الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إنما مثل الجليس الصالح..»
تاريخ النشر: ٠١ / جمادى الآخرة / ١٤٢٨
التحميل: 2339
مرات الإستماع: 34984

إنما مثل الجليس الصالح

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي موسى الأشعري : أن النبي ﷺ قال: إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، الأمثال -أيها الأحبة- يقصد بها تقريب المعاني المدركة بالعقول في صورة أمور محسوسة، من أجل فهم المعنى المطلوب، ومن أجل تصوره، ومن أجل أن يقع في الذهن موقعاً يؤثر فيه، وهذا كثير في الأمثال المضروبة في القرآن والسنة.

فهنا مثّل النبي ﷺ الجليس في حالتيه، حينما يكون صالحاً، أو يكون سيئاً بهذا الذي يبيع المسك، أو ذلك الذي ينفخ الكير.

فقوله ﷺ: كحامل المسك ونافخ الكير هذا الأسلوب في الكلام يسميه علماء البلاغة: باللف والنشر، واللف والنشر تارة يكون مشوَّشاً، وتارة يكون مرتَّباً.

ذكر النبي ﷺ أمرين في أول الكلام: إنما مثل الجليس الصالح، وجليس السوء هذا يسمى اللف، ذكر أمرين، ثم بعد ذلك ذكر حكمين بعدهما، كل حكم يرجع إلى واحد من المذكوريْن السابقين، يعني: ما ذكر الجليس الصالح ثم ذكر مَثَله بعده، وذكر جليس السوء وذكر مَثَله بعده، لا، أتى بالاثنين جليس الصالح والسوء، ثم أتى بالحكمين بعدهما.

الحكمان: كحامل المسك، ونافخ الكير مرتب على الأوصاف السابقة، أو مفرق فيه تقديم وتأخير؟ مرتب؛ لأنه ذكر هناك أولاً الجليس الصالح، ولما ذكر بعده الحكمين قال: كحامل المسك، فهذا يرجع إلى الأول، وصف للأول، ونافخ الكير وصف للثاني، فهذا يسمونه اللف، ثم الأحكام التي ذكرها بعده يقال لها: النشر، فهذا مرتب، يعني الحكم الأول يرجع إلى الموصوف الأول، والحكم الثاني يرجع إلى الموصوف الثاني.

الله يقول: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، ثم قال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران: 106-107] هذا لف ونشر، ولكنه غير مرتب، لما ذكر الأحكام بدأ بالثاني، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ.

قال: كحامل المسك، ونافخ الكير، حامل المسك هو الإنسان الذي يحمل معه هذه البضاعة، والمسك معروف، وهو طيب يستخرج في الأصل من دم الغزال، نوع من الغزلان، إذا جرى فإنه يجتمع فيه كيس فيه دم، وهذا الدم يسقط منه بهذا الكيس، ثم بعد ذلك يؤخذ هذا ويعالج، ويضاف إليه إضافات، وما أشبه ذلك.

قال: كحامل المسك ونافخ الكير، والكير: هو حانوت الحداد، يكون له مكان معين، ومثل البوق، أو الزِّق أو نحو ذلك، ينفخ فيه من أجل أن عملية الحديد والنار مع هذا النفخ تتوقد.

فنفخ الكير يكون له رائحة سيئة جدًّا، وشرار يتطاير، ونار تتلهب قوية حامية.

قال: فحامل المسك إما أن يُحْذِيك، يعني: يهبك، يعطيك، يقول: تفضل هذه هدية، أو يطيبك، وإما أن تبتاع منه بمعنى تشتري منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، يعني: لن تعدم خيراً في الأحوال الثلاثة، إما أن يعطيك شيئاً، وإما أن تجد منه الريح الطيبة، فأنت رابح بمجالسته، لن تتأذى بمجالسته، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، تطير عليها شرارة، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة.

فهذا الحديث فيه فوائد كثيرة من الأحكام الشرعية: مثل جواز إباحة بيع المسك؛ لأن من أهل العلم من كرهه، كعطاء بن أبي رباح، قالوا: لأنه متولد من الدم، أو دم، ويكره بيع الدم، وهو نجس، هكذا قال بعضهم، والراجح أن هذا الدم طاهر في أصله، باعتبار أن هذا مأكول اللحم، وليس بدم مسفوح.

والأمر الثاني: أن هذا قد تحول إلى شيء آخر، والنجاسات بالاستحالة الراجح أنها تطهر، كما يقولون: لو أنه وقع حيوان أو كلب في مملحة، ثم صار ملحاً، فإنه يتحول إلى شيء آخر، وهكذا الخمر لو تخللت على القول بأن عينها نجسة، مع أن الراجح أنها طاهرة العين؛ لكن نجاستها معنوية، على القول بأنها نجسة فإنها تطهر وهكذا.

فالشاهد هنا جواز بيع المسك، وفيه أيضاً أن الإنسان حينما يجالس الأشرار لن يعدم الشر، يسمع منهم كلاماً سيئاً يُذهب الشفافية من قلبه، مجالسهم تقسي القلب، يصله منهم أذى، شتم، سب، يصله منهم قذف، يصله منهم لربما الأذى باليد، أو نحو ذلك، والإنسان حينما يمر أحياناً على بعض السفهاء، أو ينظر كيف يتكلمون مع بعضهم، وكيف يخاطبون بعضاً يتعجب، كيف هؤلاء لا يقتتلون، وكيف يحتمل بعضهم بعضاً لحظة واحدة، كما هو معروف التحية بينهم سب مقذع، ورفع أصوات، وصخب، وتجد الآخر يضحك بملء فيه وكأن شيئاً لم يكن، تكاد الأرض تنشق من الكلام الذي يقال، كلام هائل عظيم، وهذا لا يبالي بما يسمع، فيتبلد الإحساس، يتبلد القلب، ما يعود للقلب تلك الشفافية التي تكون تجاه الباطل، والمنكر، والكلام السيئ، وإنما كما قيل: كالذي يعيش في مدبغة، الذي يعيش في مدبغة -أعزكم الله، مكان دبغ الجلود، رائحة نتنة جدًّا، لكن هو هل يجد هذه الرائحة؟ هو ما يجدها؛ لأنه يعيش في هذا المكان أصلاً، لو دخل أحد يقول له: يا أخي، ما هذه الرائحة؟، هذه تسبب الصرع والموت، وهو ما يشم هذا؛ لأنه عايش في هذا المكان، الإنسان لا يجد الشيء الذي يألفه، ولذلك أنت تضع الطيب لربما تمر في الممر الناس يجدون الرائحة، والغرفة مليئة بالرائحة، وأنت لا تجده؛ لأنه قريب منك، ولهذا تجد الإنسان الذي فيه بخر -وهو من عرف بالرائحة السيئة في الفم- لا يجد هذا، ولا يتأذى به، بينما تجد الآخرين قد يتأذون على بعد مترين.

فالمقصود -أيها الأحبة- أن مجالسة الأشرار توصل للإنسان الشر والأذى والسوء بصورة أو بأخرى، لابد أن يصل إليك، أقل شيء أن الناس يسيئون الظن بك، ويظنون أنك على شاكلة هؤلاء، وكم سمعنا من أشياء وآفات، ومصائب كانت بسبب هذا.

أحد الذين تابوا وهداهم الله ، كان يحكي لي عن بعض صحبته، يقول: حينما يأتي الواحد منهم معه إلى البيت، يقول: لربما يضع رقم الهاتف تحت إبريق الشاي، فيذهب، من الذي يأخذه؟ يتوقع أن أخته ترفع هذا فتجد الرقم، إلى هذا الحد، شر، يعني هذا الآن استضافه في بيته ويكرمه، ويكيد له ولأهله بهذه الطريقة.

فالإنسان -أيها الأحبة- يبتعد تماماً، ولا يقول: أنا واثق بنفسي، أنا ما يهمني، أبداً.

بالأمس حدثني شخص، يقول: إنه هداه الله ، وبدأ يشتغل على بعض الشباب البعيدين، يقول: لكنهم يتكلمون عندي بأشياء، ويفعلون أشياء لا يتورعون، ووجدت أن قلبي يفسد علي، هل أستمر، أو ما أستمر؟

أنا أقول: هؤلاء اجترءوا عليه، يعني: صار صاحباً لهم، ما هي مجرد أنه يأتي، ويعظهم، ويذكرهم، ويعطيهم هدية كتابًا، ونحو ذلك، لا، سقطت الكلفة، فعدوه من أصحابهم، فاجترءوا عليه هذا الاجتراء، فأسد ذلك عليه قلبه، ولا شك أن الصحبة والمجالسة تؤثر في القلب، والقلب حساس جدًّا أشد من المرآة.

انظر إلى المرآة حينما تلمسها بيدك يؤثر ذلك فيها ينطبع، فالقلب أشد تأثراً من هذه المرآة -أيها الأحبة، الإنسان لو مُدح بكلمتين يتأثر قلبه، لو أنه وجد انتقادًا يتأثر قلبه مهما حاول أن يزكي نفسه، وأن يربيها، وأن يهذبها، وأن يتجرد لله ، إلا أن هذه الأمور تؤثر، فكيف بالكلام الشنيع العنيف؟!، وأما الناس الذين ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر فهؤلاء هم الذين لا يشقى الإنسان من مجالستهم، فإن نزلت عليهم الرحمة والسكينة، وغفر الله لهم شمله ذلك معهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم[2]، وإن ذكروا الله ذكّروه، فذكر الله معهم، والطبع لص كما قيل، الطبع سراق، والناس كأسراب القطا جُبلوا على تشبه بعضهم ببعض، فالذي يجالس أهل الفضل، وأهل الدين، وأهل الخير، وأهل المعروف، سيتأثر بذلك ولا محالة، والذي يجالس الأشرار سيتأثر بذلك ولا محالة، وينبغي للعاقل أن يفكر بين مجالسة قوم لا يسمع منهم إلا الكلام الطيب، والمعاملة الطيبة، والاحترام، والأخلاق، وبين قوم إذا جلس بينهم فلا حرمة له ولا كرامة -نسأل الله العافية، ولا حشمة عندهم، ولا مروءة.

فنسأل الله أن يهدي الجميع، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، ويغفر لنا ولكم أجمعين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، باب المسك (7/ 96)، رقم: (5534)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين، ومجانبة قرناء السوء (4/ 2026)، رقم: (2628).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل مجالس الذكر (4/ 2069)، رقم: (2689).

مواد ذات صلة