الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الجوع وخشونة العيش، والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس، وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات أورد المصنف -رحمه الله-:
حديث أسماء بنت يزيد -وهي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية تكنى بأم سلمة رضى الله عنها- قالت: كان كُمُّ قميص رسول الله ﷺ إلى الرُّسغ[1] رواه أبو داود، والترمذي، وقال حديث حسن.
والرصغ بالصاد والرسغ بالسين أيضًا هو المفصل بين الكف والساعد.
كانكُمُّ قميص رسول الله ﷺ إلى الرسغ، بمعنى: أنه لم يكن طويلًا يغطي كفه أو يغطي نصف كفه كما هو حال غالب الناس، وذلك فيه من الإسراف، وأيضًا يعيق الإنسان عن تناول الأشياء وتعاطيها، ولا يكون أيضًا قصيرًا مشمرًا فيتأذى من حر الشمس مثلًا، وإنما يكون معتدلًا، وهذا الحديث لا يصح من جهة الإسناد، ولكنه صح عن النبي ﷺ أن الإسبال يكون في الكم والعمامة والقميص، والقميص: هو الثوب الذي نلبسه، يقال له: قميص.
وصح عنه ﷺ أن الإسبال يكون في الإزار والعمامة والقميص[2]، فالقميص الكم يكون فيه الإسبال، والحد الذي يكون عنده هو هذا المفصل المعروف بالرسغ -بالسين والصاد، والعمامة بحيث تكون معتدلة لا تكون طويلة كثيرًا، أو تكون لها لفائف كثيرة جدًّا مبالغ فيها، وإنما كما هي العادة أن تسترسل ذؤابتها إلى منتصف الظهر لا تزيد على ذلك، فإذا كانت العمامة طويلة فإن هذا فيه من تضييع المال والخروج عن المقصود ما فيه، وهكذا فيما يتعلق بالإزار والقميص، فالإزار يذكر في الأحاديث؛ لأن غالب ما يلبسه الناس في ذلك الوقت هو الإزار، وإلا فلا فرق بين الإزار والقميص والبنطال والسراويل، وكل ما يمكن أن يتصور أن يلبسه الإنسان فإنه يدخل فيه الإسبال فلا يزيد على الكعبين ،وما زاد على الكعبين فهو في النار، ومجموع الأحاديث يدل على أن الإسبال على مرتبتين:
نوع يحرم وهو الذي جاء الوعيد فيه على لابسه بأنه في النار ما زاد على الكعبين فهو في النار[3]، قيل: هو هذا القدر الزائد في النار، وبعضهم يقول: في النار يعني: أن صاحبه يعذب في النار، والأحاديث الأخرى أيضًا جاء فيها تقييد ذلك بالخيلاء، ومن تأمل الأحاديث ونظر فيها وجمع بينها فإنه قد يخرج بنتيجة أنّ مَن جره خيلاء فإنه يكون من الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، فيكون أعظم وأشدّ، وأما إذا جره من غير الخيلاء فإنه يكون متوعدًا بالنار.
والإسبال من المخيلة، هو من عمل أهل الخيلاء قصد أو لم يقصد، فلا يليق بالمؤمن أن يتشبه بهم، وأن يفعل فعلهم، وأن يكون محاكيًا لهم في الظاهر.
وما جاء عن أبي بكر الصديق أنه لما سمع الحديث من النبي ﷺ والوعيد ذكر له حاله وكان نحيلًا ضعيفًا في بدنه وبنيته فقال: إنه يتعاهده، وإنه يسترسل -يعني: الإزار، فقال له النبي ﷺ: لستَ ممن يفعله خيلاء[4].
فدل ذلك على أن أبا بكر يقع ذلك منه من غير قصد حيث يسترسل، ينزل الإزار من غير قصد، فيرفعه، فهذا كمن يلبس إزارًا وهذا الإزار لا يتماسك عليه فينزل، فكلما نزل قد يغفل عنه وقد يرفعه ويتعاهد ذلك، فلا يكون ذلك ممن جره خيلاء، وهكذا لو أنه لبس جبة أو نحو هذا ترتفع عن الكعبين، لكنه إذا غفل عنها نزلت من أكتافه فتجاوزت الكعبين فيرفعها، فلا يكون ذلك ممن يفعله خيلاء، ويكون معذورًا بهذا الفعل.
وأما المرأة فقد رخص النبي ﷺ لما سألته النساء؛ من أجل أن تستر قدميها، قال: يرخينه شبرًا فلما قيل له: إذن تظهر قدماها، قال النبي ﷺ: يرخينه ذراعًا[5] وهو الذيل الذي يكون لثوب المرأة.
لكن هل هو الذيل الذي تصنعه النساء اليوم فيما يعرف بذيل العروس مثلًا الذي تلبسه في ليلة الزفاف؟، الجواب: لا، وإنما يفعلون ذلك تشبهًا، وهذا مما وصل إلى المسلمين من غيرهم من النصارى، ولربما حملته بعض الفتيات الصغيرات خلفها، فهؤلاء لا يفعلونه من أجل الستر، ولذلك قد تلبس مثل هذا الذي له ذيل وهي عارية من أعلى البدن، وأيضًا هي إنما تفعل ذلك بين النساء، ولا تحرص على ستر قدميها إذا خرجت إلى الشارع والسوق، حيث يراها الرجال وهكذا تخرج كفيها، فهي لا تفعل ذلك تسترًا، فمثل هذا يقال: إنه من التشبه، وليس للمرأة المسلمة أن تحاكي أعداء الله وأن تلبس لباسهم، والله تعالى أعلم.
الحديث الذي بعده حديث طويل حديث جابر بن عبدالله قد يأخذ وقتًا كثيرًا فنتركه إلى الليلة القادمة -إن شاء الله تعالى.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
- أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص (4/ 43)، رقم: (4027)، والترمذي، أبواب اللباس عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في القُمُص، (4/ 238)، برقم: (1765)، وأبو داود، كتاب اللباس، باب ما جاء في القميص، (4/ 43)، برقم: (4027)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، (200)، برقم: (28).
- أخرجه النسائي، كتاب الزينة، باب إسبال الإزار، (8/ 208)، برقم: (5334)، وأبو داود، أول كتاب اللباس، باب في قدر موضع الإزار، (6/ 192)، برقم: (4094)، وابن ماجه، كتاب اللباس، باب طول القميص كم هو، (4/ 585)، برقم: (3576)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 536)، برقم: (2770)، بلفظ: الإسبال في الإزار والقميص والعمامة....
- أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، (7/ 141)، برقم: (5787)، بلفظ: ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار.
- أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب من جر إزاره من غير خيلاء، (7/ 141)، برقم: (5784).
- أخرجه الترمذي، أبواب اللباس عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في جر ذيول النساء (4/ 223)، رقم: (1731)، والنسائي، كتاب الزينة، ذيول النساء (8/ 209).