الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ..} إلى حديث «فيما استطعتم»
تاريخ النشر: ٠٣ / ذو القعدة / ١٤٣٠
التحميل: 1367
مرات الإستماع: 2269

مقدمة باب وجوب طاعة ولاة الأمور

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية، وتحريم طاعتهم في المعصية"، وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية: ولاة الأمر يصدق على من كانت له ولاية عامة كالخليفة وما إلى ذلك، ومن كانت له ولاية دون ذلك، ويدخل في هؤلاء من كان من أمراء السرايا كما يدخل فيه من كان أميراً على إقليم من الأقاليم، وهكذا.

وقوله: "في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية" مفهومه -يعني مفهوم المخالفة- يدخل في غير المعصية يدخل فيه إذا أمروا بواجب أو أمروا بمندوب يعني بمستحب أو أمروا بمباح، أن ذلك يجب طاعتهم فيه، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، ولم يفرقوا بين العدل وغيره من الولاة، وذهب شيخ الإسلام كما في الاختيارات إلى التفريق بين العدل وغير العدل، فهو يرى أن العدل يطاع في غير المعصية، فيدخل فيه ما ذكرته آنفاً، وأما غير العدل فيرى أنه يطاع فيما يعلم أنه طاعة يعني يجب طاعته فيما يعلم أنه طاعة فقط، وهذا التفصيل وهذا التفريق لا أعلم له دليلاً، النصوص ظاهرها العموم من غير تفريق، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...}

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] أطيعوا الله وأطيعوا الرسول بعدما كان الناس في الجاهلية لا تنتظمهم إمارة ولا ولاية ولا ملك، وإنما كانت أمورهم فوضى، يتناحرون ويتقاتلون، وفيهم ما فيهم من الأنفة، فلا ينقادون لأحد، فكانت أحوالهم مبعثرة، أحوال الجاهلية، فجاء الإسلام وتغيرت حياتهم، فصار مرجع الجميع هو رسول الله ﷺ، ثم بعد ذلك انتظم أمرهم فكانت الخلافة من بعده لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان ثم لعلي ، وألف الناس ذلك واعتادوه وانتظمت أمورهم، وعم الخير والأمن، وتحقق ما ذكره النبي ﷺ أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضرموت لا تخاف إلا الله.

فالله يخاطب أهل الإيمان بذلك، فهم المتهيئون للقبول عن الله -تبارك وتعالى- بخلاف غيرهم من أهل الجاهلية؛ ولهذا يقول النبي ﷺ: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[1]، يعني على طريقة أهل الجاهلية حيث لم يكن ذلك فيهم.

وقوله هنا في هذا الآية: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، كرر الفعل في طاعة الله وفي طاعة رسوله ﷺ؛ لأن رسول الله ﷺ تجب طاعته استقلالاً، يجب أن يطاع، وأما غيره كولاة الأمر فإن طاعتهم تبعٌ لطاعة الله ورسوله ﷺ، ولهذا ما قال: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم، فطاعتهم تابعة فما كرر الفعل، وإنما قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وذلك لهذا المعنى الذي أشرت إليه، والله تعالى أعلم.

وَأُولِي الْأَمْرِ هنا في هذه الآية من أهل العلم من يقول: هم العلماء، ومنهم من يقول: هم الأمراء، والأقرب -والله تعالى أعلم- كما ذكره جماعة من المحققين أن ذلك يشمل هذا وهذا، كما يقوله ابن جرير وغيره بأن كل هؤلاء الذين لهم رئاسة ونوع تأمُّر أو ولاية والناس يرجعون إليهم وينقادون لهم وما إلى ذلك هم داخلون في هذا، فهو يقول بأن الناس يرجعون إلى علمائهم في مُلمّاتهم، كما أنه يجب عليهم طاعة أمرائهم من أجل أن تنتظم أمورهم، فابن جرير ومن وافقه يرى أنه يدخل في هذا رءوس القبائل، رءوس العشائر، يدخل في هذا العلماء، يدخل في هذا الأمراء، الخلفاء، فكل من له نوع ولاية يمثل مرجعية للناس فهو داخل في قوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، أن هؤلاء يجب طاعتهم؛ لأن مقصود الشارع في ذلك هو أن تبقى حياة الناس منتظمة ما تبقى فوضى كل واحد رأس، كما كان الناس عليه في الجاهلية، فهذا هو المراد، والله أعلم.  

على المرء المسلم السمع والطاعة
ثم ذكر حديث ابن عمر -رضى الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة[2]، متفق عليه.

هذا الأسلوب، هذه الصيغة -على المرء المسلم- تدل على الوجوب كما هو معلوم عند الأصوليين، إن الله كتب عليكم الحج، فإذا قيل: عليك كذا، أي أنه يلزمك، هذا في الأصل، على المرأ المسلم يعني: يجب على المرأ المسلم السمع والطاعة، فالسمع بمعنى: الإذعان والقبول والاستجابة، والطاعة هي الانقياد، فيما أحب وكره بمعنى أنه لا يطيع في الأشياء التي له فيها هوى وينقاد فيها، والأشياء التي تخالف هواه لا يطيع فيها، وإنما يتجرد من الهوى فهو مأمور بالطاعة وهذا في غير معصية الله -تبارك وتعالى، فقد يكون له اجتهاد، قد يكون له رأي في المسائل في الأمور العادية الحياتية أنه لو كان كذا لكان كذا أو نحو ذلك، فهذه الأمور لم توكل إليه، فيجب عليه أن يسمع ويطيع فيها، ولو كانت له وجهة نظر مخالفة، أو أن ذلك يخرج عن قناعته في هذه الأمور الحياتية العادية، وإلا لو كانت القضية خاضعة لقناعات الأفراد -قناعات الناس- لما حصل مقصود الشارع، هذا يقول: أنا غير مقتنع، وهذا يقول: لي رأي آخر، وهذا يقول: أنا عندي وجهة نظر، فما يحصل المقصود، ولا يتحقق في هذا المقام.  

على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، وهذا يؤكد مقتضى ما ذكرته وما بوب عليه المصنف -رحمه الله- في وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية، وفي تحريم طاعتهم في المعصية، فهذا الحديث ليس فيه تفصيل ولا تفريق بين عدلٍ وفاجر، ولهذا أهل السنة والجماعة يذكرون في كتب الاعتقاد هذه القضية وأنهم يرون الصلاة والجهاد خلف كل بر وفاجر.

كنا إذا بايعنا رسول الله ﷺ
وذكر حديث ابن عمر الآخر المخرج في الصحيحين قال: كنا إذا بايعْنا رسولَ الله ﷺ على السمع والطاعة، يقول لنا: فيما استطعتم[1]، متفق عليه.

وهذا فيه تعليم للأدب وما ينبغي للعبد في مثل هذه المقامات، وهذا يدل على أن الشارع أرحم بالعبد من نفسه، وأرفق به منها، فالنبي ﷺ يعلمهم فهم يلتزمون له بهذا، يبايعون، ومعنى يبايعون كأنهم يبيعون أنفسهم، وقد يعجز الإنسان، وقد يحصل منه غفلة وتفريط أو سهو أو نحو ذلك، فالنبي ﷺ يقول: فيما استطعتم، يعني أن يقيد بهذا القيد، فإذا جاء الإنسان يلتزم أمام الآخرين بأمر من الأمور بعقد أو نحو هذا فإنه يقيد بذلك، يقول: أنا مثلاً أفعل كذا وكذا مما طلب مني فيما يدخل تحت طاقتي، فيما أستطيع، بمعنى أنه لا يحصل منه تفريط وتضييع متعمد، وإنما قد يحصل للإنسان من العوارض ما يعجز معه من القيام بما طلب منه، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

هذا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.   

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، برقم (7202)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع، برقم (1867).

مواد ذات صلة