الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «احتجت الجنة والنار..»
تاريخ النشر: ٢١ / شعبان / ١٤٢٧
التحميل: 1742
مرات الإستماع: 4898

احتجت الجنة والنار

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون. وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما: إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها[1].

احتجت الجنة والنار يعني: تخاصمت الجنة والنار، وهو على ظاهره، فإن الله قد يخلق في هذه المخلوقات إدراكاً يليق بها ويناسبها كما قال الله للسموات والأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].

والله يقول: وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... [النحل:49]، والنبي ﷺ يقول: إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث[2].

وكذلك أيضاً الجذع الذي كان يخطب عليه النبي ﷺ فوُضع له المنبر، فلما تركه النبي  ﷺ حن كحنين العشار لولدها، الناقة تحن لولدها[3]، فهذه الله يخلق لها إدراكاً يناسبها.

فهنا احتجت الجنة والنار، وكذلك في الحديث الآخر: اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف...[4].

فالحاصل أنه: احتجت الجنة والنار، فقالت النار: فيّ الجبارون، والمتكبرون، الجبارون أي: العظماء الذين يُجبرون الناس، هذا أصله، من الإجبار، الجبارون أي: الذين يُجبرون الناس، الذين يقهرون الناس ويغلبونهم على ما أرادوا منهم، والمتكبرون، وهم المتعاظمون.

والكبر من صفات أصحاب النار، والنبي ﷺ أخبر أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر[5].

وقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم، وهذا كما قلنا من قبل باعتبار الأغلب، وإلا فالنار فيها من الضعفاء، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ [إبراهيم:21].

فالنار فيها الكبراء، وفيها الفقراء، والضعفاء، والأتباع، كما هو معلوم، وكذلك الجنة فيها أغنياء، وفيها من القادة، والعظماء كما هو معلوم.

وأصحاب النبي ﷺ كان فيهم الضعفاء، وكان فيهم أيضاً الأغنياء، وعبد الرحمن بن عوف لما توفي كانت تقسم تركته من الذهب بالفئوس من كثرته، فهذا ليس بعيب في الإنسان، نعم المال الصالح للرجل الصالح[6].

لكن الغالب أن المال يطغي الإنسان، كما قال الله : كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7].

فمن شأن المال أنه يحمل صاحبه على التعالي، والترفع، والطغيان، ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، بهذا الاعتبار، قالوا: الفقير ما عنده شيء أصلاً، لكن الغني عنده مجال كبير للفساد، واللهو، والإفساد، والاشتغال عن طاعة الله ، فمثل هذا إذا لزم طاعة الله فهذا يدل على تجذر الصلاح في نفسه، وكثير من الفقراء هو لربما يلزم المسجد، ويأتي إلى المسجد، ولو أنه كان عنده مال وغِنًى لربما لا يدخل المسجد، ويظلم الناس، ولكنه عاجز عن هذا، وهذا مشاهد في حال كثير من الناس، ولهذا جاء في الحديث القدسي: إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدته، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدته[7].

فالمقصود: لمّا كان الغنى يحمل غالباً على الطغيان كان أكثر أهل النار من هؤلاء الطغاة وأهل الكبر، ولذلك يُمدح الرجل فيقال: ما شاء الله، فلان من الأغنياء، من الأثرياء، ومع ذلك يصلي الفجر في المسجد.

لكن هذا يقال بالنسبة للفقير؟ ما يقال، إذا ما صلى ما الذي عنده غير الجدار؟ ما عنده شيء آخر، لكن هذا الغني لا، الغني عنده ألف شيء وشيء، يقال: هذا غني من أثرى الناس، ومع ذلك يلتزم حدود الله ، لا يخرج عنها، لا يفرط فيها، لا يفسد، لا يفعل كذا، لا يفعل كذا، بينما الفقير لا يقال فيه هذا.

فالحاصل أن الله قضى بينهما، فقال الله لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء -وربما قال: أصيب بك من أشاء، وقال لهذه: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها، رواه مسلم.

هذه النار التي يلقى فيها الشمس والقمر، وأهل الفلك يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بملايين المرات، وتؤخذ وتكور مع القمر، وتلقى في النار، إذاً النار -نار جهنم- أكبر من الكرة الأرضية على هذا الاعتبار بملايين المرات، لو أخذنا بمقاييس أهل الفلك، بملايين المرات، بل هم يبالغون، يقولون: يمكن مئات الملايين.

انظروا إلى هذه الأرض بما فيها من الجبال، والبحار، والجزر، والأودية، وما أشبه ذلك، النار أكبر منها بكثير وستمتلئ، تمتلئ ويدخل فيها الإنسان كما يدخل الوتد في الجدار، وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13]، وتمتلئ، ولا يزال يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ هل من زيادة؟، هل من بشر آخرين؟.

مع أنه يلقى فيها الأصنام، والمعبودات من دون الله ، وهي لا تزال تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رب العزة قدمه، فتقول: قط، قط[8].

وكذلك الجنة، النبي ﷺ أخبر أن الجنة لها ثمانية أبواب، وأن ما بين المصراعين يعني  -دفتي الباب، أو جانبي الباب- أربعون سنة، يقول: وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام[9].

الله أكبر، هذا الباب الواحد، أربعون سنة بين جانبي الباب، وسيأتي عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، هؤلاء الذين جاوزوا الصراط والقنطرة، ونُقوا، وصفوا -أذن لهم بدخول الجنة- يتزاحمون على هذه الأبواب، هؤلاء يدعون من باب الصدقة، وهؤلاء من باب الصيام -الريان، وهؤلاء من باب الجهاد، كظيظ من الزحام، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

الغرض من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن الإنسان لا يحتقر ضعفاء الناس، أكثر أهل الجنة الضعفاء، وأكثر أتباع الرسل من الضعفاء.

وفي حديث أبي سفيان لما سأله هرقل السؤالات المعروفة عن النبي ﷺ كان منها أنه سأله عن أتباعه، هل يتبعه ضعفاء الناس أم أغنياؤهم وكبراؤهم؟ فقال: بل ضعفاء الناس، فقال: هؤلاء هم أتباع الرسل[10].

ونوح ﷺ، وصالح، وهود ماذا قال لهم أقوامهم؟ قالوا: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [هود:27].

وفي قوم صالح: قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف:75]، فالضعفاء هم أتباعه.

ولربما يأتي النبي وما معه إلا واحد، أو اثنان، أو ثلاثة ضعفاء، لو آمن الكبراء، والرؤساء لتبعهم أقوامهم، ولذلك كان النبي ﷺ يطوف في القبائل ويقول: من يُؤْوِينِي؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي؟[11].

فكان يرجو أن ينصره بعض الزعماء، والكبراء، من أجل أن يحموه ومن أجل أن يتبعهم أقوامهم، فتسلم القبيلة بكاملها، لكن لم يكن هذا يقع في بداية الأمر إطلاقاً، حتى دخل الناس أفواجاً، وإلا فكان يتبعه أمثال بلال، وصهيب، وعمار، وأمثال هؤلاء من الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يحموا أنفسهم، فضلاً عن أن يوفروا له ﷺ ولدينه حماية، بل هم بالعكس هم بحاجة إلى رعاية، وحماية، ومن يدافع عنهم، ويتولى أمرهم، وينفق عليهم، فهم لا ينفقون على الدعوة، ولا يستطيعون.

فلما هاجروا إلى المدينة، أهل الصُّفة الواحد منهم ما عنده إلا إزار، حتى ما عليه رداء، ما عنده إلا إزار، لا يملك من الدنيا شيئًا، وهم قريب من الأربعمائة، هؤلاء أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فالمؤمن يحب أهل الإيمان، ويتواضع لهم، ولا يتكبر عليهم، ولا يكون نظره متوجهاً إلى العظماء، والكبراء، والأغنياء، إذا دعوه لبى دعوتهم وبادر إليهم، وإذا طلب منه الفقراء حاجة، أو أنه يجلس معهم أو أن يزورهم، أو نحو ذلك ترفع عن هذا، وتعالى عليهم، وأعرض عنهم، فهذا لا يليق إطلاقاً بالمؤمن، فينبغي أن نعرف المقاييس الحقيقية التي نزن بها الأشياء، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2187)، رقم: (2846).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (4/ 1782)، رقم: (2277).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 195) رقم: (3585).
  4. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار، وأنها مخلوقة (4/ 120)، رقم: (3260)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة، ويناله الحر في طريقه (1/ 431)، رقم: (617).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه (1/ 93)، رقم: (91).
  6. أخرجه أحمد، رقم: (17763).
  7. أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1/ 307)، رقم: (231)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 319)، وضعفه الألباني، انظر: ضعيف الجامع الصغير وزيادته ص: (13)، رقم: (75).
  8. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وتقول هل من مزيد [ق: 30] (6/ 138)، رقم: (4848)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (4/ 2186)، رقم: (2846) .
  9. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق (4/ 2278)، رقم: (2967).
  10. أخرجه البخاري، باب بدء الوحي، (1/ 8)، رقم: (7)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (3/ 1393)، رقم: (1773).
  11. أخرجه أحمد، رقم: (14456).

مواد ذات صلة