الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث "أنه مر على صبيان.." ، "كانت الأمة من إماء المدينة.."
تاريخ النشر: ٢٣ / ربيع الآخر / ١٤٣٠
التحميل: 1562
مرات الإستماع: 6444

مرَّ على صبيان فسلم عليهم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "التواضع وخفض الجناح للمؤمنين" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أنس : أنه مرَّ على صبيان فسلم عليهم، وقال: "كان النبي ﷺ يفعله"[1]، متفق عليه.

أنس بن مالك كان من صغار الصحابة، ولما قدم النبي ﷺ إلى المدينة مهاجراً جاءت به أمه وقالت: "يا رسول الله، هذا أُنيس يخدمك"[2].

كان له من العُمر عشر سنين، ولهذا جاء في بعض الروايات أن أنسًا قال: "أتى عليّ رسول الله ﷺ وأنا ألعب مع الغلمان، قال: فسلم علينا"[3].

وهنا قال أنس : إنه مر على صبيان فسلم عليهم، يعني: أنس؛ اقتداءً برسول الله ﷺ، وقال: كان النبي ﷺ يفعله.

وهذه الصيغة كان يفعل كذا تدل على التكرار، "كان" إذا جاء بعدها الفعل المضارع فإن ذلك يدل على التكرار والمداومة

"كان" إذا جاء بعدها الفعل المضارع فإن ذلك يدل على التكرار والمداومة

، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- عن إسماعيل ﷺ: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55]، هو يأمرهم حيناً بعد حين، يُكرر ذلك عليهم دائماً كلما جاء وقت صلاة قال لهم: الصلاة، صلوا ونحو ذلك.

قال: كان يفعله، أي: كان من شأنه وعادته وديدنه وهديه ﷺ وسنته أنه يُسلم على الصبيان، ولهذا جاء في رواية أخرى عن أنس في هذا الحديث أنه قال: "كان رسول الله ﷺ يزور الأنصار"، يعني: هذا يتكرر منه، "ويسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم، ويدعو لهم"[4].

ثلاثة أشياء، يزور الأنصار، يُسلم على الصبيان، ويمسح رءوسهم، ويدعو لهم، فمسح رأس الصغير يُشعره بشيء من الحنوّ والأمان، فيطمئن ويستريح.

بل لو أخذت بهيمة كالسِّنَّوْر -القط- لو مسحت عليه أغمض عينيه، وكان في غاية الوداعة والاستسلام والإذعان، لكنك إذا هيجته وزجرته فإنه يقف كل شعر جسده، وتخرج مخالبه، وعيونه يفتحها بأقصى ما يستطيع، هذا في بهيمة، فكيف بالإنسان الذي لديه من المشاعر ما ليس عند البهيمة، ومشاعر الصغير أكثر رقة من مشاعر الكبير؟!.

وقد تكلمت في مناسبات شتى على أهمية العناية بالصغار، والرحمة بهم، ولين الجانب معهم، والتواضع لهم، وترك ما يجرح نفوسهم، وذلك -أيها الأحبة- أن مثل هذه التصرفات والكلمات أو الفعال التي من شأنها أن تجرح تترك ندوباً في نفس الصغير، هذه الندوب إذا تكاثرت فيه وتتابعت أفسدت هذا الصغير، فينخزل، وتتلاشى شخصيته، وتضعف ويشعر بعدم الثقة، وأنه لا يصلح لشيء؛ لأنه يستشعر أن أي تصرف يصدر منه من قول أو فعل أنه سيواجه بالتعنيف، ولربما الشتم، ولربما بالضرب، فيجبن، فلا يتصرف بما يحسن في المقام الذي يحسن أن يتصرف فيه، لا يستطيع أن يقابل الضيوف، لا يستطيع أن يرحب بهم، لا يستطيع أن يتحدث معهم، إذا صار كبيراً لا يستطيع أن ينهض بأمر فيه نفع له أو لغيره؛ لأنه يشعر أنه لا يستطيع، وقد سمعت من كثيرين في شبابهم وبعد ذلك أيضاً يشتكون من أنهم لا يُحسنون شيئاً، أنه مُذبذب، أنه لا يثق بنفسه بشيء.

الليلة الماضية أحد الأشخاص يرسل برسالة طويلة خلاصتها: الكل يحتقرني، ومَن حولي لا يعبرني، تقريباً الساعة الواحدة والنصف ليلاً، يدعو على نفسه بالنار، وأن الله يدخله النار، وأنه لا يصلح إلا للنار، وأنه قد سئم من هذه الحياة، وأنه يريد الخلاص بأقرب طريق.

لاحظوا في هذا الوقت حوالي الساعة الواحدة والنصف، هذا إنسان أرسلها بعدما فاضت نفسه، وجاشت بهذه المشاعر، وأن الجميع يهزأ به، ويحتقره من إخوانه، ووالده ووالدته إلى آخره.

وكم من فتاة تقول مثل هذا الكلام، وما الذي يجعل الفتيات يرتمين في أحضان الذئاب البشرية من الشباب الذي يُعطيها معسول القول الذي فقدته في بيتها من أبيها، ولربما من زوجها، وكم من فتاة تزوجت ثم انحرفت.

وقد أخبرني بعض من أجروا دراسات على أكثر من مائتي فتاة متزوجة تخرج مع شباب، السبب في عامة الحالات هو المعاملة الجافة من قبل الزوج، أما اللاتي لم يتزوجن فحدث ولا حرج، المرأة حينما تتزوج ليس هذا هو نهاية المطاف قد يحصل لها تعثر، قد تنحرف، قد تخرج، قد تكوّن علاقات بعد الزواج، السبب المعاملة القاسية، الإهانات المتكررة، فيسمعها ذلك الذئب الأطلس الكلام الجميل الكلام المعسول، وكم من فتاة سمعتها تجادل عن هذا الذئب الذي أحاول أن أقنعها بأنه ذئب أطلس، تقول: لا، هو طيب جدًّا وخلوق، هذه التي تسأل، دعك من التي لا تسأل، هو طيب جدًّا وخلوق، وتحلف أيماناً أنه طيب جدًّا، طيب جدًّا ويحادثكِ ويخرج معكِ وأنت لا تحلين له؟، لست من محارمه، كيف يكون طيبًا جداً؟!.

السبب -أيها الأحبة- المعاملة القاسية، الآن السكين أو السيف إذا ضربت به شيئًا دائماً حديدةً أو نحو ذلك ما الذي يحصل له؟

يحصل له ندوب، فهل يقطع بعد ذلك؟، أو أنه يحتاج إلى أن يُرمى في أقرب مزبلة -أعزكم الله-، أليس كذلك؟ النفس أشد تأثراً من هذه الحديدة التي هي بغاية الصلابة، فإذا كانت تتأثر فلا تقطع، فكذلك نفس الإنسان إذا كان قد تعود على هذا جرح المشاعر والإهانات والتبكيت، وكلما عمل شيئًا خُطِّئ، ما تصلح لشيء، ما تنفع بشيء.

جاء يفتح مشروعًا ولو بسيطًا، ولو كان طالبًا في الثانوية، أنت تصلح لشيء، أنت عمرك ما فلحت بشيء؟، هذا وجه تجارة، هذا وجه بيع؟، هذا الكلام الذي يُحطم النفوس، أحياناً إذا اجترأ أن يدعو أصدقاءه في البيت، هذه فرصة جيدة أن تتعرف تجلس معهم عشر دقائق وتتركهم، من هم أصحاب هذا الولد؟ يجلس مع من؟ تشجعهم تُشجع هذا الكرم، يدعو زملاءه.

كثير من الأولاد لا يتجرأ أن يتكلم بهذا، وأن يفاتحك بهذا؛ لأنه سيُقابَل بتعنيف، كلمات قاسية، فالكثير لا يتجرأ الواحد منهم على أن يقترح مثل هذا الاقتراح، أو يتقدم به لأبيه، وهذا خطأ.

أنا لا أستطيع أن أذكر نماذج مفصلة لئلا يكون ذلك كشفاً لأوراق، لكن أحد الأشخاص كلمه إنسان ما بكلام طيب في مناسبة من المناسبات كلمتين طيبتين فبكى، شاب تجاوز العشرين بكى، لماذا تبكي؟

قال: أول مرة أحد يعطيني وجهًا، أنا لما سمعت هذه الكلمة شعرت بألم، أنا كدت أبكي يوم سمعت هذه الكلمة، إلى هذا الحد!، بكى بمجرد كلمات طيبة قيلت له، قال: أول مرة أحد يعطيني وجهًا، فوق العشرين يقول مثل هذا الكلام.

وكم من امرأة عقد عليها زوجها، ثم طلبت الفسخ، والسبب، قالت: الثقة بالنفس معدومة، بعض النساء تقول: أبوه الذي يتصرف في كل شيء، بل بعد الزواج أبوه يلطمه على وجهه أمام زوجته وبناته، ضرْب الولد لا يُصلح شيئًا، لا يُحسن شيئًا.

هذه المعاملة، النبي ﷺ كان إذا مر يُسلم على الصبيان، الصبيان لهم قيمة، الصبيان هؤلاء هم الذين سيكونون رجالا، غمض عينك وفتح ستجد أن هذا الذي كنت تراه صغيرًا يوم تزور أهله أو تراه في الحي، أو نحو ذلك، تراه وله لحية وما شاء الله، بسرعة الأيام تمضي.

قبل فترة وجيزة كنا نراك وأنت صغير تأتي مع أبيك أو نحو هذا، والآن ما شاء الله قد تخرجت من الجامعة.

فأقول: هذا الصغير يكون كبيراً فيما بعد، فلابد أن يُصقل، يُربى تربية صحيحة، ويُربى على الثقة بنفسه حتى يكون رجلاً يتحمل الأعباء والمسئوليات.

النبي ﷺ كان يُسلم، يمسح رءوسهم، وهذا يؤثر في الكبير رقة ورحمة لاسيما اليتيم، ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الآخر: إن أردت أن يلين قلبك، فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم[5].

بهذا يرق القلب ويدرك الإنسان حاجته، رحمة اليتيم؛ لأن هذا اليتيم منكسر القلب، فما يحتاج إلى زيادة على ذلك بالتعنيف ونحو هذا، ولهذا قال الله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى [الضحى:6]، يعني: فآواك، ثم قال له: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ  [الضحى:9]، كما أن الله آواك حين اليُتم، فاليتيم لا تقهره، ذُقت اليتم فلا تقهر اليتيم.

كانت الأمة لتأخذ بيد النبي

حديث أنس قال: "إنْ كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي ﷺ فتنطلق به حيث شاءت"[1]، رواه البخاري.

"إنْ كانت الأمة"، الأمة يعني الجارية،  سلامه على الصبيان والأمة تأتي، الأمة لا شأن لها، يعني: ما هو إنسان كبير وشريف، أمة، تأخذ بيد النبي ﷺ فتنطلق به حيث شاءت، تذهب به حيث شاءت، ويمشي مع الأمة.

هذا في غاية التواضع، وكثير من الناس لا يستجيب الدعوة، ويستنكف لأن الذي جاء إليه بالدعوة لربما ليس هو الداعي، وإنما بعث بها آخرَ، قال له: نريد أن تتفضل عندنا، تحضر هذه المناسبة ونحو ذلك فيعظم ذلك في نفسه ويأبى؛ لأنه يريد من هذا الداعي أن يأتي إليه مباشرة، وقد لا يكفي الاتصال، لابد من المجيء، ما الحاجة لمثل هذا؟.

الأمة تأخذ بيد النبي ﷺ وتذهب به حيث شاءت وليست حرة، فالتواضع قد يصعب على كثير من النفوس لما جُبل عليه الكثيرون من الأنفة والترفع وحب العلو في الأرض، فهذا رسول الله ﷺ هو الأرفع والأعظم والأجل قدراً وشأناً، هذا هديه ﷺ.

وكون النبي ﷺ يأتي على الصبيان ويُسلم عليهم هذا فيه تعليم لهم، وفيه أيضاً تحقيق عبودية وسنة من جهة أخرى، فلا يُعارض ذلك أن الصغير يُسلّم على الكبير، فذلك أنه إذا مر قوم بقوم فالصغار يُسلمون على الكبار، فالواحد يُسلم على الجماعة، والماشي يُسلم على الجالس، والراكب يُسلم على الماشي، والصغير يُسلم على الكبير، لكن إذا كان الصغير جالساً أو واقفاً في مكان، ومر به الكبير فمن الذي يُسلم؟ الكبير، فكثير من الناس قد لا تطاوعه نفسه أن يسلم على الصغار؛ لأنه لا يراهم شيئاً، بل قد لا تطاوعه نفسه أن يسلم على الكبار، وبعض الناس يتردد في يده هل يرفعها، أو ما يرفعها؟ وأحياناً نصف رفعة ما تدري هو رفعها أو لا، يجاهدها مجاهدة حتى ترتفع، يقول لمن لا يعرف ومر به في الطريق: السلام عليكم، يحتاج الإنسان أن يعود نفسه، هذا المسكين عامل النظافة، والإنسان الفقير، والعمال بشر مثلنا لا فرق بيننا وبينهم، قد يكونون أتقى لله ، ما المانع أن الإنسان يسلم عليه؟.

وقد ذكر بعض أهل العلم لطيفة أو دقيقة في هذا المعنى، قالوا: من الناس قد يسلم على الضعفة إظهاراً لتواضعه، ولكنه مع أقرانه، أو نحوهم تقف نفسه، وتثب وثوب الأسد على الفريسة، هذا ينبغي أن يُتنبه له، يعني: هو نوع قد يكون أحياناً من الرياء الخفي، هذا الإنسان الذي فيه كبرياء وصلف مع من هم في مرتبته أو منهم أعلم منه أحياناً، إذا جاء عند الضعفة أو الصغار يمازحهم أو يُلاطفهم، ويظهر أنواع التواضع والتذلل، نقول: ما شاء الله، هذا الإنسان في غاية اللطف والرقة، أين الرقة والتواضع مع من هم مثله، أو من هم أكبر منه؟ لا، يريد أن تخضع له الرقاب، وأن يأتي هؤلاء إليه خاضعين ذليلين مستكينين حتى يظهر فضله ومنزلته ومرتبته التي يجب أن يعرفوها، وأن يسلموا بها، وهذا موجود، وما أكثر هذا الصنف لا كثرهم الله.

فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم التواضع الذي يُبتغى به وجهه ، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.  

 
  1. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الكبر (8/ 20)، رقم: (6072).

مواد ذات صلة