الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «جئت تسأل عن البر؟»
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣٠
التحميل: 1404
مرات الإستماع: 4969

البر ما اطمأنت إليه النفس

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الورع وترك الشبهات" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله ﷺ فقال: جئتَ تسأل عن البر؟ قلت: نعم، فقال: استفتِ قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك[1]، قال النووي -رحمه الله: حديث حسن رواه أحمد، والدارمي في مسنديهما.

وهذا الحديث في سنده رجل مجهول، لكن من أهل العلم من قواه بشاهد آخر.

وابصة بن معبد قدم على النبي ﷺ في السنة التاسعة من الهجرة، ثم انتقل بعد ذلك إلى الجزيرة والشام حتى توفي  ولم يروِ عن النبي ﷺ كثيراً، روى عنه أحد عشر حديثاً، وكان رقيقاً، كثير البكاء، قريب الدمعة من خشية الله .

يقول: أتيت رسول الله ﷺ فقال: جئتَ تسأل عن البر؟، نحن عرفنا المراد بالبر، وأن هذه الكلمة جامعة تتضمن كل ما يحبه الله من الواجبات والمندوبات سواء في ذلك الأمور القولية أو العملية.

وقوله ﷺ: جئتَ تسأل عن البر من أعلام نبوته ﷺ حيث أطلعه الله على ذلك، والنبي ﷺ كما هو معلوم- لا يعلم الغيب، ولكن الله أطلعه على هذا.

يقول: قلت: نعم، فقال: استفتِ قلبك بين له هذا المعنى، استفتِ قلبك ماذا يجد في قلبه؟

قال: البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك.

المقصود بهذا أشرت إليه في شرح الأحاديث السابقة، وذلك حينما يكون الإنسان مجتهداً، ولم يتبين له شيء في المسألة، فبقي في نفسه شيء من التردد، ولم يطمئن، فإنه ينبغي على الإنسان أن يترك ما تردد فيه، فإن هذا مقتضى الورع.

لم يطمئن إلى حِل هذا الشيء مثلاً، جواز هذه المعاملة، أو يكون هذا الإنسان ليس من أهل الاجتهاد، ولكنه سمع الناس يفتون، فأفتاه عالم بفتوى، ولكن لم يذكر لذلك ما يمكن أن يُطمئن إليه من الدليل، والمسألة محل اجتهاد، فبقي في نفس هذا الإنسان من هذه المعاملة شيء من التردد، ولم يرد فيها دليل واضح صريح، فهنا نقول: دع هذا الشيء الذي ترددت فيه، هذا الذي اشتبه عليك، فإن هذا مقتضى الورع، وإن أفتاك الناس وأفتوك.

أما إذا اتضح وجه المسألة، وبُين الدليل الواضح الصريح فيها والصحيح فلا مجال هنا للتورع، وإنما يوقف عند النص، وكذلك أيضاً حينما تتقابل الفتاوى كما هو الآن في هذه الفضائيات التي يخرج فيها من يفتي بحل شيء، وآخر يفتي بحرمته، فيقع تردد عند العامة، ويقول: فلان يفتي بكذا، وفلان يفتي بكذا، ماذا نفعل؟ نقول: تَتَّبِع الأعلم والأورع في نفس الوقت، هذا هو الواجب عليك، إن اتضح لك دليل هذا، ودليل هذا، ورأيت أن الدليل الأقوى مع هذا، وكنت تميز هذه الأمور فعليك باتباع من معه الدليل، فإن لم يتضح هذا أو كان كل واحد يستدل بأدلة فهنا يقال: تُقلد الأعلم والأتقى في نفس الوقت، فإن التبس الأمر عليه، قال: ما أدري، ما أعرف، أو كلهم عندي سواء فالشاطبي -رحمه الله- يقول: ينظر إلى الهوى أين هو، فإن هذه الشريعة قد ركبت على خلاف داعية الهوى في النفوس، الهوى من هنا فيذهب بخلافه.

وهذا الحديث يقول: استفتٍِ قلبك فإذا كانت نفسه مترددة، قلبه غير مطمئن لهذه الفتوى، فإنه يترك هذا الشيء ويستريح، هذا في ماذا؟ في الأمور التي تكون من قبيل المحظورات، وأما مسألة الواجبات، هذا يقول واجب، وهذا يقول مستحب، فإن مقتضى الورع أن يفعل هذا الشيء خشية أن يكون من الواجبات، فيكون قد تركه.

قال: البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، حاك يعني: أي أنه بقي مختلجاً متردداً، وذكرت فيما سبق أن هذا إنما يكون في النفوس المطمئنة بالإيمان، التي لا زالت الفطرة فيها حية، أما الذي لا يبالي بمحارم الله ، ولا يرفع رأساً لهذه الأمور، ويأتي المنكرات والشنائع والعظائم، ولا يبالي ولا يتحرك قلبه، فمثل هذا لا يقال له: البر ما اطمأنت إليه النفس، أو استفت قلبك، فإن هذا صاحب قلب ميت، لا قلب له حتى يرجع إليه، وإنما قلب المؤمن الصادق هو الذي يتلجلج ويتحرك وينقبض من المنكر والمعصية، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 

  1. أخرجه أحمد (29/ 523)، رقم: (17999)، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب والترهيب (2/ 151).

 

مواد ذات صلة