الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه هي الرواية الثانية لحديث جابر في ما وقع له مع النبي ﷺ في غزوة الخندق، يقول جابر :
لما حُفر الخندق رأيت بالنبي ﷺ خمَصًا، فانكفأت إلى امرأتي، فقلت: هل عندكِ شيء؟، رأيت به خمَصًا، الخَمَص هو ضمور البطن من شدة الجوع، يقول: فإني رأيت برسول الله ﷺ خمصًا شديدًا، وجاءت الرواية الأخرى أنه قد ربط على بطنه حجرًا من الجوع، يقول: فأخرجتْ لي جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، والرواية الأخرى أنها عَناق وعرفنا المراد بذلك، والداجن: هي التي تربى في البيوت لا تذهب إلى المرعى، فتجمع على دواجن.
يقول: فذبحتُها، وطحنتِ الشعير ففرغتْ إلى فراغي، يعني: أنها انتهت معه حينما ذبح هذه العَناق، انتهى معها في وقت متقارب، يقول: ففرغتْ إلى فراغي وقطعتُها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله ﷺ يعني: وضع قطع اللحم في القدر أو ما يشبهه، ثم وليت إلى رسول الله ﷺ فقالت: لا تفضحني برسول الله ﷺ ومن معه، يعني: لا تدعُ أناسًا كثيرين وليس عندنا ما يكفيهم، وإنما تدعو النبي ﷺ ومعه القليل، الشاهد يقول: فجئت فساررته، فقلت: يا رسول الله، ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعًا من شعير، فتعال أنت ونفر معك، وصاح رسول الله ﷺ فقال: يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع سؤرًا فحيّهلا بكم وفي الرواية السابقة أن النبي ﷺ سأله عن هذا الطعام ما مقداره، فلما أخبره قال النبي ﷺ: كثير طيب[1]فدعا أهل الخندق، وعرفنا أنهم يبلغون الألف، فدعاهم على هذا الصاع من الشعير والعَناق، فقال: يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع سؤرًا فحيّهلا بكم يعني: أقبِلوا هلموا، فقال النبي ﷺ: لا تُنزلنّ برمتكم ولا تخبزنّ عجينكم حتى أجيء.
يقول: فجئت وجاء النبي ﷺ يقدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت: بكَ وبكَ، بكَ وبكَ هذه يراد بها المعاتبة، أقرب ما تفسر به -والله تعالى أعلم- ما يقوله الناس اليوم: فلان الذي فيه وفيه، من باب العيب والعتاب، وما أشبه ذلك، بكَ وبكَ يعني: أنت الذي فيك وفيك، يعني: كيف أحرجتنا بهذا مع رسول الله ﷺ؟ تظن أنه ما فعل ما أوصته به، ما أخبر النبيَّ ﷺ بذلك.
يقول: فقلت: قد فعلتُ الذي قلتِ، يعني: أني أخبرت النبي ﷺ سرًّا وأخبرته عن قدر الطعام، فعرفتْ أنها ستكون معجزة فاطمأنت وسكنت.
يقول: فأخرجتْ عجينًا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، يعني: هذا سبب البركة، البركة من الله -تبارك وتعالى- والسبب أن النبي ﷺ بصق، يقال: بسق بالسين وبصق كل ذلك لغة صحيحة، بصق في العجين، وفي اللحم فكان ذلك سببًا للبركة.
يقول: فبصق فيه وبارك يعني: دعا بالبركة ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها[2] وهم ألف.
قال: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه.
يقول: حتى تركوه وانحرفوا، يعني: ذهبوا، وإن برمتنا لتغطّ كما هي وإن عجيننا ليُخبز كما هو.
بهذا نعرف أن آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- منها ما يقصد به التحدي، وذلك يكون في مقابل ما يحصل من الكفار والمكذبين من المعاندة والمعارضة، فتأتي معجزات الأنبياء مثل انشقاق القمر، وعصا موسى واليد، فكل هذا من الآيات التي تكون من قبيل المعجزات التي يقصد بها التحدي، وهناك نوع من آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهي خوارق العادات -المعجزات- ما لا يقصد به التحدي، مثل هذا، تكثير الطعام، ونبع الماء بين أصابعه ﷺ وما أشبه ذلك، فهذه من آيات الأنبياء التي لا يقصد بها التحدي وهي معجزات.
يبقى قسم آخر من آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهو ما لا يكون من قبيل خوارق العادات، وهذا كثير، فيعرف ذلك مما يدعو إليه، ومن وجهه أنه ليس بوجه كذاب، ومن أمور كثيرة لا تخفى، ولهذا رأيتم في السؤالات التي وجهها هرقل لأبي سفيان ومن معه سألهم عن عدة أمور، سألهم هل يغدر، وهل في آبائه من ملك، وكذلك أيضًا سألهم عما يدعوهم إليه، كل الأمور التي سأل عنها ليس فيها معجزة، ثم قال بعد ذلك: إن كان كما قلت فسيملك ما تحت قدمي، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته ولغسلت قدميه[1] أو كما قال.
فالشاهد أن هذا كله من آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
نسأل الله أن يحشرنا تحت لواء محمد ﷺ وأن يوردنا حوضه، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب ترجمة الحكام، وهل يجوز ترجمان واحد، (9/ 76)، برقم: (7196)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، (3/ 1393)، برقم: (1773).