الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «يا عائشة أشد الناس عذابًا..»
تاريخ النشر: ٠٧ / شوّال / ١٤٣٠
التحميل: 1637
مرات الإستماع: 16261

أشد الناس عذاباً عند الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع" أورد المنصف -رحمه الله-:

حديث عائشة -رضى الله عنها- قالت: "قدم رسول الله ﷺ من سفر، وقد سترتُ سَهوةً لي بقِرام فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله ﷺ هتكه وتلون وجهه، وقال: يا عائشة، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله[1]، متفق عليه.

أرادت أن تزين بيتها لمقدم رسول الله ﷺ وتتهيأ للقائه إذا قدم من سفره، فوضعت هذا الستار، "وقد سترتُ سَهوةً لي بقِرام"، السَّهوة فسرها المصنف -رحمه الله- بأنها كالصُّفَّة تكون بين يدي البيت.

وبعضهم يقول: هي مثل الخزانة مستودع صغير، وقد يكون بعضه مطمئناً -يعني منخفضاً- وبعضه ظاهراً، وبعضهم يقول: هو الرف، وبعضهم يقول: مثل الكُوّة مثل الرف في الجدار، وبعضهم يقول غير هذا.

"فسترته بقِرام"، يعني: بستر رقيق، قالت: "بقِرام فيه تماثيل"، تماثيل هنا بمعنى تصاوير، وهذه التماثيل كما هو معلوم ليست بمجسمات؛ لأن هذه إنما هي رسومات على هذا الستار، فدل ذلك على أنالتصاوير المحرمة لا يشترط فيها أن تكون مجسمة كما يتوهمه بعض الناس، ولهذا لما جاء أبو هريرة ووجد رسامًا يرسم على جدار أو على بيت أو على قصر صورًا لذوات أرواح فذكر الحديث القدسي: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة[2]، وكذلك الرجل الذي كان رساماً فجاء وسأل ابن عباس -ا- وأخبره أن هذه هي صنعته التي يتكسب منها، فقال له ابن عباس -ا: لا أحدثك إلا بما سمعت من رسول الله ﷺ وقال له: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال: أحيوا ما خلقتم[3]، فربا الرجلُ ربوة، انتفخ، ما أعجبه الجواب، فقال له ابن عباس: ويحك، إن كان ولابد فعليك بهذا الشجر والحجر"، يعني مما لا روح فيه.

فالمقصود أن التصاوير المحرمة تشمل هذا وهذا، تشمل الرسومات، وتشمل أيضاً التماثيل المجسمة، والعلة المذكورة في هذا الحديث أنه قال: يا عائشة، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، يعني: يحاكي خلق الله -تبارك وتعالى، هذه هي العلة، فهذه موجودة في المجسمات، وموجودة أيضاً في الرسومات، ويبقى النظر في هذه الآلات الحديثة التصاوير الفوتوغرافية، والتصاوير بالفيديو هل هذه فيها مضاهاة أو ليس فيها مضاهاة؟.

فأقول: من الناس من يقول: ليس فيها مضاهاة، ولو سُلّم ذلك جدلاً فإن العلة الأخرى تبقى في تحريم التصاوير، وهي أنها ذريعة من ذرائع الإشراك، وكان أول شرك وقع في الأرض هو شرك قوم نوح فكان ذلك بالصور، وكانت مقاصدهم نبيلة في زعمهم، وهو أن يتذكروا أولئك العُباد إذا نظروا إلى صورهم فيكون ذلك تنشيطاً لهم في العبادة، فعبدوهم بعد تطاول الزمان، وتجدد القرون، ثم بعد ذلك قالوا لنوح لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، وأخبره الله أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]، وقال نوح ﷺ: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:27]، إلى هذا الحد في الإصرار على الكفر بالله ، وكان مبدأ ذلك بالصور. 

فهذه العلة علة التعلق بالصور موجودة في التصاوير الحديثة بصورة أعظم؛ لأن التعلق إنما يشتد إذا كانت الصورة أكثر محاكاة للواقع، ولا شك أن هذه الصور الحديثة اليوم أن التعلق بها وانجذاب النفوس إليها أشد من الانجذاب إلى نحت أو إلى مجسم لا يُحاكي الواقع محاكاة تامة، ومن ثَمّ يقال: لو سُلم جدلاً بأن التصاوير بالآلات الحديثة ليس فيها مضاهاة فتبقى هذه العلة الكبرى وهي أنها مظنة لأن تعبد من دون الله ، فحرمها الشارع كما حرم البناء على القبور، وحرم الصلاة إلى القبور، وحرم كل ما يوصل إلى الشرك من باب سد الذريعة، وقد عمت البلوى للأسف بهذه التصاوير، وأصبح ذلك مما يواقعه الصغير والكبير -والله المستعان، الشاهد أنها تقول: "فلما رآه رسول الله ﷺ هتكه"، هتكه بمعنى مزقه أو أنه نزعه نزعاً شديداً، هتكه حتى قطع ذلك منه، يعني: قطع الصورة فيه، وتلون وجهه وهذا هو الشاهد أنه غضب عند رؤية المنكر، وهذا هو وجه المناسبة مع الباب باب "الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع"، وتلون وجهه وقال: يا عائشة، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، متفق عليه.

أشد الناس عذاباً يوم القيامة، جاء في أحاديث أخرى أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من فعل ...، في غير هذا الفعل المعين، ووجه الجمع بين هذه الأمور المذكورة في الأحاديث الأخرى أن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، وإنما تمنع أن يزيد على هذا المذكور أحد في العذاب، فإذا قال: أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصور مثلاً، وفي حديث آخر ذكر فعلاً آخر، وهكذا فيكون هؤلاء قد بلغوا الغاية في شدة العذاب، يعني: أشد الناس عذاباً يوم القيامةرجل قتله نبي أو قتل نبيًّا[4]، يكون هؤلاء قد بلغوا الغاية في شدة العذاب، وبعض أهل العلم يقول: إن أشد الناس عذاباً بالنسبة للمضاهين أو المصورين هم الذين يضاهون بخلق الله، وأشد الناس عذاباً يوم القيامة في باب القتل من قتله نبي أو قتل نبيًّا، وهكذا فكل واحد يختص ببابه، وقيل غير هذا، ولكن ما ذكرته أقرب، والله تعالى أعلم.

وهذا الحديث أيضاً يؤخذ منه إنكار المنكر باليد فيما يملك الإنسان فيه الإنكار مما يكون تحت يده أو يقدر على إنكاره باليد دون أن يترتب على ذلك مفسدة أعظم، فالرجل سلطان في بيته فيستطيع أن يغير بيده، بل يجب عليه أن يغير بيده، وهكذا من يُقبَل ذلك منه يعني الرجل الذي له وجاهة أو رجل عالم  أو نحو ذلك، ويقبل الناس منه لو غير بيده، وإن لم يكن له سلطان على هؤلاء الناس فلا بأس أن يغير بيده لعموم قول النبي ﷺ: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده[5]، أما آحاد الناس ومن يترتب على فعله ذلك مفسدة أكبر فليس له أن يغير بيده، وهذه المسألة ليس فيها قاعدة مطردة كما يقول بعضهم: إن التغيير باليد خاص بذي سلطان، هذا لا دليل عليه، وإنما فيه التفصيل الذي ذكرته آنفاً، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب ما وُطئ من التصاوير، برقم (5954)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، برقم (2107).
  2. أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، برقم (2111).
  3. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، برقم (2105)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، برقم (2107).
  4. أخرجه أحمد في المسند، برقم (3868)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (488).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، برقم (49).

مواد ذات صلة