الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «اتقوا النار ولو بشق تمرة..» إلى «لا تحقرن من المعروف شيئًا..»
تاريخ النشر: ١١ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 1039
مرات الإستماع: 2760

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب استحباب طيب الكلام، وطلاقة الوجه عند اللقاء، أورد المصنف -رحمه الله- حديث: عدي بن حاتم قال: قال رسول الله ﷺ: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد، فبكلمة طيبة[1]، متفق عليه.

اتقوا النار ولو بشق تمرة يعني: ولو بالقليل، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8] وسبق الكلام على هذا المعنى في مناسبة سابقة، وما جاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنها تصدقت بعنبة، واحتجت بهذه الآية فمن يعمل مثقال ذرة، قالت: كم فيها من مثقال ذرة[2]، والنبي ﷺ يقول: لا تحقرن من المعروف شيئًا[3]، كما سيأتي، فقال: فمن لم يجد يعني: شيئًا يتصدق به فبكلمة طيبة لأن الكلمة الطيبة صدقة، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53] فـ(إن) هنا تفيد التعليل؛ لأن الشيطان ينزغ بينهم، فإذا قال الإنسان الكلمة التي توحش، حرك الشيطان من وجهت إليه، فأراد أن ينتصر لنفسه، وألقى جمرة الغضب في قلبه، فيحصل بسبب ذلك من العداوة والشر ما الله به عليم، والإنسان في غنى عن هذا كله، ونحن حينما نتكلم بالكلام الطيب لا نخسر شيئًا، هذا الذي يطلق لسانه بكل مكروه من الكلام، ومستقبح من القول، وذاك الذي يتكلم بأطايب الكلام، هي حركة لسان متحدة، ولكن النتائج في غاية التباين، فهذا لم يخسر شيئًا في كلامه الطيب، الذي يأسر به القلوب، وذاك -نسأل الله العافية- غير ذلك، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يسع الناس بماله، فليسعهم منه طلاقة الوجه، وطيب الكلام، كما قال النبي ﷺ: لن تسعوا الناس بأموالكم، وَلكن يسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق[4]، والكلام الطيب يستطيعه كل أحد، وهذا الكلام إنما يصدر عن هذه النفوس، فإذا كانت النفوس صالحة مستقيمة، صدر منها الصالح من الأقوال والأفعال، وإذا كانت النفس شرود، بعيدة عن الله -تبارك وتعالى- صدر منها كل قبيح؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- الخبيثات للخبيثين.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: الخبيثات من الأقوال والأفعال والذوات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات من الأقوال والأفعال[5]، فإنها إن صدرت منهم فهم مظنة لها، وتضرهم، وإن قيلت في حقهم، فهم أهل لذلك، وقوله -تبارك وتعالى-: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[النور:26] ويقول: الأقوال الطيبات، والأوصاف الطيبات، والأفعال الطيبات، والذوات الطيبة -يعني الزوجات- للطيبين من الرجال، والطيبون للطيبات من الأقوال والأعمال والذوات، يقول: فإن صدرت فيهم الكلمة السيئة لم تضرهم؛ لأن الطيبين للطيبات، والطيبات للطيبين[6]، فليكن الإنسان طيبًا؛ وذلك بتهذيب النفس، وتخليصها من كل وصف قبيح، وتحليتها بأحسن حلية من الإيمان والأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

فعلى قدر ما يحصل من هذه المعالجة على قدر ما يحصل من تطييب هذه النفس، وقد تكون نفس الإنسان فيها وعورة، وفيها حزونة، وفيها أرض وعرة، وأرض بركانية أحيانًا، والصخور فيها مدببة، لا تستطيع أن تسير عليها، لكن أما رأيتم الأرض البركانية؟! أما رأيتم الحرار الوعرة؟! كيف إذا مهدت صارت في غاية الاستواء! فالنفس كذلك من باب أولى، فيمكن للإنسان أن يُقوِّم نفسه، ولو كانت طبيعتها، وما جبل عليه فيها شيء من الوعورة والصعوبة والشدة والغلظة، والنار كما احتجت عند ربها، فيها الجبارون المتكبرون، والله يبغض كل جعظري -نسأل الله العافية- وهو الإنسان الجلف الجاف القاسي، والله المستعان.

يقول:

وعن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: والكلمة الطيبة صدقة[7]، متفق عليه، وهو بعض حديث تقدم بطوله.

الكلمة الطيبة صدقة، تصدق بالكلام الحسن، وإدخال السرور على الناس، وما يحصل به تطييب النفوس، بعيدًا عن الكلام المؤذي، وأولى الناس بهذا أقرب الناس إليك: الزوجة، والأولاد، والوالد، والوالدة، والإخوان، والأخوات، وهكذا فهؤلاء هم أولى الناس، وكثير من الناس يعكس القضية، فإذا كان بينهم فالقسوة والجفاء، وإذا دق الهاتف، وتكلم انقلب مائة وثمانية درجة، الكلام اللين اللطيف المعسول مع أصحابه، فهذا غلط.

والحديث الأخير الذي ذكره هو حديث أبي ذر قال: قال لي رسول الله ﷺ: لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق[8]، رواه مسلم.

فطلاقة الوجه هذه صدقة، ويؤجر عليها، وهي من المعروف بنص هذا الكتاب، يعني: بمعنى أنه يمكن أن نتقرب إلى الله ، ونصل إلى أعلى المنازل بالأخلاق؛ ولهذا أخبر النبي ﷺ: إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا[9]، فهذا يدل على أن الإنسان يبلغ بحسن الخلق مرتبة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، فهذه عبادة عظيمة، يغفل الناس عنها، يظنون أن العبادة فقط في الصيام والصلاة، وقد يكون الإنسان صاحب صيام، وقيام ليل، لكنه قاسي، وأخلاقه صعبة، والناس يتحاشونه، ولا يستطيعون الاقتراب منه، ولا يستطيعون الدخول معه في قضية، أو في مطالبة، أو في مشكلة، أو نحو ذلك، فهو إنسان ينطلق لسانه -نسأل الله العافية- بالقذف والسب والشتم.

والنبي ﷺ يقول: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[10]، فهذا يدل على أن الإنسان يمكن أن يغير من سلوكه، ولو كان مطبوعًا أو مجبولاً على خلق آخر، كما ذكرت سابقًا: أن من الناس من يفطر على الأخلاق الفاضلة، وخلقه يكون فيه من طلاقة الوجه، ومن الناس من لا يكون كذلك، وأحيانًا القضية وراثة تكون الأسرة كلها الأب والجد، وكل واحد بهذا الشكل، وبعض الناس يلقب بالحممة، ومعروف بهذا اللقب؛ لأنه -نسأل الله العافية- حممة، لا يقترب منه أحد، فهو جمرة من نار، وجمرة من غضب، والإنسان يسترسل مع النفس هكذا، هذا من ضعف العقل -أيها الأحبة- حينما يكون لسان الإنسان مركبًا له، أو حينما تكون مراكبه دواعي الغضب، فإن هذا يدل على ضعف العقل؛ وهذا يلقي به في كل هلكة، إذا غضب الإنسان ضعفت قوى العقل؛ ولهذا تعرفون ما جاء في طلاق الغضبان، وهبة الغضبان، وما إلى ذلك، والمقصود الغضب الشديد؛ لأن هذا الغضب الشديد يشوش فكره، فإذا كان يرسل لسانه فإنه يوقعه في كل بلية، ثم بعد ذلك يأتي ويقول: أنا أعتذر، وأنا آسف، لكن تبقى آثارها حتى لو عفا الناس عنك، يعني: الآن انظروا هذه الرخامة التي ترونها، لو جاء أحد وقال: أنا أدقها وأكسرها، ثم بعدين أرممها وأعيدها مثلما كانت، هل يمكن أن يعيدها كما كانت؟ الجواب: لا، حتى لو حاول إصلاحها، ستبقى آثار التكسير باقية، وكذلك مشرط الطبيب الحاني للعلاج لمصلحة المريض إذا شقه هل يعود كما كان وإلا يبقى الأثر طول العمر؟! وكذا لو أن أحدًا شُج في رأسه، أو ضُرب وجُرح وأُدمي، ثم اُعتذر منه، وقيل له: سنعالج ونخيط، وانتهى الموضوع، والحمد لله، هل تذهب آثارها؟ تذهب آثارها الظاهرة، ولكن الحسية لا تذهب، تبقى آثارها كلما حلق رأسه بدأت تلوح، وهكذا ما يقع في النفوس من الندوب والآثار أكثر مما يقع من الآثار المحسوسة في قطعة رخام، أو في رأس الإنسان، أو من شجة في وجه، أو أثر عملية، أو غير ذلك، فالكلام الذي يصدر من هذا اللسان جارح، هب أنه اعتذر منك، وقال: أنا آسف، لكن الكلمة هذه لماذا تخرج أصلاً؟ تتلجلج في النفس، وإن كان ذلك الإنسان عفا وصفح، وقال: أنا أريد ما عند الله ، وما أريد من أحد شيئًا، لكن يبقى مجروحًا مكلومًا، هل حاله كما كان قبل ما يسمع هذه الكلمة؟ الجواب: طبعًا لا، فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال.

والله تعالى أعلم

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.تأت

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب طيب الكلام برقم (6023) ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار برقم (1016).
  2. أخرجه مالك في الموطأ رواية يحيى بن يحيى الليثي برقم (2849).
  3. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء برقم (2626).
  4. أخرجه البزار في مسنده = البحر الزخار برقم (8544) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (7695) وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/13): "حسن لغيره".
  5. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/144).
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (19/144).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من أخذ بالركاب ونحوه برقم (2989) ومسلم في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف برقم (1009).
  8. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء برقم (2626).
  9. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق برقم (2018) وصححه الألباني.
  10. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (2663) وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (2328).

مواد ذات صلة