الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الحياء وفضله والحث على التخلق به
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو الحجة / ١٤٣٠
التحميل: 1674
مرات الإستماع: 2886

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما ورد في باب "الحياء وفضله والحث على التخلق به" عن السلف ما جاء عن أبي موسى : "أنه كان إذا نام لبس تُبّاناً؛ مخافة أن تنكشف عورته"[1]، والتُّبَّان سراويل قصيرة تستر العورة المغلظة، وكان العرب في ذلك الزمان من عادتهم أنهم لا يلبسون السراويلات غالباً، وأيضاً كان يقول: "إني لأغتسل في البيت المظلم فأحني ظهري حياء من ربي"[2].

وخرج زيد بن ثابت يريد المسجد فاستقبل الناس راجعين، وجد الناس قد خرجوا من الصلاة فدخل داراً، يعني توارى عنهم، فقيل له: لماذا فعلت ذلك؟ قال: "إنه لا يستحي من الناس من لا يستحي من الله"[3].

والمقصود أنه غلب عليه الحياء أن جاء إلى المسجد والناس قد خرجوا من صلاة الجماعة.

وجاء عن ابن عباس  أنه لم يكن يدخل الحمام إلا وحده، وعليه ثوب صفيق، أي غليظ ويقول: "إني لأستحي من الله أن يراني في الحمام متجرداً"[4]، المقصود بالحمام محل الاغتسال كانوا يغتسلون في أماكن يسخن فيها الماء، ويستعملون ذلك أيضاً لمزيد من التنظف، وأحياناً التداوي، وكان الناس يدخلون هذه الحمامات جموعاً ولا يملكونها، ولا زالت بقاياها موجودة في بلاد الشام، وفي تركيا، وفي بعض البلاد المشرقية فيما يسمى الآن بالجمهوريات الإسلامية ونحو ذلك، فكان لا يدخل إلا منفرداً.

وكان الأسود بن يزيد النخعي يجتهد في العبادة ويصوم حتى يخضرّ ويصفرّ، فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: "مالي لا أجزع، والله لو أُتيتُ بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين آخرَ الذنبُ الصغير فيعفو عنه، فلا يزال مستحياً منه"[5]، يصوم حتى يخضر ويصفر من كثرة الصيام، يجتهد في العبادة ويبكي عند الموت حياء من الله -تبارك وتعالى، يستحي من ذنوبه وتقصيره.

وقيل: إن شريحاً القاضي إنما خرج من اليمن؛ لأن أمه تزوجت بعد أبيه فاستحيا من ذلك فخرج[6]، مع أن هذا ليس بمطلوب، كما أنه لا يجب على الإنسان أن يدخل الحمام مكان الاغتسال إذا لم يكن بحضرته أحد، لا يلزم أن يلبس ثياباً صفيقة أو نحو ذلك وهو يغتسل، لكن هؤلاء غلب عليهم الحياء، والعاقل يعتبر، يعني لا يجادل بمثل هذه الأمثلة، ويقول: هذا أصلاً لا يجب، وهذا كذا، لا، القضية: انظر إلى أي مستوى بلغ حياء هؤلاء الناس، فلنبقَ نحن على الأقل في المستوى الواجب.

وجاء عن ابن أبي الهذيل أنه قال: "أدركنا أقواماً وإن أحدهم ليستحي من الله في سواد الليل"[7]، يعني كما قال الثوري: "التكشف"، يعني لا ينام عرياناً، وهذه عادة سيئة كانت موجودة عند بعض الناس ولا زالت موجودة إلى اليوم في بعض الأمم، وانتقلت منهم إلى بعض المسلمين، يعني في بلاد الروس ينامون متجردين، وتجد هذا أيضاً في بلاد إفريقيا ينامون متجردين، لكن هؤلاء الأفارقة يفعله من يفعله منهم من باب توفير الثياب؛ لئلا تبلى، وانتقل هذا إلى بعض المسلمين للأسف، ويبدو لي -والله أعلم- أن بعض الناس يظن أن هذا لونًا من التحضر، أو يسمونه إتيكيت، بعض الشباب يسألون عن هذا، عن النوم متجرداً، تقول له: لماذا تفعل هذا؟ يقول: أرْيح.

ويقول أبو العباس الأزهري: سمعت خادمة محمد بن يحيى وهو على السرير يغسل -يعني مات- تقول: "خدمته ثلاثين سنة، وكنت أضع له الماء -يعني ليغتسل، فما رأيت ساقه قط، وأنا ملك له"[8]، هذا لشدة حيائه مع أن هذا لا يجب عليه، ولا زالت بعض النساء عندنا لا تكشف وجهها لأحد من أزواج بناتها، هذا موجود إلى اليوم مع أن هذا جائز لا إشكال فيه، وهي لا تفعل هذا على أنه من باب التحريم، ولكن لشدة الحياء، وإلا فهي لا تنكر الحكم الشرعي.

وجاء عن أبي جعفر أنه قال: "قال لي بعض أصحابي: كنت عند محمد بن سلام فدخل عليه محمد بن إسماعيل -يعني البخاري صاحب الصحيح، حين قدم من العراق فأخبره بمحنة الناس، وما صنع ابن حنبل، وغيره -أي: أخبره بغير ذلك من الأمور، فلما خرج من عنده قال محمد بن سلام لمن حضره: أترون البكر أشد حياء من هذا؟!"[9]، يعني البخاري.

وجاء عن الأزهري: أنه كان يحضر مجلس ابن الحسن علي بن محمد المصري -الأزهري صاحب تهذيب اللغة الإمام المعروف، وكان يحضر مجلسه رجال ونساء، وكان في غاية الجمال، فكان يخشى أن يفتتن النساء بوجهه فكان يضع على وجهه برقعاً[10].

وجاء عن الحسين بن محمد بن خسرو قال: "جاء أبو بكر بن ميمون فدق الباب على الحميدي -صاحب المسند الإمام المعروف، وظن أنه أذن له، فدخل، فوجدته مكشوف الفخذ، فبكى الحميدي وقال: والله لقد نظرت إلى موضع لم ينظره أحد منذ عقلت"[11]، هذا الحياء.

والآن انظر إلى الأبكار إن كُن أبكاراً في أماكن عامة تلبس ما يستر السوأة المغلظة فقط، بكل تبجح، أين الحياء؟!.

وتجد الشباب يزاولون الألعاب والرياضات بملابس لا تستر العورة، ومن غير حياء ولا مواربة، وهكذا ما يلبسه كثير من النساء -أصلح الله حالهن وشأنهن- في صالات الأفراح من ألبسة تبدي مفاتن الجسد، يستحي العاقل من أن ينظر إليها أو أن يرفع رأسه، ولو كنّ من محارمه، أو كان الناظر من النساء، فالله المستعان.

الحياء صفة وخلق كريم إذا نُمي في النفوس نما، وإذا شُذِّب فإنه ينخزل ويضعف ويتلاشى حتى يذهب، -نسأل الله العافية، وإذا زال الحياء لم يبقَ بعده شيء، إحدى النساء اشتغلت في مكان فعلموا لها دورة في مجال العمل، فكانت تدرسهم امرأة غربية، وهذه البنت شديدة الحياء لا ترفع رأسها من الحياء، لكن فرط بها أهلها فقبلوا أن تلتحق بهذا المكان، فقالت لها تلك المعلمة ذات يوم: إنك بملامحك وصورتك تصلحين أن تكوني نجمة عالمية في الفن والسينما، كلمة قالتها، فيقول بعض من عرف تلك المرأة، وبعض النساء اللاتي حضرن تلك الدورة يقولون: من اليوم الآخر انقلبت رأساً على عقب تلك البنت بشكلها، وعنايتها بهندامها، والأصباغ على وجهها، وحف الحواجب والنمص، وألوان الزينة، والتبرج، وتحولت، وذهب ذلك الحياء، وصدقت تلك الكلمة التي ألقاها الشيطان على لسان تلك المرأة، تربية، خُلطة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد،وآله وصحبه.

  1. انظر: الطبقات الكبرى (4/ 83)، وسير أعلام النبلاء (2/ 399).
  2. الطبقات الكبرى (4/ 85)، وسير أعلام النبلاء (2/ 401).
  3. تاريخ دمشق لابن عساكر (19/ 332).
  4. سير أعلام النبلاء (3/ 355).
  5. المصدر السابق (4/ 52).
  6. تاريخ دمشق لابن عساكر (23/ 14)، وسير أعلام النبلاء (4/ 101).
  7. سير أعلام النبلاء (4/ 170).
  8. تاريخ دمشق لابن عساكر (73/ 272)، وسير أعلام النبلاء (12/ 279).
  9. سير أعلام النبلاء (12/ 418).
  10. المصدر السابق (15/ 382).
  11.  تاريخ دمشق لابن عساكر (55/ 79)، وسير أعلام النبلاء (19/ 122).

مواد ذات صلة