الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ١٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣٠
التحميل: 1371
مرات الإستماع: 2008

قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا ابتدأنا في الليلة الماضية في باب "الورع وترك الشبهات" وعرفنا المراد بالورع، وأنواع الورع، الورع المشروع، والورع المتكلف، وكذلك المراد بالشبهات.

ثم صدّر المصنف -رحمه الله- هذا الباب كعادته بآيات من كتاب الله .

قال الله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النــور:15].

هذه الآية -كما هو معلوم- نازلة في قصة الإفك، والشاهد هنا حينما ساقها المصنف -رحمه الله- في هذا الباب من أجل الاشتراك في المعنى، وهو أن الإنسان قد يلج في أمر من الأمور من الأقوال أو الأفعال ويتساهل بهذا القول أو الفعل ويظنه هيناً وهو عند الله عظيم.

فالإنسان في كثير من الأحيان يتعاطى بعض الأمور ويصدر منه كلام قد لا يعبأ به ولا يتورع منه، ويتعامل بعض التعاملات المالية ونحو ذلك، ويظن أن ذلك من الأمور السهلة التي لا يؤاخذ عليها، وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ.

كما قال النبي ﷺ: إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم[1].

في الرواية الأخرى: ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت[2]، وهذا يجعل الإنسان لا يقيس هذه الأمور بمقياسه هو؛ لأن الميزان عند الله أدق من ذلك.

وكما سبق في بعض المناسبات فالله يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ  [الزلزلة:7-8].

فالوزن عند الله -تبارك وتعالى- بمثاقيل الذر، مما لا يصلح لموازيننا هذه، ولا يجري عليها، ولذلك يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

فحبة الخردل يحاسب عليها الإنسان، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

فهم يقولون: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً، كما قال الله أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].

فهم لربما لا يبالون بهذه الأعمال والأقوال التي تصدر عنهم، فينسونها، ويتعجبون من إحضارها في صحائف الأعمال، ولربما لكثرتها أو لتقادم العهد وطول الزمان نسوها، لكن الله أحصاها.

وذكرت في بعض المناسبات: ما جاء عن معاوية بن قرة من التابعين -رحمه الله- أنه أهدي إليه طعام، ثم أكل منه، وتركه، فلما أصبح نظر إليه وقد اسود -يعني ما تبقى منه- من الذر، فوزنه بالذر، ثم أزاح الذر عنه فوزنه ثانية، فلم يتغير وزنه.  

فهذا ذر كثير لم يغير في الوزن، فكيف بذرة واحدة؟!، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8].

الآخر الذي يقال له أبو العباس الخطاب الذي جاء بنحو الخمس والعشرين ذرة فوضعها في كفة الميزان، ووضع خردلة بإزائها، فكانت الخردلة أثقل من خمس وعشرين ذرة.

يقول الله وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النــور:15]، وقال في الكلمة التي قالتها أم المؤمنين يعني: حسبك منها أنها.. وأشارت بيدها يعني قصيرة، قال: لقد قلتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته[3].

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}

وقال: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، يعني: بالرصد، تقول: فلان أنا له بالمرصاد، وهذا يقتضي التعقب، والمحاسبة، والإحاطة، والمؤاخذة، فالله لا يخفى عليه خافية من أعمالنا، يرصدها، وتُكتب، والملك يكتب ونحن نملي عليه ما نقوله من الكلام، وما يصدر منا من الأفعال، لا يتوقف.

بل قال ابن عباس رضى الله عنهما: إن الملك يكتب كل شيء، يكتب قمتُ، وقعدت، وأكلت وشربت، ثم يُمحى بعد ذلك ما لا يكون فيه الحساب، ويبقى ما يحاسب عليه الإنسان.

أسأل الله أن يصلح أقوالنا، وأعمالنا، وأحوالنا، وقلوبنا، وأن يلطف بنا، اللهم اغفر لوالدينا وإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 

مواد ذات صلة