الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
مقدمة عن الباب ، وحديث «استنصت الناس»
تاريخ النشر: ١٧ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 1513
مرات الإستماع: 3133

مقدمة باب إصغاء الجليس لحديث جليسه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب في كتاب الأدب من هذا الكتاب المبارك، وهو باب إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام، واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه.

إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام: وذلك من الأدب بلا شك؛ لأن الذي يوجه حديثه إليك إنما يقصد إسماعك وإفهامك ذلك الحديث، ومخاطبتك به، فاللائق أن تقبل عليه بوجهك، وأن تنصت إليه، وأن لا تتشاغل عنه بشيء آخر، وإن من الجفاء أن يتحدث الرجل إلى أهل المجلس، أو إلى الرجل، ثم بعد ذلك يقطعون حديثه، ويشتغلون بشيء آخر يتحدثون به، فذلك لا يليق، وهو يؤثر في نفس المتكلم.

وقد تكلم الحكماء في أن العاقل لا يوجه حديثه إلى من يزهد في سماعه، والمرء إذا علم من أحد من الناس أو من جمع منهم أنهم لا يقبلون على سماع الحديث، ولا رغبة لهم فيه فإنه يمسك عنهم القول، فقد يحرمون من الفائدة إذا كان حديثه مما ينفع ويجدي.

والمرء لا يرضى بحال من الأحوال ذلك لنفسه أن يتحدث مع أحد ثم يقطع ذلك المخاطب حديثه بشيء آخر يتحدث به مع آخرين.

وهذه قضية قد ذاعت وشاعت في مثل هذه الأيام، لاسيما مع وجود مثل هذه الأجهزة التي صار الناس يتشاغلون بها كثيرًا في مجالسهم، فتجد الرجل لربما يخاطب جليسه، ثم يقطع الحديث بالرد على مكالمة.

أقول: إن كان ولابدّ في مثل هذا فإنه يستأذن محدثه، ثم يرد، أما أن يجعله يتحدث هكذا ثم يرد فإن ذلك لا يليق.

وأعظم من ذلك في الجفاء: أن يقطع حديثه المباشر له بكلام يخاطب به آخر، يعني: قد يعذر شيئًا ما إذا كان يرد على الهاتف، وإن كان ذلك ليس بعذر، فإن كان ولابدّ فيستأذن، لكن حينما ينصرف عنه تمامًا، ويتحدث مع آخر فإن هذا لا يليق بحال، ولا عذر له بذلك، هذا فيما يتعلق بالإصغاء.

قال: الذي ليس بحرام: لأن المتكلم إذا كان يتكلم بكلام محرم كالوقيعة في أعراض المسلمين، أو نحو ذلك فإن هذا لا يجوز الإنصات إليه، ولا الاستماع لكلامه، ولو كان ذلك المحرم والباطل في خطبة الجمعة.

وقد جاء ذلك عن بعض السلف، منهم من تحدث أثناء خطبة الجمعة، وذلك أن الحجاج، وبعض أمراء بني أمية لربما يتكلمون في بعض أصحاب رسول الله ﷺ كعليٍّ على المنبر، فإذا كان الخطيب يتكلم عن مثل هذه الأمور، وبدأ يدخل في أمور باطلة، أو يروج لباطل، أو نحو ذلك فلك أن تتكلم أثناء خطبة الجمعة مع صاحبك، ولا تنصت، ولا يضرك ذلك؛ لأن مقصود الشارع من الأمر بالإنصات هو الانتفاع بما يقوله الخطيب، فإذا كان ما يقوله الخطيب باطلًا، يفسد الدين، ويتلاعب بالأحكام الشرعية، ونحو ذلك فمثل هذا ليس بأهل للإنصات، والله تعالى أعلم.

ولذلك قيل لهؤلاء -على إمامتهم وجلالتهم- لما تحدثوا في الخطبة: ليس هذا من ذاك، يعني: ليس هذا مما أمرنا بالإنصات له.

قال: "واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه" أي: أنهم إذا حضروا يقول لهم: أنصتوا استمعوا، الناس لم يتهيئوا للسماع؛ لأنهم قد تشاغلوا قبله بأمر، فيقول لهم: أنصتوا؛ لأنه سيتحدث، أو تحدث بعضهم أثناء الحديث، فيقول لهم: أنصتوا يا جماعة، كأن يتحدث أحد في مجلس العالم بهاتفه النقال، فيقول له: أنصت.

استنصت الناس
أورد حديث: جرير بن عبد الله قال: قال لي رسول الله ﷺ في حجة الوداع: استنصت الناس ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. متفق عليه.

حجة الوداع: هي آخر حجة، ودع فيها النبي ﷺ، وهي الحجة الوحيدة التي حجها رسول الله  ﷺ بعد بعثته. 

قال: استنصتِ الناسَ يعني: مرهم بالإنصات، قل لهم: أنصتوا، ثم قال: لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض[1].

النبي ﷺ يقول: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[2] وإن تكلم أهل العلم في المراد هنا، هل هو كفر نعمة؟ هل هو كفر عملي؟ هل المقصود الاستحلال أو غير ذلك؟، ليس هذا هو محل الشاهد هنا، وإنما الكلام في الإنصات.

وهذا هو الحديث الوحيد الذي ذكره المصنف -رحمه الله- في هذا الباب.

وهنا أثر وحيد في الكتاب الرديف الذي نورد منه آثار السلف أثر ملائم، ذكره في الباب الذي قبله، وهو ما جاء عن عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- قال: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد[3].

هذه تصح رسالة في النقال، ويكتب تحتها انشر تؤجر.

عطاء بن أبي رباح من علماء التابعين يقول: إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد.

يستمع استماع إنسان كأنه جديد عليه هذه الحكاية، وقد ترى أشياء مزعجة ومؤلمة من بعض من لا يتأدبون، ولا يعرفون أدب المجالس.

رأيت رجلًا كبيرًا يردد قضية وحكاية جرت له قديمًا، قبل وجود السيارات، ولا يكاد يجتمع إليه أحد من الناس في مجلسه إلا وأعاد لهم هذه الحكاية.

والسبب في هذا التكرار الذي لربما يكون مللًا بالنسبة لمن سمعوا هذه الحكاية مرات -لاسيما من أولاده- أن أولاده هم الذين جنوا في حقه؛ لأن أولاده إذا جلسوا معه لا يتحدثون معه، ينشغلون بأجهزتهم النقالة، أو يقرءون الصحف، ولا يتكلمون معه، فهو لا يدري ليس عنده تحديث معلومات كما يقال، يعني: توقفت معلوماته إلى ما قبل نحو أربعين سنة، حينما كان قويًّا نشيطًا، يذهب ويأتي ويسافر، ويتنقل على الجمال، ويتاجر، ونحو ذلك، ثم توقفت المعلومات بعد ذلك، وصل إلى سن وحال بقي في قريته، وتغيرت وسائل النقل، فصار ليس عنده معلومات جديدة، والأولاد تعلموا وتخرجوا من الجامعات، وإذا جلسوا معه فهم مشغولون عنه بالصحف، وما إلى ذلك.

فكلما جلس ليس عنده إلا المعلومات والحكايات القديمة، ذكريات قديمة يرددها دائمًا، فشرع يذكر واقعة من هذه الوقائع التي لطالما سُمعت منه، فبينما هو يتكلم في بداية الكلام وإذا بابنه الكبير ينفض يده في وجهه، ويقول بعبارة أستحي أن أحكيها، يعني: معنى الكلام، مؤدى الكلام: كم مرة رددت علينا هذا الكلام حتى حفظناه؟!، فسكت الأب، وبقي في حال لا يحسد عليها أمام الجلوس.

الأب يريد أن يواسي هؤلاء، يؤانس هؤلاء الحضور الذين حضروا، وهو رجل كريم، ويحب من يحضر، ويفرح بالضيوف، ونحو ذلك على ما عهد الناس قديمًا بالفرح بالضيف، وإكرام الضيف، فقام ولده فقاطعه بهذه المقاطعة أثناء الحديث، فسكت.

فأقول: هذا من أعظم العقوق، الواجب على هذا الولد أن ينصت، وكأنه لم يسمع هذه الواقعة من قبل، ويشترك مع أبيه في الحديث، ويفرّع على هذه الواقعة، ويسأله عن بعض الجوانب، وبعض المفردات فيها التي لربما لا يفهمها الشباب من الحاضرين، ولكنه تصرف بهذا التصرف السيئ، وهو أمر قد يتكرر مع الأب، أو مع الأم، أو مع بعض كبار السن.

ولهذا أقول هنا قضية كنت ذكرتها قديمًا، في الكلام على قوله -تبارك وتعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].

في الكلام على الوصايا في سورة الإسراء.

قلت: نحن ينبغي أن يكون لنا فقه في التعامل مع كبار السن، مع الأبوين، ومن كان بهذه المثابة، فالواجب على الأولاد إذا جلسوا أن يتحدثوا مع آبائهم، وأن يحدثوا لهم المعلومات، يعطيهم المعلومات الجديدة، ما الذي حصل، الأزمة المالية المعاصرة، ويتحدث معه عن صعود العقار، نزول العقار، يتحدث معه عن المشروع الجديد الذي سيقام في البلد، عن الأشياء التي يعاني منها الناس، عن الأمور التي جدت في المجتمع، ونحو ذلك، حروب، أحداث، فإذا جلس الأب وامتلأ المجلس، وبدأ الناس يتحدثون عن قضايا واقعة لا يكون الأب غريبًا بينهم، لا يدري يتحدثون عن ماذا، ولا يستطيع أن يشترك معهم في الحديث، فيضطر إلى أن يقول تلك الحكايات التي كانت قبل أربعين، أو خمسين، أو ستين سنة، لابدّ من تحديث المعلومات باستمرار. 

أما السلبية التامة في حال مجالسة الأبوين فهذا لون من العقوق، وإظهار السآمة من حديثهم، أو لربما يحرج أمام الآخرين، أو أمام أصدقائه فإذا جاء أبوه، وبدأ يتحدث عن هذه الأحاديث القديمة تغير وجه الولد وضاق ذرعًا، ولربما رجع يشكو والده عند والدته، أو عند إخوانه، ويقول: أحرجني بالضيوف، بدأ يردد الحكايات القديمة، كأنه يقول: لماذا يأتي أصلًا؟ فهذا خطأ.

الإنصات -أيها الأحبة- للمتكلم ولو كنت حفظت هذا الحديث قبله.

والله المستعان.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الإنصات للعلماء (1/ 35)، رقم: (121)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (1/ 81).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يُنهى من السباب واللعن (8/ 15) رقم: (6044)، ومسلم، (1/ 81)، رقم: (64).
  3. سير أعلام النبلاء (5/ 86).

مواد ذات صلة