الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرهما من حظوظ النفس وترك الشهوات تم الباب الذي عقده المصنف -رحمه الله- وأورد فيه أحاديث كثيرة في هذا المعنى، وفي هذه الليلة أقرأ بعض ما ورد عن السلف في هذا الباب.
فعن ابن سيرين -رحمه الله- قال: إن رجلًا قال لابن عمر: أعْمل لك جوارش؟ قال وما هو؟ قال: شيء إذا كظَّك الطعام فأصبتَ منه سهَّل، يعني: كما نقول نحن اليوم: مهضم، فقال ابن عمر -ا: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وما ذلك ألا أكون له واجدًا، يقول: ليس لأنني لا أجد ما آكل، ولكنني عهدت قومًا يشبعون مرة ويجوعون مرة[1].
بل قال رجل لعمر بن الخطاب وقد قدم من العراق جاء له بشيء من أجل أن يأكله سأله عمر فقال: هذا إذا أكلت الطعام فإنه يسهل، يعني: يهضم فغضب عمر وقال: ما شبعت من يوم كذا وكذا، لا حاجة لي فيه، هذه الأشياء التي نعتني بها الآن، وهي حديث مجالسنا، الأمور المهضمة، والأمور التي تتعلق بالأكل والشرب، انظروا إلى حالتهم.
يقول الأعمش -رحمه الله: كنت إذا رأيت مجاهدًا، يعني: مجاهد بن جبر إمام التابعين، يقول: إذا رأيته ازدريته متبذلًا كأنه خَرْبَنْدج ضل حماره وهو مغتم[2]. يقول: كأنه إنسان صاحب حمار وضل حماره فاغتم لذلك، وهو إمام عالم.
وعن أبي سعد قال: كان سالم بن عبدالله بن عمر غليظًا، كأنه حمّال[3]، وقيل: كان على سمت أبيه في عدم الرفاهية؛ لأن ابن عمر كان يلبس ثيابًا غليظة حتى إنه جاءه رجل بثياب من خرسان فأعطاها إياه فنظر إليها، وقال: أحرير هو؟ قال، لا، من القطن، فنظر إليه، وقال: لا حاجة لي فيه، وذكر له أثر التنعم وما أشبه ذلك.
وأيضًا جاء عن أبي حمزة السكري -رحمه الله- أنه قال: ما شبعت منذ ثلاثين سنة إلا أن يكون لضيف[4].
وعن إبراهيم بن أدهم قال: أخاف ألا أؤجر في تركي أطايب الطعام؛ لأني لا أشتهيه، وكان إذا جلس على طعام طيب قَدّم إلى أصحابه وقنع بالخبز والزيتون[5]. يعني: يقدم الطعام لأصحابه وهو يأكل الخبز والزيتون.
ويقول الربيع تلميذ الشافعي: سمعت الشافعي يقول: ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة، فأدخلت يدي فتقيأتها، وزاد أيضًا في رواية يقول: لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف العبادة[6].
ويقول أبو سليمان الداراني: أصل كل خير الخوف من الدنيا، مفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع[7].
ويقول أبو بكر المروزي: سمعت بشر بن الحارث يقول: الجوع يصفي الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق[8].
وجاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه صلى حينما ذهب إلى اليمن بالإمام عبدالرزاق الصنعاني صاحب المصنف فسها الإمام أحمد، فسأل عنه عبدالرزاق فأُخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئًا[9].
وجاء عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: ربما رأيت أبي يأخذ الكِسَر -يعني من الخبز- ينفض الغبار عنها ويصيرها في قصعة ويصب عليها ماء ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رمانًا ولا سفرجلًا ولا شيئًا من الفاكهة إلا أن تكون بطيخة -فيأكلها بخبز- وعنبًا وتمرًا[10].
ويقول أحمد بن حنبل -رحمه الله- لابنه صالح: كانت والدتك في الظلام تغزل غزلًا دقيقًا فتبيع الأستار بدرهمين أقل أو أكثر فكان ذلك قوتنا، وكنا إذا اشترينا الشيء نستره عنه كي لا يراه فيوبخنا، وكان ربما خُبز له فيَجعل في فخارة عدسًا وشحمًا وتمراتٍ شِهْريز فيجيء الصبيان فيصوت ببعضهم يقول: تعالوا كلوا فيدفعه إليهم فيضحكون ولا يأكلون، ما يعجبهم هذا الطعام، وكان يأتدم بالخل كثيرًا[11].
وذكر المروذي عن أحمد أنه بقي بسامراء ثمانية أيام لم يشرب إلا أقل من ربع سويق[12].
والإمام البخاري صاحب الصحيح ذكر بعض أصحابه أنهم كانوا معه بالبصرة يكتبون، يقول: ففقدناه أيامًا، ثم وجدناه في بيت وهو عريان، وقد نفد ما عنده، فجمعنا له الدراهم وكسوناه.
على كل حال الذهبي يعلق على هذا يقول: إن ترك الفضول من الدنيا والجوع بلا إفراط هذا هو المقصود، أما من بالغ في الجوع كما يفعله الرهبان ورفض سائر الدنيا ومألوفات الناس من الغذاء والنوم والأهل فقد عرض نفسه لبلاء عريض، ولربما خلط في عقله، وفاته بذلك كثير من الحنيفية السمحة، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، والسعادة في متابعة السنن، فزِن الأمور بالعدل، وصم وأفطر، ونم وقم، والزم الورع في القوت، وارض بما قسم الله لك، واصمت إلا من خير[13].
على كل حال هذا الذي ذكره الإمام الذهبي -رحمه الله- هو الطريق الصحيح في هذا الباب، فليس المقصود أن الإنسان يترك الطيبات وهو يجدها، والنبي ﷺ كما سبق كان يحب الحلوى، وكان يحب العسل ﷺ والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، وقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51].
والنبي ﷺ كان يأكل اللحم، وإذا قُدم إليه شيء من الثمر أو نحو ذلك أكله ﷺ.
لكن المقصود هو ألا يستكثر الإنسان من الطعام، ولا يكون ذلك هو همه وهمته، ولا يكون الإنسان بحال بحيث كلما اشتهى شيئًا بحث عنه واشتراه وطلبه؛ فإن التوسع في مثل هذه الأمور يضر بالإنسان، وكثرة الشبع لا شك أنها تورث الغفلة وكما قيل: البِطنة تذهب الفطنة.
ولذلك تجد القلب يقسو ويحصل للإنسان من الفتور والضعف ودنو الهمة ما لا يخفى، لكن الإنسان يعتدل في أموره كلها إذا أكل فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس[14].
أما أن يكون الإنسان يتنقل من مطعم إلى مطعم، أو المرأة تقضي أكثر الوقت في المطبخ وبين كتالوجات الطهي ونحو ذلك وتشتريها بأغلى الأثمان، فهذا أمر لا يليق، لكن قد يكون هذا بالنسبة لبعض النساء هو أفضل ما قَطعت به الأوقات، قد تكون المرأة إن لم تفعل هذا فإن وقتها يكون مشغولًا بمشاهدة القنوات السيئة ومتابعة الأفلام الهابطة، ونحو ذلك مما يضرها ولا ينفعها، فيقال: تقضي وقتها في الطهي ونحو ذلك وتأكل خير من أن تشتغل بأمور تذهب بالدين والحياء، وبالدنيا أيضًا، فالناس يتفاوتون في هذا؛ لكن المقصود هو أن يعتدل الإنسان في أموره كلها، وما نحن فيه هو من قبيل التوسع، فنحن بما أنعم الله علينا في شبع دائم، ولذلك نحن لا نكاد نخشع، ولا تلين قلوبنا للموعظة ولا نتأثر، وهذا من أعظم أسباب ذلك.
كذلك أيضًا آثار هذه الأمور على الناس من التخمة، وأصبح حديث كثير من الناس بتخفيف الوزن لا بتقليل الطعام، والصيام ونحو ذلك، لا، هو يريد أن يأكل ويأكل ويأكل؛ لكن بحيث يبدو رشيقًا فصرت تسمع عن أشياء كثيرة من ربط المعدة أو أمور أخرى من قطع الأمعاء، أو غير ذلك مما يفعل، فمثل هذه الأشياء هي من آثار كثرة الأكل.
إذا كان الإنسان عنده إفرازات غير منضبطة وزائدة فهذا أمر إلى الله لا يلام عليه، أمّا أن يكون هذا من الإفراط في الأكل فلا، فهذا بدلًا من أن يربط معدته، وبدلًا من أن يجلس يقطع أمعاءه، ويحصل له من آثار ذلك ما الله به عليم يصوم ولله الحمد، يمنع نفسه من الطعام، ما الفرق بين الإنسان وبين البهيمة؟ البهيمة لا تمتنع من شيء، تأكل حتى يصيبها البشم، أما الإنسان فإنه عنده اختيار وعقل وقدرة وتمييز وبصر في الأمور، فيأكل بقدر ما يرى أن ذلك هو الأصلح له، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
- سير أعلام النبلاء (4/ 313).
- المصدر السابق (4/ 452).
- المصدر السابق (4/ 466).
- المصدر السابق (7/ 387).
- المصدر السابق (7/ 391).
- تاريخ دمشق لابن عساكر (51/ 394).
- سير أعلام النبلاء (10/ 184).
- المصدر السابق (10/ 471).
- المصدر السابق (11/ 193).
- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 304).
- المصدر السابق.
- سير أعلام النبلاء (11/ 301).
- المصدر السابق (14/ 70).
- أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، (4/ 590)، برقم: (2380)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الرقائق، باب ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ترك الفضول في قوته رجاء النجاة في العقبى مما يعاقب عليه أكَلَة السحت، (2/ 449)، برقم: (674)، والبيهقي في شعب الإيمان (7/ 448)، برقم: (5263)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 336)، برقم: (2265).