الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
مقدمة عن الباب
تاريخ النشر: ٢٨ / ذو الحجة / ١٤٢٩
التحميل: 1455
مرات الإستماع: 2287

مقدمة باب فضل الغني الشاكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول المصنف -رحمه الله: باب فضل الغنيّ الشاكر، وهو من أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها.

العلماء -رحمهم الله- تكلموا كثيراً في مسألة المفاضلة بين الغنيّ الشاكر، والفقير الصابر، أيهما أفضل؟

فبعض أهل العلم يقول: إن الغنيّ الشاكر أفضل؛ لأن الدواعي إلى المخالفة لديه أكثر وأقوى، وكلما قوي الداعي إلى المعصية والانحراف وصبر الإنسان عن ذلك كلما ارتفعت منزلته، وكان ذلك أعظم في جزائه وثوابه، بخلاف ما إذا قل الداعي، ولهذا جاء في حديث الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم: العائل المستكبر، والأشيمط الزاني، والملك الكذاب[1].

فهؤلاء الدواعي عندهم إلى هذه المعاصي ضعيفة، قليلة، فهذا الأشيمط قد ضعفت قواه وتلاشت غرائزه، ومع ذلك يزني، فهذا يدل على أن السوء قد تغلغل في داخله وفي نفسه، فهو يفعل المعصية مع ضعف الدواعي إليها، وهكذا الملك الكذاب، فإنه لا يخاف من أحد، ومع ذلك يكذب، وكذلك أيضاً العائل المستكبر، فالإنسان إنما يتكبر إذا كانت دواعي الكبر موجودة، أما إذا كان عائلاً فقيراً له عيال، ومع ذلك يتعالى على الناس فهذا أعظم، وكلما كثرت الدواعي للمعصية وتركها الإنسان خوفاً من الله كلما كان ذلك أرفع في منزلته ومرتبته، ولذلك ذكر النبي ﷺ في السبعة الذين يظلهم الله في ظله ذكر الشاب الذي نشأ في طاعة الله، فإنّ توفُّر الغرائز والقُوى في الشباب أكثر منها في غيرهم، فإذا نشأ في طاعة الله فهذا أعظم في أجره وجزائه.

وهكذا يوسف ﷺ حينما دعته امرأة العزيز، لذا جاء في السبعة الذين يظلهم الله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله[2]، فالمنصب يحميه، والجمال يغريه، ومع ذلك ترك هذه المعصية.

فمن طبيعة النفس البشرية أنها تترفع وتتعالى إذا حصل لها الغنى، كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7]

إذا قهر نفسه، وزمّها بطاعة الله ولم يحمله هذا الغنى على الطغيان فإن ذلك يكون رفعة في منزلته.

ومن أهل العلم من يقول: إن الفقير الصابر أفضل، ويحتجون أيضاً بأمور، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذه المسألة، فذكر أن أفضلهما أتقاهما لله ، فإن العبرة بالتقوى سواء كان فقيراً أو غنياً.

والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذه المسألة قد بنيت على تصور لا يخلو من إشكال أو خطأ، وذلك أنهم جعلوا الفقير صابراً، أو إذا كان صابراً جعلوا الصبر في ناحية الفقير، وجعلوا الشكر في ناحية الغنى، مع أن الغني بحاجة إلى الصبر، فالغني يحتاج إلى الصبر؛ من أجل أن يحمل نفسه على طاعة الله فلا يطغيه هذا الغنى، فدواعي الطغيان عنده متوفرة، فهو بحاجة إلى صبر، هذا غني صابر قبل أن يكون شاكراً.

المال محبوب جدًّا إلى النفوس، وكلما كثُر المال عند الإنسان كلما ازدادت عنده دواعي الشُح، ولذلك عامة من يسألون عن الزكوات، وعن مسائلها وكذا هو الذي زكاته ألفان ريال، وخمسمائة ريال، وسبعمائة ريال، وإلى ساعتي هذه ما سألني أحد قط ممن يملك المليارات عن مسألة من مسائل الزكاة إلى يومي هذا، على كثرة ما يأتي من الأسئلة التي تكاد تكون يومية برسائل جوال، عن قضايا تتعلق بالزكاة، مثل: عندي قليل من الذهب كيف أزكيه؟ هل أخرج من نفس الذهب، أو أخرج من كذا؟ وإذا زوجي أخرجه من عنده؟

وهذا يقول: عندي خمسمائة ريال زكاة متخلفة من السنة الماضية، هل أحسبها السنة الماضية خمسمائة أو أكثر أو أقل؟.

فأقول: كلما ازداد المال عند الإنسان كلما ازداد عنده الشُح والشره إلا من رحم الله، ولطف به، وقليل ما هم، ولذلك تجد الناس حينما يثنون على إنسان لا يثنون على فقير فيقولون: ما شاء الله، فقير يصلي بالمسجد، وهو ما الذي عنده؟، ما عنده إلا التراب، ولهذا يقال: تربت يداه، يعني: لصقت بالتراب.

أملقَ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ [الأنعام:151]، من المَلَقات وهي الحجارة الملساء الكبيرة، يعني: كأنه ما عنده إلا الأحجار، هو ما الذي عنده يعني: يلهيه، أو يطغيه؟.

لكن الغنيّ يقال: ما شاء الله، من الأثرياء، فلان ما شاء الله، يصلي في المسجد في الجماعة، فلان في الفجر يصلي في المسجد، فالناس يرون أن هذا المدح بمحله؛ لأن من كان على شاكلته في الغالب فهو بعيد عن هذه الأمور، فمَن لطفَ الله به، وحفظه وأعانه على نفسه تصدق، وكذا وكذا، وكم من إنسان يقول: أنا أريد أن أتّجر، وكذا، وأجمع المال الكثير، يقول: من أجل أن أتصدق، وإذا حصل له المال الكثير لم يتصدق.

فالمسألة مبنية على فرضية لا تخلو من إشكال، أو خطأ في نظري، وذلك أن الصبر موجود فيهما، بل لابد منه، فالغني لا يمكن أن يكون صالحاً تقيًّا يأخذ المال من حله ويصرفه في حله ويتصدق وينفق ويشكر الله على هذه النعمة إلا أن يكون صابراً، بل هو بحاجة إلى صبر أعظم مما يحتاجه الفقير.

الفقير ليس أمامه إلا الصبر، ماذا يفعل؟ لكن الغني لا، عنده المال يستطيع أن يفعل ما يشاء، يستطيع أن يفعل أنواع الفساد، واللهو، والتوسع في معصية الله أو في الشبهات، أو في الربا، أو في غير ذلك، الفقير ما عنده شيء، أين يذهب؟ حتى لو أراد أن يسافر ما عنده ولا قيمة تذكرة، فهذا يحتاج إلى صبر، وهذا يحتاج إلى صبر.

ولذلك حينما تفرض المسألة بهذه الطريقة: غني شاكر، فقير صابر، هذا فيه إشكال، هذا صابر، وهذا صابر، فأفضل هؤلاء هو الأتقى لله فإذا كان الفقير شاكراً فهو أفضل، لكن لو فُرض وُجد اثنان فقير وغني، وكلاهما بمرتبة واحدة من التقوى، هذا فقير، وهذا غني، أيهما أفضل؟

انظر في المرجحات السابقة، فالغني يحتاج إلى صبر أعظم مما يحتاج إليه هذا الفقير، والفقير يحتاج إلى شكر أيضاً، فنعم الله الظاهرة والباطنة لا تحصى على الإنسان، بل إن الفقر قد يكون نعمة ويحتاج الإنسان عليها إلى شكر، وما ينال الفقير من طعمة، ولقمة، ونحو ذلك، كل هذا من نعم الله التي يحتاج معها إلى شكر.

ولذلك فإن النبي ﷺ لما خرج من الجوع، وخرج أبو بكر، وخرج عمر، وأكلوا عند ذلك الأنصاري ماذا قال النبي ﷺ؟، قال: والله لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة[3].

فإذا أكل الإنسان الأكلة يحتاج معها إلى شكر، فالفقير لا يخلو من شكر، كما أن الغني لا يخلو من صبر، فينظر فإذا تساويا في العبادة والتقوى ونحو ذلك فإن منزلة الغني الشاكر تكون أفضل، إذا كان يبذل، ويتصدق، وينفق، ويعطي، وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].

ثم ذكر الآيات، أترك الكلام عليها في ليلة قادمة، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية، وتنفيق السلعة بالحلف، وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (1/ 102)، رقم: (107)، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر.
    وورد لفظ الأشيمط عند الطبراني في المعجم الكبير (6/ 246)، رقم: (6111)، عن سلمان قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل اللهَ بضاعةً، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد (1/ 133)، رقم: (660)، ومسلم، باب فضل إخفاء الصدقة (2/ 715)، رقم: (1031).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام (3/ 1609)، رقم: (2038).

مواد ذات صلة