سأسجل، ويوجه لي هذا السؤال: أين تعمل؟.

فهذا أيها الأحبة مقياس غير صحيح، هذا كما قال النبي ﷺ وتذكروا هذا جيداً: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا، فلا نغتر بالأشكال، والمظاهر، واللباس، بل للأسف يوجد في عناصر التقييم في كثير من المجالات العناية بالمظهر، ولها درجة، حينما يقابل هذا الإنسان في هذه الجهة أو تلك، العناية بالمظهر، مظهره، المظهر لا يدل على ما يحمله الإنسان.

خذ بنصل السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحلل

إذا كان الغمد مزخرفًا بالذهب والفضة، والسيف صدِئٌ، ما الفائدة؟ السيف مكسر ومثلَّم ومليء بالصدأ، ما فائدته؟ والغمد مزخرف، فالعبرة بالسيف، العبرة بما تحت الثياب، وليست العبرة بالثياب.

كان كثير من علماء السلف إذا رأيتهم: هذا أعور، وهذا أحول، وهذا أعمش، وهذا أعشى -ولُقبوا بهذا- وهذا أعرج، وهذا مريض، وهذا أفطس، وما ضرهم، يقف الخليفة، وأبناء الخليفة خلفه وهو يصلي، ينتظرون منه متى يلتفت حتى يسألوه بعض الأسئلة في غاية التواضع، ما ضره ذلك.

ما ضرهم نحافة الأجسام، والسقم الذي في أجسامهم أن يحصّلوا أعلى المراتب، الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- صاحب أضواء البيان، عالم كبير، كان يخرج أحياناً بنعلين، بزوجين شكل وشكل آخر، ما ينتبه، وجلس مرة وعنده بعض الكبراء على طعام، وإذا بالثوب من تحت البشت مشقوق من أسف الركبة إلى أعلى الفخذ.

وقال له بعض تلامذته مرة وهو يريد أن يذهب إلى مكان يلقى فيه بعض الوجهاء، أو يأتي إليه بعض الوجهاء، قالوا: هذه الثياب لو غيرتها، لو كذا، فكان يقول: خذ بنصل السيف واترك غمده.

العبرة بما تحت الثياب وليست بالثياب، وفعلاً -رحمه الله- من سمع دروسه، وقرأ كتبه عرف أنه آية من آيات الله في هذا العصر، وكثير من أصحاب المرازيم، وكثير من أصحاب اللباس الثمين وأصحاب العناية بالمظاهر ما يأتون شيئًا، ولا يصلح أن يكون خادماً يحمل نعله، ما ضره -رحمه الله.

طبعاً ليس معنى هذا -أيها الأحبة- أني أقصد أن الناس يلبسون ثياباً رثة، كما قلت: لا أقصد هذا، ولا أقصد أنهم يلبسون ثيابًا ممزقة، لا، يلبس ثيابًا معتدلة، ونظيفة، لكن لا يكون المقياس هو الثياب، والمظاهر، أننا نقيس الناس بحسب لباسهم، لا، هذا إنسان طبيب لابس خاتمًا بمائة ألف، ولابس ساعة بمائتي ألف، ماذا ينفعني هذا؟ أنا أريد خبرته، أريد مهنته في هذا المجال، وإذا كان لا يحسن شيئاً في هذا التخصص ما الفائدة من اللباس الذي يلبسه؟ هذا إنسان تزيّا بزي الفقهاء، ويركب أفخم السيارات، ويلبس أفخر اللباس، ما فائدة هذا؟ أنا أريد الفقه الذي عنده، هل عنده فقه أو لا؟ هل عنده علم أو ما عنده علم؟

هذا إنسان معلم جاءني في مدرسة يلبس أحسن لباس ما يهمني لباسه، هذا الرجل يحسن هذه المهنة، أو ما يحسنها؟ يحسن أن يعلم، عنده أسلوب، عنده طريقة، عنده علم، أو أنه إنسان مضيع ومهمل، ولا يصلح -كما يقال- أن يسرح باثنتين من المِعزى، فضلاً عن أنه يعلم التلاميذ؟.

فللأسف أقول: في كثير من الأحيان نخطئ هذه الحقيقة ونقيس الناس بأشكالهم.

ومن الطريف في هذا تعرفون خبر أبي حنيفة -رحمه الله- لما جاءه رجل وهو ركبته تؤلمه، فكان يمد رجله عند تلاميذه، فلما جاء هذا الإنسان، بهذه الهيئة، وهذا المنظر ثنى ركبته، فجاء الرجل وقال: عندي سؤال يا إمام، قال: إذا جاء رمضان في الحج نصوم أو نحج؟ فقال: قد آن لأبي حنيفة أن يمد رجله، عرف أنه ما عنده أحد، وأن اللبس هذا، وهذا البشت أنه ما تحته شيء، رمضان إذا جاء في الحج نحج أو نصوم؟، ما الذي نقدم؟.

وسألت هذا مرة بعض الناس، فاختلفوا على قولين: بعضهم يقول: نصوم، وبعضهم يقول: نحج، كنت أتكلم عن قضية فلما رأيت الفهم بعيدًا، قلت: دعونا من هذه المسألة، عندي سؤال: إذا جاء رمضان في الحج، ماذا نصنع؟، فبعضهم قال: نصوم، وبعضهم قال: نحج، وهكذا في فهم كتاب الله : وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16]، ما معناها؟

قالوا: القط المعروف الهر، عجله لنا قبل يوم الحساب، هذا فهم؟، هذا إنسان معلِّم يفهم هذا الفهم، ويعلم التلاميذ؟

لكن إذا كان المقياس هو مظهره وشكله وهيئته لا نستغرب مثل هذه الأمور.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه أحمد (35/ 314)، رقم: (21395).
  2. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين (7/ 8)، رقم: (5091).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب فضل الفقر (8 /95)، رقم: (6447).

مواد ذات صلة