الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الورع وترك الشبهات (1-4)
تاريخ النشر: ٠١ / ربيع الآخر / ١٤٣٠
التحميل: 1635
مرات الإستماع: 4511

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الآثار الواردة عن السلف في باب "الورع وترك الشبهات": ما جاء عن   عبادة بن الصامت أنه مر بقرية دُمَّر، فأمر غلامه أن يقطع له سواكاً من صفصاف على نهر هناك، فمضى ليفعل، ثم قال: ارجع، فإنه إلا يكن بثمن فإنه ييبس، فيعود حطباً بثمن[1].

وجاء أيضاً عن مطرف بن عبد الله العامري قال: "خير دينكم الورع"[2].

وهذا رجل يقال له شعيب يقول: حابيت أبا العالية في ثوب، فأبى أن يشتري مني الثوب[3].

حابيته بمعنى أن هذا الرجل كان يبيع الثياب، فجاء أبو العالية الرياحي -رحمه الله- فأراد أن يشتري ثوباً، فلما عرفه، وأنه الإمام المعروف أراد أن يضع له من الثمن؛ لأنه من أئمة المسلمين، فأبى أن يشتري منه الثوب؛ وذلك أنه يرى أنه إنما يشتري بدراهمه ولا يشتري بدينه.

وهذا جاء عن جماعة من السلف أنه كان يأبى الواحد منهم أن يشتري إذا عرفه البائع، أو قال أحد للبائع: هذا فلان فضع له من الثمن، فكان يأبى ويقول: إنما نشتري بدراهمنا لا نشتري بديننا.

أما علي بن الحسين زين العابدين -رحمه الله- فقد جاء في ترجمته أنه ما أكل بقرابته من رسول الله ﷺ درهماً قط[4].

ولما قال رجل لسعيد بن المسيب: "ما رأيت أورع من فلان، قال: هل رأيت علي بن الحسين؟ قال: لا، قال: ما رأيت أورع منه"[5].

ويقول الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلمون إلا الورع[6].

ويقول مُوَرِّق العجلي: ما رأيت أحداً أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين[7].

وقال عاصم: ذُكر محمد عند أبي قلابة، فقال: اصرفوه كيف شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعاً، وأملككم لنفسه[8].

ووَقف على ابن سيرين دين كثير، وذلك أنه اشترى زيتاً كثيراً فأراقه لكونه وجد في بعض الظروف فأرة[9]. الناس لا يعلمون بهذا، ولكنه حينما رآها ظن أنها قد وقعت في المعصرة فأراقه، وركبه دين حبس بسببه.

ونحن نسمع عن أشياء عجيبة في هذا الوقت، هذا طباخ قد وضع قدراً كبيراً فيه ثلاث من الذبائح، وبجواره قط يعبث، فقفز وسقط في الماء الذي فيه اللحم، فأخرجه بالمغراف الكبير، وكأن شيئاً لم يكن، فلما قيل له: كيف هذا؟ قال: تريدني أن أرمي ثلاث ذبائح؟، طبعاً الناس هؤلاء المساكين الذين دفعوا هذا المال، ويأكلون ويأكل ضيوفهم، ولربما يستلذون بهذا، لو علموا كيف تكون حالهم وشأنهم؟

فهذه قلة الخوف من الله، وقلة الذمة، وقلة الورع، وهكذا الطعام الذي يبقى عند كثير من أصحاب المطاعم، يبقى في الليل ماذا يصنعون به، ما ظنكم يعطيه الفقراء أو يرميه؟ هو يبقيه للغد، وتأتي وتشتري ويعطيك من الذي بالأمس ولربما لم يحفظه بشكل صحيح، ولربما بقي عليه شيء من الحشرات، إلى غير ذلك من الصور التي نسمع بها حيناً بعد حين.

ويقول المدائني: كان سبب حبس محمد بن سيرين أنه أخذ زيتاً بأربعين ألف درهم فوجد في زق منه فأرة، فظن أنها وقعت في المعصرة وصب الزيت كله، وكان يقول: إني ابتليت بذنب أذنبته منذ ثلاثين سنة[10].

وما هذا الذنب الذي أذنبه قبل ثلاثين سنة فوقع في الإفلاس، وحبس بسبب هذا وركبه الدين؟، عيَّر رجلاً بفقره، قال له: أنت مفلس، أو كلمة نحو ذلك، فبعد ثلاثين سنة صارت حاله إلى هذا، كانوا يعرفون، يعرف الواحد منهم من أين يؤتى.

ولم يكن يُعرض عليه -رحمه الله- أعني محمد بن سيرين- أمران في ذمته إلا أخذ بأوثقهما[11]. يعني: ما يبحث عن الأسهل، ما يبحث عن الشيء الذي يوافق رغبته وهواه.

وجاء عن هشام بن حسان، قال: كان محمد بن سيرين يتجِّر، فإذا ارتاب في شيء تركه[12].

ولهذا قال بكر المزني -رحمه الله: من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمد بن سيرين[13].

واشترى مرة صفقة وربح فيها ثمانين ألفاً، فوقع في قلبه شيء فترك تلك الصفقة، يقول هشام بن حسان: ما هو والله بربا، يعني هو شيء يسير، عرض له شبهة يسيرة فتركه.

ويقول محمد بن سعد: سألت عن سبب الديْن الذي ركب محمد بن سيرين حتى حبس، قال: اشترى طعاماً بأربعين ألفاً، فأُخبر عن أصل الطعام بشيء فكرهه فتركه، أو تصدق به، فحبس على المال، حبسته امرأة، وكان الذي حبسه مالك بن المنذر[14].

حتى إن أنس بن مالك لما توفي كان قد أوصى أن يغسله محمد بن سيرين،    ومحمد بن سيرين كان في الحبس، فجاءوا إليه فاعتذر إليهم أنه في الحبس، فذهبوا واستأذنوا له الأمير، فأذن أن يخرج من أجل أن يغسل أنس بن مالك فقالوا: قد أذن الأمير، قال: ولكن الحق ليس للأمير، وإنما لصاحب الديْن، وأبى أن يخرج، فذهبوا إلى صاحب الدين، فأذن له أن يخرج ليغسل   أنس بن مالك .

ويقول هشام بن حسان: ترك محمد بن سيرين أربعين ألفاً في شيء ما يرون به اليوم بأساً[15].

ويقول ميمون بن مهران: قدمت الكوفة، وأنا أريد أن أشتري البَزَّ، فأتيت ابن سيرين بالكوفة فساومته، فجعل إذا باعني صنفاً من أصناف البز قال: هل رضيت؟ فأقول: نعم، فيعيد عليّ ثلاث مرات، ثم يدعو رجلين فيشهدهما، وكان لا يشتري، ولا يبيع بهذه الدراهم الحَجّاجية، فلما رأيت ورعه ما تركت شيئاً من حاجتي أجدها عنده إلا اشتريته، حتى لفائف البز[16].

وهكذا الإنسان إذا كان ورعاً أميناً يتعامل مع الناس بالصدق والأمانة، فإن الناس يقبلون عليه ويربح في تجارته، ليست القضية أني أحصّل صفقة الآن، أو أن أستطيع أن أروج هذه السلعة على فلان في هذه اللحظة، لكن بعد ذلك سيكتشف، ولن يرجع مرة أخرى.

وبعث أحد أمراء اليمن إلى طاوس بن كيسان بسبعمائة دينار أو خمسمائة، وقيل للرسول: إنْ أخذها الشيخ منك فإن الأمير سيحسن إليك ويكسوك، فقدم بها على طاوس، فأراده على أخذها فأبى، فغفل طاوس فرمى بها الرجل في كوة البيت ثم ذهب، والكوة مثل النافذة لكنها غير نافذة، يوضع بها السراج ونحو ذلك، رمى بها في كوة البيت ثم ذهب، وقال لهم: قد أخذها، ثم بلغهم عن طاوس شيء يكرهونه، صدر من طاوس كلام أو نحو ذلك كرهوه أو فتيا، فبعثوا إليه، قالوا: ابعث إلينا بمالنا، رجِّع الأموال التي أعطيناك، فجاءه الرسول فقال: المال الذي بعث به الأمير إليك، قال: ما قبضت شيئاً، فرجع الرسول، وعرفوا أنه صادق، فبعثوا إلى الرجل الأول، فجاء إليه وقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن، قال: هل قبضت منك شيئاً؟ قال: لا، ثم نظر الرجل حيث وضعه، فمد يده فإذا بالصُّرة قد بنى العنكبوت عليها، فذهب بها إليهم[17].

وجاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه كتب إلى أبي بكر بن حزم، يعني: يأمره بأن يدقق القلم ويقارب بين الأسطر، يقول: فإني أكره أن أُخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به[18].

بمعنى أنه ما تكون الأوراق التي يكتب عليها كبيرة من غير حاجة، يوفر الأوراق لبيت مال المسلمين.

وجاء عن ميمون بن مهران قال: ما زلت ألطُف في أمر الأمة أنا وعمر بن عبد العزيز حتى قلت له: ما شأن هذه الطوامير التي تكتب فيها بالقلم الجليل، وهي من بيت المال؟، فكتب في الآفاق بتركه، فكانت كتبه نحو شبر[19]، يعني: أنه لا يضع رقعة كبيرة.

وجاء أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال لامرأته: عندك درهم أشتري عنباً؟ قالت: لا، قال: فعندك فلوس؟ قالت: لا، أنت أمير المؤمنين ولا تقدر على درهم؟ قال: هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم[20].

وجاء عنه أيضاً أنه كانت تُسرج له الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ أطفأها، أسرج عليه سراجه.

يفرق بين ما كان لحاجاته الخاصة، وهو الخليفة، وبين ما كان في مصالح المسلمين، في مصالح المسلمين له شمعة من بيت المسلمين، فإذا فرغ وجاءت حاجاته الخاصة أوقد سراجه الخاص، يشتري له الزيت من ماله.

ويقول الإمام مالك -رحمه الله: أُتي عمر بن عبد العزيز بعنبرة فأمسك على أنفه مخافة أن يجد ريحها.

وجاء أنه سد أنفه وقد أُحضر مسك من الخزائن[21].

باعتبار أن هذا الطيب لبيت المال، للمسلمين، وإنما يُنتفع بريحه، فما أراد أن يتمتع بشيء من ذلك.

واشتهى تفاحاً فأهدى إليه رجل من أهل بيته تفاحاً فقال: ما أطيب ريحه وأحسنه، وقال: يا غلام ارفعه للذي أتى به، وأقرِ مولاك السلام، وقل له: إن هديتك وقعت عندنا بحيث تحب، فقلت: يا أمير المؤمنين -هذا الذي يقول عمرو بن مهاجر- ابن عمك ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن رسول الله ﷺ كان يأكل الهدية، قال: ويحك! إن الهدية كانت له هدية، وهي اليوم لنا رشوة[22].

بمعنى أن هدايا العمال غلول[23].

فالذي يعطي أستاذه في المدرسة أو يعطي مديره في العمل أو نحو ذلك، أو الموظف الذي يأتيه الناس بالهدايا، فإن هذا كله من الغلول، وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].

لا يجوز للإنسان أن يستعمل أجيراً في عمل من الأعمال، ثم بعد ذلك يتلقى الهدايا من الناس، هذا يعطيه كتاباً، وذاك يعطيه طعاماً، وآخر يعطيه جهازاً، ونحو هذا، هذا لا يجوز، حتى لو كان الطالب قد تخرج فليست المسألة هي استمالة القلب فقط، وإنما ليس له أن يجعل عمله سبيلاً إلى مزيد من المكاسب المتنوعة غير ما فرض له من الأجرة.

وقدم سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عامل عليها، فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة واستند إلى المحراب، والمقصورة هذه وضعها بنو أمية منذ عهد معاوية لما همّ الخوارج بقتله، فضربه رجل بالسيف وهو يصلي، فهي عبارة عن بناء مثل الغرفة لها شبابيك، يرى المصلين ولا يستطيع أحد الوصول إليه، يعني يصلي مع الجماعة ولكن عليه هذا البناء، بحيث لا يختلط مع المصلين.

فصلى سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز كان أميراً على المدينة، فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة، واستند على المحراب، واستقبل الناس، يعني: خرج من المقصورة، وصلَ عند المحراب، ووقف ينظر إلى الناس، هذا الخليفة سليمان بن عبد الملك، استقبل الناس بوجهه فنظر إلى صفوان بن سليم، فقال لعمر: من هذا؟ ما رأيت أحسن سمتاً منه! قال: صفوان، يعني هذا صفوان بن سليم، قال: يا غلام كِيس فيه خمسمائة دينار، يعني هات كيسًا فيه خمسمائة دينار، وهذا مبلغ كبير جدًّا، فأتاه به، فقال لخادمه: اذهب بها إلى ذلك القائم، يعني الذي يصلي، فأتى حتى جلس إلى صفوان وهو يصلي ثم سلم، فأقبل عليه فقال: ما حاجتك؟، يعني صفوان يقول لهذا: ماذا تريد؟ قال: يقول أمير المؤمنين: استعن بهذه على زمانك وعيالك، فقال صفوان: لستُ الذي أرسلت إليه، قال: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: اذهب فاستثبتْ، اذهب تأكد، فولى الغلام، وأخذ صفوان نعليه وخرج، فلم يُرَ حتى خرج سليمان من المدينة[24].

وهذا سليمان التيمي -رحمه الله- يقول: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله[25].  

بمعنى أن الإنسان لو أراد، قال: فلان أفتى بجواز المعازف، إذاً نترخص، فلان أفتى بجواز المعاملة الفلانية نأخذ بها، فلان أفتى بجواز شرب النبيذ نأخذ به، فلان أفتى بجواز لبس المرأة القصير، وقال: عورتها من السرة إلى الركبة، فلبّس نساءه وبناته بهذا، وهكذا جمَّع هذه الفتاوى فيجتمع فيه في النهاية الشر كله.

وهذا أمر معلوم، والله المستعان.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سير أعلام النبلاء (2/ 10).
  2. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 212).
  3. سير أعلام النبلاء (4/ 209).
  4. المصدر السابق (4/ 391).
  5. المصدر السابق.
  6. مصنف ابن أبي شيبة (34950)، وسير أعلام النبلاء (4/ 600).
  7. مصنف ابن أبي شيبة (35326)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 266).
  8. سير أعلام النبلاء (4/ 609).
  9. المصدر السابق.
  10. المصدر السابق (4/ 613).
  11. المصدر السابق (4/ 614).
  12. المصدر السابق (4/ 615).
  13. المصدر السابق (4/ 614).
  14. المصدر السابق (4/ 616).
  15. المصدر السابق.
  16. المصدر السابق (4/ 620).
  17. المصدر السابق (5/ 41).
  18. المصدر السابق (5/ 132).
  19. المصدر السابق (5/ 133).
  20. المصدر السابق (5/ 134).
  21. المصدر السابق (5/ 136).
  22. المصدر السابق (5/ 140).
  23. أخرجه أحمد (23601)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (7021).
  24. سير أعلام النبلاء (5/ 368).
  25. المصدر السابق (6/ 198).

مواد ذات صلة