الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ..} ، حديث «يؤم القوم أقرؤهم..»
تاريخ النشر: ١٥ / جمادى الأولى / ١٤٢٨
التحميل: 1962
مرات الإستماع: 9732

مقدمة باب توقير العلماء والكبار

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد وهو باب: توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم.

توقير العلماء، التوقير: بمعنى الاحترام والتعظيم، والتبجيل، والمقصود بالعلماء: العلماء بالوحي، بما أنزل الله ، العلماء بهذه الشريعة.

والكبار: يدخل فيه كبار السن، والنبي ﷺ يقول: ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا[1]، فهذه الشريعة جاءت بالآداب الكاملة، ومكارم الأخلاق، ومن مكارم الأخلاق التي يقر بها العقلاء هو توقير الكبير، واحترامه وتعظيمه.

وهكذا أهل الفضل، والمراد بهم: من كان لهم مروءة ونخوة وكرم وشجاعة ونحو ذلك من المعاني والكمالات، فهذه الأمور التي يتفاضل بها الناس، يقال: فلان من أهل الفضل، يعني: هذا رجل له بلاء، هذا رجل نفعه عام للمسلمين، هذا رجل له جهود في الإصلاح، له جهود في نفع متعدٍّ يصل إلى الناس.

قال: وتقديمهم على غيرهم، يعني: فيما يمكن أن يقدموا به، سواء كان ذلك في المجلس، في مكان جلوسهم على مراتبهم، أو كان ذلك في أي أمر يظهر فيه احترامهم، وهكذا أيضاً ما يتعلق بالعطاء حينما كان الناس يُعطَون من بيت مال المسلمين، كلٌّ على قدر منزلته وسابقته وبلائه في الإسلام.

قال: ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم، يعني: أن هؤلاء يُجعلون في صدور المجالس، يقدمون، لا يصح أن يجلس الشباب الصغار -مثلاً- في صدر المجلس وفي مقدمته، والشيوخ الكبار من ذوي الأسنان، أو من أهل الفضل، أو من أهل العلم يجلسون عند الباب، فإن المجالس إذا كانت بهذه المثابة فإنه يكون قد ترحّل من أهلها الأدب والمروءة ومكارم الأخلاق.

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...}

يقول: قال الله –تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر:9].

الاستفهام هنا للإنكار، يعني: بمعنى لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، لا يستوون في الدنيا، ولا يستوون في الآخرة، يعني: الله جعل أهل الإيمان على مراتب، كما قال الله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].

فدرجات أهل الإيمان تتفاوت، فالعلماء من أهل الإيمان أرفع درجة من غيرهم من سائر المؤمنين، والله جعل المراتب في الآخرة -كما تعلمون- متفاوتة غاية التفاوت، والنبي ﷺ أخبر أن معاذ بن جبل يحشر قبل العلماء، يعني: متقدماً عليه، سابقاً لهم برَتْوة، وهذا يدل على التفاوت بين أهل العلم، فكيف بين أهل العلم وغيرهم؟، وهذه الآية التي ذكرتها: إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ، كان الناس يسبقون إلى مجلس رسول الله ﷺ، ولربما جلس بالقرب منه من لا يعي العلم ولا يحفظ الحديث ولا ينتفع كما ينبغي بما يسمع، من رجل أعرابي أو نحو هذا، ثم يأتي العلماء من الصحابة فلا يجدون مكاناً، فيقف الواحد منهم من بعيد، فالله علمهم هذا الأدب بدلاً من أن يقال لهذا القريب الذي سبق: قم من هذا المكان، ويجلس الآخر مكانه، فهذا أمر يجرح مشاعره، ولهذا علمنا الشارع أدباً وهو التفسح، فيتفسحون فيأتي هؤلاء العلماء الذين يفهمون عن رسول الله ﷺ، ويفقهون في دين الله -تبارك وتعالى- فيجلسون بالقرب منه.

ثم قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ فجعلهم بهذه المراتب، بهذا التفاوت والتفاضل، وإذا كان العلم الدنيوي يتفاضل به الناس كما هو معلوم، فالكلب المعلَّم تكون مرتبته ليست كالكلب الذي لم يتعلم، كما قال الله : وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ [المائدة:4]، فإذا انطلق الكلب المعلم وصاد فإنه يحل صيده، وإذا كان ليس كذلك فإنه لا يحل ما صاده.

يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله
وعن ابن مسعود عقبة بن عمرو البدري الأنصاري قال: قال رسول الله ﷺ: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه[1] .

هذا الحديث يتعلق بمسألة الإمام، والأحق بالإمامة، لكن أورده المصنف -رحمه الله- هنا من أجل بيان هذا المعنى، وهو تفاضل الناس، تقديم أهل الفضل، أهل الكمالات على غيرهم.

فهذا الحديث ذكر درجات للناس فيما يتصل بالإمامة، يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، الأقرأ كان في زمن المخاطبين هو الأفقه وهو الأعلم، والصحابة كما جاء عن أبي عبد الرحمن السلمي وغيره أن الواحد منهم ما كان يتجاوز عشر آيات حتى يتعلم ما فيها من العلم والعمل.

وابن عمر بقي في سورة البقرة ثمانيَ سنين، وعمر بقي فيها عشر سنين، فكانوا يتعلمون معانيها، ويتفقهون فيها، ولهذا كانوا يقولون: كان الرجل منا إذا أخذ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا، يعني: صار له منزلة، هذه الآيات أو هذه السور تشتمل على أحكام كثيرة جداً من القرآن، فيكون عالماً، بخلاف من حفظ فقط ولم يعرف الأحكام التي تضمنتها هذه السور، ولا المعاني، فإن ذلك لا يكون بهذه المنزلة، وإن كان الحفظ خيرًا وبرًّا ويرفعه الله به، لكن ليس كالذي يحفظ مع الفقه.

يقول: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله إذا لوحظ هذا المعنى الذي ذكرته فيكون الأقرأ هو الأفقه، وليس مجرد الأقرأ، وهذا الذي ذهب إليه جماعة من أهل العلم كالإمام مالك والشافعي، وذهب أبو حنيفة إلى أن المقدم هو الأحفظ ولو كان مَن خلفه أعلم منه، والأولون احتجوا بما ذكرتُ، واحتجوا أيضاً بأن النبي ﷺ قدّم أبا بكر الصديق يصلي بالناس مع أنه قال ﷺ: أقرؤكم أبيّ فأبيّ أقرأ من أبي بكر الصديق ، فقدّم الصديق.

قال: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، أعلمهم بالسنة، أبو حنيفة -رحمه الله- قال: هذا هو المقصود بالأفقه، أنه يلي الأحفظ، والأولون قالوا: المقصود من الأفقه أنه يعلم ما يحصل في الصلاة، فإذا نابه شيء يعرف كيف يتصرف، ومتى يسجد ومتى لا يسجد، ومتى يسجد قبل السلام، ومتى يسجد بعد السلام، فهذا بحاجة إلى فقه، فهو أولى بالإمامة.

قال: فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، الهجرة من الأعمال العظيمة الجليلة التي يعتد بها، فالأقدم هجرة أحق، كونه أقدم هجرة لاشك أنه مظنة لأن يكون قد تفقه في الدين أكثر، وقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، فإنه لما أراد أن يهاجر تعلق به أولاده وزوجته، وقالوا: إلى من تتركنا؟ فرقّ لهم وجلس، فلما هاجر بعد ذلك بزمان -بسنين- وجد الذين كانوا قد سبقوه بالهجرة قد تفقهوا وتعلموا وأخذوا كثيراً من القرآن فغضب، وهم أن يعاقب زوجته وأولاده على أنهم حرموه من هذا، فأنزل الله هذه الآية، وقال: وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[2]، فالحاصل أن الإنسان إذا كانت هجرته متقدمة فهذا مظنة لفقه وعلم وحفظ.

قال: فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا الأكبر، هذا في حال التساوي في الفقه والقراءة وأيضاً الهجرة، فأقدمهم سناً فقدّم هذا لهذا المعنى.

قال: ولا يَؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه في سلطانه يعني: لو أنه دخل على بيته، لو أن الأمير مثلاً كان معهم، فالأمير أولى بأن يصلي بالناس، وهذه هي السنة، كان الأمراء هم الذين يصلون بالناس ومعهم علماء ومعهم قراء، وكذلك أمراء الجيوش، كانوا هم الذين يصلون بالناس ومعهم من فقهاء الصحابة، ومعهم من قرائهم، إلا إذا قدمه، أي قدّم هذا الأقرأَ، كما يقال أيضاً: إن إمام المسجد هو الأولى بالإمامة ولو كان ما يحفظ إلا جزء عم، ولو كان الذين خلفه يحفظون القرآن كاملاً، هذا الإمام الرسمي، وكذلك أيضاً إذا كان الإنسان في بيته، فهو سلطان في بيته، فهو أحق بالإمامة ولو كان الذي معه يحفظ القرآن، وهذا لا يحفظ إلا قصار السور، وهذا من الآداب والمكارم التي جاءت بها هذه الشريعة، أن لا يتقدم عليه أحد في بيته، في سلطانه.

ولا يَؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تَكْرِمته إلا بإذنه تكرمته: المكان الذي هو مهيأ له، يعني: أحياناً يكون لصاحب البيت مكان معروف يجلس فيه هو، ما يجلس فيه أحد آخر، وُضع عليه فراش معين، أو وُضع له كنب معين خاص، أو نحو هذا، فُصّل له بطريقة، أو أريكة، أو بشكل، ما يأتي أي إنسان ويجلس عليه إلا أن يأذن له؛ لأن هذا أحق به، وهكذا ما يحصل أحياناً تجد الناس حتى في غير البيت مثلاً في الاعتكاف، فهذا الإنسان معتكف، وموجود في المسجد، ووَضع له فراشاً فبمجرد ما ينتقل يتوضأ أو نحو هذا، وإذا بإنسان قد تمدد على فراشه ونام دون استئذان، فهذا يعتبر له حكم الغصب، ويعتبر حرامًا، وهو مذنب بفعله هذا، ولا يجلس على تَكرِمته إلا بإذنه، بخلاف من حجز مكانًا في سجادة، ما يحق له أن يحجز هذا المحل في المسجد، ويتحجر ذلك، فهذا وقف للجميع، فلا حرج أن تزال إن لم يؤدِّ ذلك إلى مفسدة أكبر.

وفي رواية عند مسلم فأقدمهم سِلماً[3] بدلاً من سنًّا، يعني: الأقدم إسلاماً هو الأولى بالإمامة إذا تساوى في القراءة وفي العلم بالسنة وقدم الهجرة، سِلمًا أي إسلاماً.

وفي رواية: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم[4]، هذا عمومًا يدل على هذا المعنى الذي ذكرناه وهو تقديم أهل الفضل، تقديم أهل القرآن، تقديم أهل العلم، تقديم كبار السن على غيرهم، وهذه من الآداب التي ينبغي على المسلمين أن يراعوها، وهي مما تدعو إليه الفطر، وقد جاءت هذه الشريعة بما يدل على مقتضى الفطرة والعقل الصحيح.

هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/ 178)، برقم: (5317)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 1328)، برقم: (3104).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التغابن (5/ 419)، رقم: (3317).
  3. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، (1/ 465)، برقم: (673).
  4. أخرجه أبو داود (1/ 159)، برقم: (582) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3/ 128)، برقم: (593).

مواد ذات صلة