الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إنا لم نرده عليك إلا لأنا حرم»
تاريخ النشر: ٠٥ / جمادى الآخرة / ١٤٣٠
التحميل: 1554
مرات الإستماع: 6834

إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُم

  الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "حسن الخلق" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث الصَّعب بن جَثّامة قال: أهديتُ رسول الله ﷺ حماراً وحشيًّا، فرده عليّ، فلما رأى ما في وجهي قال: إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُم[1]، متفق عليه.

الحمار الوحشي -كما هو معلوم- من الصيد، يحل أكله، وهذه الحمر كانت موجودة في جزيرة العرب في ذلك الحين، وإلى وقت ليس بالبعيد يبدو قبل فتح قناة السويس، لما فتحت قناة السويس انقطع ذلك؛ لأن هذه الحيوانات كانت تأتي من أفريقيا إلى جزيرة العرب عبر هذا المعبر، فلما صارت قناة مائية أقفرت جزيرة العرب من الصيود، وكانت كثيرة فيها، فالنبي ﷺ كان في طريقه إلى مكة وقد أحرم، فجاءه الصعب بن جثامة بهذا الحمار الوحشي الذي قد اصطاده، يعني جاء به وأهداه للنبي ﷺ، فرده النبي ﷺ عليه؛ وذلك أن المحرم لا يحل له الصيد، ولا يحل له أن يأكل صيداً صيد من أجله، وأما الصيد الذي لم يصد من أجله فالراجح أن ذلك يجوز له أكله، فتكون المسألة فيها هذا التفصيل، وذلك أن النبي ﷺ في الحديث الآخر سأل: هل منكم من أشار إليه؟، أو أعانه بشيء؟، أو كما قال النبي ﷺ، فلما قالوا: لا، قال: كلوا[2]، في حديث أبي قتادة، فيكون إذًا بهذا التفصيل: ما صيد للمحرم لا يحل له أكله، ولو كان الذي صاده غير محرم، وما صاده المحرم لا يحل له أكله ولا يحل له الصيد أصلاً، فهذا صاده للنبي ﷺ، وأهداه له، فرده النبي ﷺ عليه، يقول: "فلما رأى ما في وجهي" يعني من التغير والكراهة حيث رد النبي ﷺ هديته، وهذا أمر في غاية المشقة والصعوبة على النفس إذا كان الرد من آحاد الناس، يعني من أي واحد، فكيف بالنبي ﷺ إذا رد على رجل هديته؟ فإن ذلك قد يكون لأمر كرهه النبي ﷺ منه، أو نحو ذلك، فلما رأى النبي ﷺ ذلك قال: إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُم، بيّن له العلة من رده، وهذا هو الشاهد في موضوع حسن الخلق، وهو أن الإنسان حينما يصدر منه تصرف إزاء الآخرين لموجب شرعي مثلاً، أو لموجب عادي -يعني في أمور العادات- فإنه يُبيّن سبب ذلك ومنشأه؛ لئلا يغتم الآخرون، أو يسيئون الظن، أو أنهم يتساءلون ويتحيرون أو نحو هذا، أو يظنون أنه يقصد الإساءة نحوهم، وهذا يحصل كثيراً.

كثير من الموظفين يسألون عن الهدايا التي تعطى لهم، المعلم الذي يعطيه الطالب هدية في أول العام، أو وسطه، أو في آخره، المدير الذي يعطيه المعلم هدية، الطبيب الذي يعطيه المريض هدية، الصيدلي الذي تعطيه شركة الأدوية هدايا، هل يحل له أخذها؟ السؤال الذي يرد كثيراً بالذات من المعلمين، طالب أعطاني هدية هل أردها عليه، ماذا أصنع؟ فيه إحراج، الموقف صعب، الموقف سيكسر قلبه ونحو ذلك، يقال: بيّن الموقف، تُبيّن له سبب عدم القبول، تشكره على هذا وعلى مشاعره الجميلة، وعلى قصده الإحسان، وتُبيّن له أن هذا لا يحل لك، أنه لا يجوز لك أخذه، وأن تقبل هديته، واعتبرها وصلت ومقبولة، وهي عزيزة على النفس، ولكن أنا لا يحل لي أن آخذها فقط، ولهذا لا أستطيع الآن، على الأقل يدرك السبب، لكن لو جاء إنسان ويحب معلمه أو يحب مديره أو نحو ذلك وجاء له بالهدية، وقال له ذلك: احملها معك، يعني سيكون عكس المقصود، مقصوده التلطف والإحسان ثم يقابله بهذا التصرف سيكون له ألف سؤال، لماذا رده؟ لماذا لم يقبل هديتي؟ هل له موقف مني؟ هل هو يحتقرني؟. 

فتكريم الإنسان إذا أردت أن تكرمه فإنك تقبل هديته، يكون هناك شعور متبادل، إذا أنت لم تقابل ذلك بهدية أحسن منها أو مثلها، لكن كون الإنسان يأتي ويرد هكذا من غير سبب والناس لا يعرفون ذلك ولا يدركونه سيجرح ذلك مشاعرهم، فالنبي ﷺ بيّن له قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم، ولذلك لاحظ أن الصعب بن جثامة نفسه يحدث بالحديث، اتضحت له القضية، فصار يروي ذلك للناس ويذكره، وعنه رُوي هذا الحديث، لكن لو أن النبي ﷺ سكت وما قال له شيئًا سيذهب وفي رأسه أسألة، لماذا رُدت هديته؟.

فمن الأدب اللائق أن الإنسان يراعي مشاعر الآخرين في مناسباتهم، وهكذا أيضاً قد لا يقدم هدية، بعض الناس قد يقول: أنا محرج، المديرة ولدت، هؤلاء معلمات يردن إعطاءها هدية، في إحراج، كيف ما نعطيها هدية؟، نقول: لو ما كانت مديرة، لو كانت في البيت ما صارت مديرة قط تعطونها؟ يقولون: لا، طيب إذاً ما تُعطَى الآن، لكن في إحراج هي ولدت الآن ولابد أن نعطيها، يقال: هدايا العمال غُلول[3]، بعض الناس يقول: هذه على أساس أنها رشوة؟، أنا سأتخرج من المدرسة الآن، خلاص سأعطيه بعد نهاية الاختبار، نقول: ليست المسألة فقط من هذا الجانب، وإنما الجانب الآخر فيها وهو أن هدايا العمال غلول، لا يجوز للإنسان الذي يأخذ أجرة على عمل من الأعمال التي أنيطت به أن يجعل ذلك العمل وسيلة وسبباً لمكاسب مادية، أو حتى مكاسب أخرى خدمات، يعني مادية: يُعطَى هدايا، يعطى سيارة، تفضل هذه السيارة ما هي لك، هذه السيارة للولد يوم نجح من ثالث متوسط، هذه السيارة شبح بثلاثمائة ألف، بأربعمائة ألف، تراها ما هي لك هذه للولد، الولد ناجح من ثالث متوسط، هي رشوة لها قرنان.

لكن أحياناً يكون هذا الإنسان قد تخرج، طالب قد تخرج، ويقول: ما في رشوة الآن، نقول: ليست القضية فقط رشوة هناك جانب آخر وهو أن هدايا العمال غُلول، هو يأخذ مقابلا.

أما إذا كان متبرعاً فلا إشكال، إنسان يعلم القرآن أو يعلم في مدرسة تحفيظ متبرع ما يأخذ مقابلا يجوز له أن يأخذ الهدية، لا بأس بهذا، إنسان طبيب في عيادته هو الخاصة به التي يملكها يجوز له أن يأخذ، إنسان مصرٌّ يريد أن يقدم هدايا، أو الناس الأطباء الذين يسألون أحياناً، نقول لهم: خلاص اجعلوا لذلك سبيلاً عن طريق إدارة المستشفى، أي أحد يقدم لكم توجهونه لإدارة المستشفى، يقدم هذا على أساس ما تفسد الذمم، وإلا فالمشاهد أنه حتى عامل النظافة الذي يعمل في المكتب أو في المكاتب إذا تعود على هذه الطريقة أنه يُعطَى ما يمسح إلا مكاتب الناس الذين يعطونه فقط، والبقية لا يمر على مكاتبهم إلا كل أسبوع أو ثمانية أيام أو عشرة أيام، أما الذي يعطيه كل يوم فهو واقف أمام مكتبه، وإذا جاء يدخل سلم عليه، وإذا جاء يخرج سلم عليه، وقد أشخص بصره ينظر إليه؛ لأنه يعطيه، فهذا أفسده بهذه الطريقة على الآخرين.

فهذه قضية يكثر السؤال عنها ويُحتاج إليها، ويُبيّن الإنسان: نحن ما قدمنا لك هدية بهذه المناسبة عمداً؛ لأنه لا يحل فقط، وإلا منزلتك محفوظة، ونحن نقدرك ونحترمك، ونشاركك مشاعر الفرح إلى آخره، لكن لا يحل لنا أن نعطيك هذه الهدية، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد،وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًّا لم يقبل، برقم (1825)، وبرقم (2573)، في كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول هدية الصيد، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم، برقم (1193).
  2. أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب لا يُعين المحرمُ الحلالَ في قتل الصيد، برقم (1823)، ومسلم، كتاب الحج، باب تحريم الصيد للمحرم، برقم (1196).
  3. أخرجه أحمد في المسند، برقم (23601)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7021).

مواد ذات صلة