الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب..»
تاريخ النشر: ٠٥ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 1419
مرات الإستماع: 3488

لمّا خلق الله الخلق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الرجاء أورد المصنف -رحمه الله:

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لمّا خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي[1]، وفي رواية: غلبت غضبي[2]، وفي رواية: سبقت غضبي[3]متفق عليه.

الله -تبارك وتعالى- متصف بجميع صفات الكمال، على ما يليق بجلاله وعظمته، فمن صفاته -تبارك وتعالى: الرحمة، ومن أسمائه الدالة على هذا الوصف: الرحمن والرحيم، فرحمته -تبارك وتعالى- عامة واسعة لجميع المخلوقات.

والله -تبارك وتعالى- أخبر عن نفسه أنه استوى على أوسع مخلوق، وهو: العرش، بأوسع صفة، وهي: الرحمة، فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وذكرها الله -تبارك وتعالى- بعد ربوبيته التي لا ينفك ولا يخرج عنها مخلوق، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ثم قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، فكما أن ربوبيته لا يخرج عنها شيء، فكذلك أيضاً رحمته وسعت كل شيء، ولعل ذلك أيضاً فيه معنى آخر وهو: أن يُعلم الله -تبارك وتعالى- عباده أن ربوبيته مبنية على الرحمة، لا مجرد القهر والتسلط، وما إلى ذلك، كما يظن من ساء ظنهم بالله -تبارك وتعالى.

فاليهود يزعمون أن الله حينما خلق الخلق، وأوجدهم أول ما أوجدهم في أرض يقال لها: بابل من أرض العراق، ويزعمون في أكاذيبهم وتحريفهم وقولهم على أنبيائهم وعلى الله الكذب، يقولون: إن الله قال لملائكته: هيا بنا فلنبلبل ألسنتهم؛ لأن الناس أرادوا أن يجتمعوا في هذا المكان، ولا يحصل منهم تفرق ولا خروج عنه، من أجل ألا يحصل بينهم اختلاف ولا فرقة، فأرادوا أن يجتمعوا، فقال الله تعالى بزعمهم -تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا: هيا بنا فلنبلبل ألسنتهم، ففرقهم، فاختلفت لغاتهم، فكان ذلك سببًا لتفرق الناس، ووقوع الشحناء والحروب والعداوات فيما بينهم، فهم يصورون ربوبيته -تبارك وتعالى- على أنها مضادة لمنافع الخلق ومصالحهم، وأن المقصود بذلك ضررهم، ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- يسوق إليهم ألطافه ورحماته، والأرزاق عليهم دارّة، ولو تخلى الله عنهم طرفة عين، أو أقل من ذلك لما بقي على ظهرها من دابة.

فالمقصود -أيها الأحبة- أن رحمة الله -تبارك وتعالى- صفة ثابتة في الكتاب والسنة، وهذا الحديث يدل على ذلك، وهناك رحمة خاصة به -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، وهذه الرحمة التي تكون لأهل الإيمان تكون في الدنيا، وتكون في الآخرة، ففي الدنيا: يرزقهم، ويعافيهم، ويقيم لهم معايشهم، وكذلك أيضًا يسوق لهم ألوان الألطاف بألوان الهدايات التي تدخل في قلوبهم، فيوفقهم لما يحبه ويرضاه، فيكون المؤمن من أوليائه وأصفيائه وعباده الذين هم أهل العبودية الخاصة، فهذا من رحمته -تبارك وتعالى، وإلا فماذا كان لنا -أيها الأحبة- منذ الأزل حيث إن الله كتبنا من أمة الإسلام؟ ما الذي سبق منا إليه من أجل أن يصطفيك فتكون من هذه الأمة؟، لو شاء الله لكان البعيد مكانك، من اليهود، أو من النصارى، أو من المجوس، فكم من ملايين البشر، بل مئات الملايين، أو آلاف الملايين يتمرغون في أودية الضلال، والكفر، والانحراف.

لو شاء ربك كنتَ أيضاً مثلهم فالقلبُ بين أصابع الرحمنِ

فهذا لا شك أنه من رحمته: أن يوفق بعض عباده لسلوك صراطه المستقيم في جملة الدخول في الإسلام، ثم أيضاً من ألطافه -تبارك وتعالى: أن يخص من هؤلاء من يتمسكون بشرائع الإسلام، ويلزمون حدود الله  -تبارك وتعالى، ولا يجترئون عليها، ثم إن الله يصطفى أيضاً أقوامًا ليحملوا دعوته، ويبلغوا ذلك للعالمين، فيكون الواحد منهم رسول هداية، فهذا اصطفاء بعد اصطفاء، كل هذا برحمة الله -.

تجد الإنسان أحيانًا إذا نظرت إليه، أحيانًا لا تجد تربية في البيت تستحق أن يُنوَّه بها، أو تُذكر، ولا تجد تربية في خارجه أحيانًا، ومع ذلك الله يسوق إليه ألطافه، فيظهر -ما شاء الله، ويتميز في العلم، والعمل، والعبادة، والدعوة، وما إلى ذلك، ومن الناس من تُبذل معه الجهود الكثيرة من والديه، وممن حوله، ومن بيئته، ويعيش في بيئة محافظة، ومع ذلك لا يَخرج منه إلا الحنظل، وهذا شيء مشاهد، وتجد أحيانًا أبناء بعض الأنبياء ليسوا على دين آبائهم، فالقلب بين أصابع الرحمن، فهذه من رحمته -تبارك وتعالى.

فالشاهد: أن الله  لمّا خلق الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش..، وهذا على ظاهره، ولا يجوز أن يؤول، ولا يحرف، كما يقول بعض أهل الكلام.

إن رحمتي تغلب غضبي، أو غلبت غضبي، أو سبقت غضبي، والغضب أيضاً:صفة ثابتة لله ، على ما يليق بجلاله وعظمته، وهي: على ظاهرها، وغضبه لا يماثل غضب المخلوقين، لكن لا يُشتق له من هذه الصفة اسم، فإن هذه الصفة -صفة الغضب- ليست مدحًا بإطلاق، وإنما تكون مدحًا في مقام، وليست بمدح في مقام آخر، فما كان من هذا القبيل فإن الله لم يسمِّ نفسه باسم مشتق من هذه الصفة، وأمثالها، فلا يقال لله : الغاضب، فليس ذلك من أسمائه؛ لأن الغضب أحيانًا يكون مدحًا، وأحيانًا يكون ذمًّا، فالغضب في موضعه صفة مدح، وفي غير موضعه يكون صفة ذم.

فرحمته سبقت غضبه، وهذا ظاهر مشاهد في هذا العالم الذي نراه، فلربما تجد هؤلاء الذين يقتلون أولياءه، ويحاربون دينه، تجد أن الله قد يوفق بعضهم إلى الهدى، والإيمان، ويتوب عليهم، ويدخلهم الجنة، والله يقول: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً [الممتحنة:7]، ولما دعا النبي ﷺ وقنت يدعو على رجال بأسمائهم، ويدعو على قبائل، أنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران: 128][4]، فهذا كله إلى الله ، ثم إن الله -تبارك وتعالى- يقيم هؤلاء الذين يبارزونه بالعداوة، فهو الذي يقيمهم، فهو الحي القيوم، وهو الذي يرزقهم، وهو الذي يعافيهم، وهو الذي يجيب دعاء المضطرين من الكافرين والمؤمنين، ولو يعاجل الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة، فهذا كله داخل في كون رحمته قد سبقت غضبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُآل [عمران: 28]، رقم: (7404)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه، رقم: (2751).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، رقم: (3194).
  3. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ۝ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21 - 22]، رقم: (7554).
  4. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، رقم: (4560)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة، رقم: (675).

مواد ذات صلة