الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة..» ، «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا..»
تاريخ النشر: ١٢ / جمادى الآخرة / ١٤٣٠
التحميل: 3905
مرات الإستماع: 94634

أنا زعيم ببيت في ربَض الجنة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "حسن الخلق" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله ﷺ: أنا زعيم ببيت في ربَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه[1]، قال: حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح.

قوله ﷺ: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، أنا زعيم بمعنى أنا ضمين وكفيل ببيت في ربض الجنة، كما قال الله -تبارك وتعالى- في قصة يوسف ﷺ: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، أي ضامن وكفيل، أنا زعيم ببيت في ربض الجنة ربض الجنة أدناها، ويقال في كلام العرب لما يكون من القصور والبنيان حول القلاع وما إلى ذلك.

لمن ترك المراء وإن كان محقًّا المراء هو الجدال الذي لا جدوى منه، يقال له: مراء، فإذا كان الجدال لا يوصل إلى نتيجة إما لأن المجادل يريد ممن يقابله أن يأخذ برأيه على أي وجه كان دون أن ينتفع هو بالجدال، ولا حاجة له في سماع ما يقال، إنما هو حينما يسمع يفكر بماذا سيرد، وبماذا سيعترض، أو لكون هذا الإنسان يريد إبطال الحق بهذا الجدال، أو لكونه إنما يجادل للمجادلة؛ لأن من الناس من يولع بالمجادلة في كل شيء، كأنه خلق لذلك، لو قلت له مثلاً: هذا الحامل للمصحف جيد وسهل ونحو ذلك، لربما يأتيك بأشياء ويجلس يجادل حتى في هذه القضية، تقول له مثلاً: هذا السجاد كذا أو نحو ذلك، يجادل في أن غيره أولى منه أو فيه كذا، وفيه كذا، وفي كل قضية لابد أن يجادل فيها، هو يحب الجدال، لا للانتفاع والاستفادة، وإنما هي رغبة في النفس وهوى، فهو بذلك يلبي هذه الحاجات في نفسه، فمثل هذا لا تحسن مجادلته، فهذه أحوال لا يحسن فيها الجدال، فيترك الإنسان الجدل إذا كان هذا الجدل لا يوصل إلى نتائج، ولا يُرجَى منه نفع، فيقول: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا وإن كان الحق معه.

قال: وببيت في وسط الجنة هذا أعلى منزلة من الذي قبله، فوسط الجنة لا شك أنه أعلى وأعظم من ربضها، لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، فالكذب حرام في الجد وفي غيره، ولا يوجد شيء من الكذب حلال في حال المزاح، ولا في غير المزاح إلا ما ورد استثناؤه، حالات محددة، كذبُ الرجل على امرأته فيما من شأنه أن يصلح ويجمع بين القلوب، لا في كل شيء، وهكذا كذب الرجل في الإصلاح بين الناس، فهذا مما يباح، إلى غير ذلك مما ورد استثناؤه.

فهنا لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، الكذب في حال المزاح ليس من الحالات المستثناة، وهو لا يجوز، وإن كان ذلك أقل جرماً وخطراً من الكذب في الجد، ولكن الكذب لا يصلح لأهل الإيمان، فهو خلاف الحقيقة، وإنما ذلك من شعب النفاق.

والناس يتساهلون في ذلك كثيراً، ولعل ذلك هو السبب -والله تعالى أعلم- في أن النبي ﷺ خصه بذلك، لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، فيكون صادقاً بكل أحواله، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، فهذا أمر عام لأهل الإيمان، ولا يوجد هناك أوقات أو أحوال يجوز الكذب فيها في المزاح والجد غير ما ذُكر، كالذين يكذبون مثلاً كذبة إبريل، أو نحو هذا.

قال: وببيت في أعلى الجنة وهذا أعلى المراتب الثلاث لمن حسُن خلقه.

إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً
حديث جابر : أن رسول الله ﷺ قال: إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون[1].

وهذا يمكن أن يحمل -والله تعالى أعلم- على أن أقربهم منه مجلساً يوم القيامة يعني في الجنة، فيؤخذ منه أن الأخلاق الحسنة ترفع أصحابها حتى تقرب مرتبتهم من مرتبته ﷺ.

قال: وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

المتكبرون وبعضهم يبين وجه هذا، هذه القضايا فيما يظهر أنها تتعلق بالكلام، فبعضهم وجّه تفسير النبي ﷺ للمتفهيقين بأن ذلك مما يتصل بالكلام فهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه، ويُغرِب به تكبراً وارتفاعاً، وإظهاراً لفضيلته على غيره، فهؤلاء من المتشدقين، ولذلك قالوا في المتشدق -كما فسره المصنف: إنه الذي يترفع على الناس بكلامه، وهو كلام قريب مما فُسر به المتفيهق، قال: ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، هذا هو المتشدق، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هؤلاء جميعاً يترفعون بكلامهم، فالمتشدق كأنه يُظهر الكلام من شدقيه.

والمتفيهق هو الذي يتكلف الكلام على وجه يتفيهق فيه، فيملأ فمه بالكلام تفاصحاً وتعاظماً.

الثرثار فهو كثير الكلام، الذي يتكلم كثيراً حيث يحسن الكلام ويجمل، وحيث لا يحسن، كثير الكلام، ومن كثر كلامه كثر زللـه وغلطه، وسقطت هيبته، وذهبت مروءته، وهان على الناس، ولم يعد لكلامه وقع في نفوسهم، فإذا عرف الناس عنه ذلك صاروا يتحدثون في المجالس وهو يتكلم، وهو يخاطبهم، والناس لا يحبون من كانت هذه عادته، إذا حضر في المجلس أخذ زمام الحديث، وغالباً يكون ذلك لخفة العقل، أو للرغبة في التصدر وإظهار النفس، وما إلى ذلك من المعاني، وهو يرجع أيضاً إلى خفة العقل.

ثم قال أخيراً في هذا الباب:

وروى الترمذي عن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- في تفسير حسن الخلق قال: "هو طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى"[2].

طلاقة الوجه، وبذل المعروف، بذل المعروف: بذل الندى، والإحسان إلى الناس بجاهه وماله ونفسه وعلمه، وخبرته، وما إلى ذلك من الأمور، وكف الأذى عن الناس، فالذي يؤذيهم لا يكون من أصحاب الأخلاق الحسنة، وعرفه بعضهم بتعريفات أخرى -أعني حسن الخلق، وقد ذكرت شيئاً من هذا في أول الكلام على هذا الباب، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: "التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل"[3]، هذا هو حسن الخلق.

أسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن الأخلاق، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في معالي الأخلاق، برقم (2018)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2201).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حسن الخلق، برقم (2005).
  3. انظر: فتح الباري (1/ 61).

مواد ذات صلة