الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الإنفاق على العيال
تاريخ النشر: ١٩ / محرّم / ١٤٢٨
التحميل: 1715
مرات الإستماع: 3757

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء عن السلف في باب النفقة على العيال أن أبا هريرة كانت له دار تصدق بها على مواليه، والمقصود بمواليه يعني: أولئك الذين كانوا من جملة الأرقّاء الذين كان يملكهم، ثم أعتقهم، فتصدق بها عليهم[1].

وجاء أيضاً عن عبد العزيز بن أبي روّاد -رحمه الله- أنه قال: قلت لعكرمة: تركتَ الحرمين وجئت إلى خرسان؟ قال: أسعى على بناتي[2]، يعني: يطلب الرزق بهذا السفر البعيد من الحرمين إلى خرسان؛ من أجل الاكتساب لهؤلاء البنات.

ويقول أبو موسى بن يسار: رأيت عكرمة جائياً من سمرقند، وسمرقند الآن بعيدة كما هو معلوم، هي في جملة هذه الجمهوريات التي تسمى بالجمهوريات الإسلامية، يقول: رأيت عكرمة جائياً من سمرقند على حمار تحته جوالقان فيهما حرير، أجازه بذلك عامل سمرقند، يعني الأمير، ومعه غلام، فقيل له: ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ قال: الحاجة[3]، وهو من كبار أصحاب ابن عباس الذين أخذوا عنه التفسير، ومع ذلك يذهب هذه المسافات الشاسعة البعيدة من أجل الاكتساب لبناته.

وكان ابن المبارك -رحمه الله- يقول: لا يقع موقع الكسب على العيال شيء، يعني يقول: هو أفضل شيء، أن تكتسب من أجل العيال، قال: ولا الجهاد في سبيل الله[4].

وهذا دلّت عليه بعض الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ كما تقدم.

ويقول زيد بن أبي الزرقاء -رحمه الله: ما سألت أحداً شيئاً منذ خمسين سنة، وقال: إذا كان للرجل عيال وخاف على دينه فليهرب[5].

يعني: أن الرجل قد يضعف، ولربما تزين له نفسه من أجل هؤلاء العيال أن يطلب من الآخرين، أو أن يبيع شيئاً من دينه من أجل هذا الاكتساب.

وقد قال النبي ﷺ: الولد مَجبنة مَبخلة مَحزنة[6] أي: يكون سبباً للبخل والجبن وأيضاً يكون سبباً للحزن الكثير، إذا مرض حزن الوالد وما أشبه ذلك.

ويقول الذهبي-رحمه الله: يهرب لكن بشرط أن لا يضيع من يعول، وقد هرب زيد بن أبي الزرقاء، ونزل الرملة أشهراً، وكان من العابدين.

ويقول محمد بن محمد بن أبي الورد -رحمه الله: قال لي مؤذن بشر بن الحارث -يعني الحافي: رأيت بشراً -رحمه الله- في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: ما فعل بأحمد بن حنبل؟ قال: غفر له، فقلت: ما فعل بأبي نصر التمّار؟ قال: هيهات، ذاك في عليين، فقلت: بماذا نال ما لم تنالاه؟ قال: بفقره وصبره على بُنيّاته[7].

هذه الآثار مع الأحاديث السابقة تدل على أن قيام الإنسان على من يعول بالنفقة والعمل والاكتساب وطلب الرزق، أن هذا مما يؤجر الإنسان عليه، وهو من أفضل الأعمال، وليس المقصود بذلك أن الإنسان يطلب تكثراً، يعني: من الناس من يشتغل يواصل الصباح بالمساء، وعنده ما يكفيه ويكفي أولاده، ويكفي أحفاده، ولكن الذي يطلب الدنيا كالذي يشرب من ماء البحر لا يرتوي، فهذا الذي يطلب تكثراً هذا يكون سبباً لشغل قلبه، وقد كان حذيفة بن اليمان يقول: اللهم إني أعوذ بك من تفرق القلب، فسئل عن هذا فقال: "أن يكون له بكل وادٍ مال"، هنا مصنع، وهنا منجرة، وهنا مكان للقماش، وهنا مكان للأوراق، وهنا مكان للسيارات، وهكذا؛ من أجل التكثر من الدنيا، فمثل هذا لا يؤجر الإنسان عليه، بل يكون شاغلا له عن طاعة الله ، وسبباً لانصراف قلبه عما هو بصدده من عبادة الله والإقبال عليه، وذكره وحسن عبادته، لكن إذا كان الإنسان يطلب هذه الدنيا من أجل أن يستغني عن الفقر، يستغني عن الناس، أن يغني أهله عن هذا فهذا يؤجر، وعمله هذا من أفضل الأعمال، وهذا هو المفهوم الواسع للعبادة، أن العبادة ليست مجرد ركيعات يركعها الإنسان في المسجد، وإنما العبادة تمتد وتشمل هذه الأمور من الشعائر التعبدية، كما أنها تشمل أيضاً إقامة الناس لدنياهم، فيما لا يكون شاغلاً عن طاعة ربهم -تبارك وتعالى، والأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- أخبر الله أنهم يمشون في الأسواق، فكانوا يتّجرون وهم أنبياء، ولو شاء الله أنزل عليهم الخزائن وأغناهم عن طلب التكسب، النبي ﷺ مات ودرعه مرهونة عند يهودي، فالعمل ليس عيباً، وإنما العيب أن يحتاج الإنسان للآخرين، أن يسألهم، أن يطلبهم، تجد الرجل شابًّا قويًّا معافى وكلما تلوح له فرصة يسأل هذا، ويطلب من هذا، ويستجدي من هذا، وهذه غاية المذلة، والنبي ﷺ يقول: لا تحل الصدقة لغنيٍّ، ولا ذي مِرّة سويٍّ[8]. إنسان سوي الخلقة، قوي، صحيح البدن، هذا لا تحل له الصدقة.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (2/ 626).
  2. المصدر السابق (5/ 27).
  3. المصدر السابق (5/ 28).
  4. المصدر السابق (8/ 399).
  5. المصدر السابق (9/ 317).
  6. أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (3/ 179)، رقم: (4771).
  7. سير أعلام النبلاء (10/ 573).
  8. أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة، وحد الغنى، (3/ 76)، رقم: (1556)، والترمذي، أبواب الزكاة عن رسول الله ﷺ، باب من لا تحل له الصدقة (3/ 33)، رقم: (652)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب من سأل عن ظهر غنى، (3/ 47)، رقم: (1783)، وصححه الألباني في إرواء الغليل، رقم: (877).

مواد ذات صلة