الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث "أن رسول الله ﷺ بشر خديجة ببيت في الجنة.."
تاريخ النشر: ١٤ / صفر / ١٤٣١
التحميل: 1519
مرات الإستماع: 3324

بشر خديجة -رضى الله عنها- ببيت في الجنة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "استحباب التبشير والتهنئة بالخير" أورد المصنف -رحمه الله- بعد ذكر الآيات جملة من الأحاديث منها ما جاء:

عن أبي إبراهيم، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو معاوية عبد الله بن أبي أوفى : "أن رسول الله ﷺ بشر خديجة -رضى الله عنها- ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نَصَب"[1]، متفق عليه.

عبد الله بن أبي أوفى صحابي، وأبوه أيضاً من أصحاب رسول الله ﷺ، يقول: "بشر النبي ﷺ خديجة رضى الله عنه ا-أم المؤمنين- ببيت في الجنة من قصب"، والقصب فُسر باللؤلؤ المجوف، وليس قصب الدنيا المعروف الذي يكون من نوع من النبات مجوف يشبه الخيزران، وإنما هو قصب آخر من اللؤلؤ، وبعضهم يقول: من الجوهر المستطيل المجوف، كل جوهر مستطيل مجوف يقال له: قصب، وبعضهم يقول: القصر الواسع، هو قصر من قصب، يعني من لؤلؤ مجوف.

"لا صخب فيه ولا نَصَب"، الصخب هو الضوضاء والأصوات المرتفعة، الإزعاج سواء كان ذلك ناشئاً من أصوات تصدر من داخله كصياح الأطفال، أو كان ذلك من خارجه، أحياناً الإنسان يسكن قصراً، ولكنه بجواره طريق عام، إزعاج السيارات في الليل لا ينام، أو يكون بجواره معدات وأشياء، وتنزيل وتحميل، أو حفريات لا يستطيع أن يهدأ له بال في ليل، أو نهار، فيتنغص عليه ذلك المكان، ولربما زهد فيه، هذا حال الدنيا، ولهذا قال الشاطبي -رحمه الله: "لا يوجد في الدنيا لذة كاملة من كل وجه".  

ما في أبداً، حتى الأكل هذا الذي تستلذه، وفيه، وفيه، تجد فيه ما ينغص قبل حضوره إليك في طلبه، وشرائه ودفع الثمن، والعجن، والطحن إذا كان مما يصنع، إنسان ذهب مع أصحابه لنزهة أو نحو ذلك، إعداد الطعام، وتقطيع البصل، والطهي هذا يحترق، وهذا ينضج، ما في لذة كاملة في الدنيا، حتى اللذة التي يذهب فيها الإنسان للنزهة فيها تعب ومشقات، ويتعطل، ويحصل له أمور ولربما تلدغه الحشرات أو من معه، أو لربما تعطلت سيارته، أو لربما نسي بعض متاعه، لا توجد في الدنيا لذة كاملة، السفر على وسائل الراحة الآن مثل الطائرات فيه مشقة ولأواء فكيف بغيره بما هو دونه كالسفر بالسيارات؟، كيف بالجِمال، مع أنها مسخَّرة للإنسان؟، وقل مثل ذلك في سائر اللذات من المتع بالنساء، أو الحروث أو غير ذلك مما يستمتع به الإنسان ويستلذه، هو منغص مكدر، إنما الراحة الكاملة في الجنة، لا توجد هنا راحة كاملة، ومن ظن أنه سيحصل اللذات الكاملة والراحة في الدنيا فهو مخطئ، وأول ما ينغص عليه راحته حينما يملك من الدنيا ما شاء الله أن يملك، ويسكن في القصور الفارهة، ويركب المراكب الحسنة، فإنه إذا ذكر الموت وأنه مفارق ذلك إلى حفرة غبراء جوانبها فإن ذلك يتنغص عليه ويتكدر، ومِن هذا القصر، ومن هذا المكان الفسيح، ومن هذه إلى مكان أشهب يُهال عليه التراب فذلك يكدر عليه صفو لذته وراحته.

"ولا نَصَب" والنَّصَب هو التعب، الإنسان يتعب وأحياناً يتعب من الراحة، إذا نام وزاد عن حاجته قام وهو في حال من الصداع، والكسل والوهن، لربما يستلذ النوم في أول النهار، لكنه إذا قام قام في حال من الخمول كأنه مريض، وترى الناس فيما يسر الله لهم وأدر من الأرزاق حيث صار عندهم وسائل ترفيه، ووسائل راحة كثيرة جدًّا في بيوتهم، ومع ذلك صار الواحد منهم يتعب على المجلس، والأثاث الفاره والمريح، فصاروا يخترعون أشياء من أجل مزيد من الراحة، هذه تهتز به، وهذه يمدد أرجله عليها، وهذه أريكة، وهذه من نوع آخر، وهذا يغير المكان فيه، وهذا مجلس لكذا، وهذا مجلس آخر لكذا، ومجلس رابع لكذا، فيتعب ويمل من الراحة ويطلب غيرها، حتى اللوحة الجميلة يضعها الإنسان في أول يوم ينظر إليها يعجب فيها ومزهرية جيدة ونحو ذلك لكن يمر عليه سبعة أيام ثم بعد ذلك لا ينظر إليها، ولا يلتفت إليها؛ لأنها أصبحت ما تلفت نظره، ولا تشده وكأنها غير موجودة، فهنا "لا صخب" لا إزعاج، "ولا نصب" ما في تعب، راحة كاملة، ومعروف ما يسمى بداء الملوك النقرس، يقال: إن هذا الداء كان يصيب الملوك قديماً؛ لأن الناس لا يجدون اللحم وكان ذلك من طعام الملوك فيصيبهم هذا المرض في المفاصل، أو في بعضها، وهو ألم مبرح يقعد الإنسان عن الحركة أحياناً، من ماذا جاءهم؟ يقولون: إن ذلك حينما يصاب الإنسان به يكون اللحم عاملاً أساسيًّا في زيادة أوجاعه وأسقامه، هذه الآن الأشياء التي يتمناها لربما كثير ممن لا يجدها، فهنا لا صخب ولا نصب، ما في تعب، الإنسان كما قلت: أحياناً يتعب في الجلوس، من الناس من يتعب في الكدح، والذهاب والمجيء والتحميل والمشي المسافات الطويلة، وفي ناس يتعبون من الجلوس، وهذه الدنيا، فالجنة لا يوجد فيها شيء من هذا، هي الراحة الكاملة واللذة بلا ملل، يتجدد لهم النعيم كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25]، لا مخاط، ولا فضلات، ولا دورة مياه، ولا شيء ولا حيض، ولا نفاس، ولا عرق، أزواج مطهرة، ولا سوء أخلاق ولا ضغائن، مطهرة من كل خبث باطن وظاهر حسي ومعنوي، أزواج طاهرة، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، لا تُنغَّص عليهم لذتهم ونعيمهم بذكر الموت، هذه التي تحتاج إلى تشمير، وهي شَغْلة كلها ما تجيء ربما ستين أو سبعين سنة بالكثير، فأعمارنا بين الستين والسبعين، فيجتهد الإنسان بالعمل الصالح حتى يفضي إلى بيت في دار في قصر لا صخب فيه ولا نصب، ونحن نشاهد كثيرًا من الناس يحصّل بعض الملايين ويكدح ويتعب لكن إذا نظرت إليه تجده ساكنًا في شقة، وسيارة متواضعة، تستغرب إلى متى؟ يقول: أنا ما أضع المال الذي عندي الآن في حجارة، أشغله، طيب إلى متى تشغله؟ فتذهب زهرة العمر، وما يسكن في بيت يرتاح فيه هو وعياله، ويركب سيارة على الأقل واسعة يتوسع فيها مع أولاده، عنده -ما شاء الله- ثمانية أو تسعة، وسيارة متواضعة صغيرة، فإذا كان زهداً لا بأس، لكن أحياناً ما هو بتواضع ولا زهد، هو يخطط للمستقبل، هو لا يتصدق، أو قد لا يكاد يتصدق، ممسك في الدنيا، نحن لا نتكلم عمن هو زاهد فيها، نتكلم عمن يحبها، فإذا نظرت ذهبت زهرة العمر، ذهب سن المتع والشباب والقوة والنضارة والشعور باللذة والفرح والسرور بهذه المقتنيات، وهذه، وبقي من العمر مره الضعف والعجز والوهن إذا أكل تنغص، ولازم أكلات معينة ما فيها أملاح كثيرة، ما يبغى سكرًا؛ لأنه مريض بالسكر، يأكل ثلاثًا وعشرين حبة في اليوم والليلة، ولازم حسابات معينة، واحدة من البنات متخصصة بالحبوب، وبعد ذلك يذهب يبني هذا البيت بعدما يتكدر، ويعدّ الأيام متى سينتقل عنه.    

أقول: إذا كان العمر يمضي بهذه الطريقة على هذا التقشف أحياناً بلا موجب، والإنسان يجد أحياناً من الدنيا، ومع ذلك يتقشف بزعمه حتى يحصّل مالاً أكثر، ويشغل هذا المال ليحصل أضعافه، وقد يذهب به أحد البطالين باسم تثمير الأموال وتوظيف الأموال وما أشبه ذلك، بلحظة، ويذهب تعب السنوات كلها والحرمان.

فالدنيا ما تستحق هذا كله، يعمل الإنسان ويجتهد في طاعة الله -تبارك وتعالى- مع عمارة الدنيا، لكن لا يعلق قلبه بها ولا ينصب جهده إليها، طاعة الله، أصلح ما بينك وبين الله، عمر آخرتك، كن بحال مع الله، صلة طيبة، ويفضي ذلك إلى قصور من جوهر، ولؤلؤ ولذات، ونعيم مقيم، لا ينقطع، ولا ينقضي، صبر مدة يسيرة ثم بعد ذلك يُلف في خرقة، ويوضع في القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وقرأت اليوم تقريراً عن الحوادث والذين يموتون فيها -عفا الله عن الجميع- (36 ألف) قتلى حروب، وغير الإصابات، وغير، وغير، فالإنسان لا يدري بأي لحظة صغيرًا كان أو كبيرًا، وأكثر من يموت هم الشباب في هذه الحوادث، لا يدري متى يموت، فيجتهد في طاعة الله ، طال عمره، ازداد من الإحسان، والقرب من الله -تبارك وتعالى- يعمر آخرته، فكما يكون حال الإنسان في هذه الدنيا مع الله يكون حاله هناك، كما أن بعض الناس يفرح أن يكون له صلة بأحد الكبراء من أهل الدنيا ليكن لك صلة أنت بالله ، وبهذا يكون الإنسان قد أعد مستقبله الحقيقي؛ ليصل إلى بيت لا صخب فيه ولا نصب، وتأملوا بأنفسكم، وفيما تجدونه من المكدرات، ولا تنظر إلى بعيد من غيرك؛ لأنك لا تدري عن حال غيرك مما قد تراه وتغبطه على ما أعطي من الدنيا، ومبهاجها، لو دخلت في العمق قد تجده من المنغصات والمشكلات، وأمور تكدر عليه هذا، يتمنى لو أُخذ هذا كله منه وعوفي مما ابتلي به، إما يبتلى بولد، أو يبتلى بامرأة، أو يبتلى بنفسه، أو يبتلى بمن يحب، أو يبتلى بمال، أو غير ذلك مما يكدر عليه صفو عيشه، وهذه البهجة إذا دخل الداخل لأول وهلة بهر بهذه المناظر، وهذه السعة في المساكن والدور هي بالنسبة لمن أقام فيها غير ملفتة؛ لأنه اعتادها، ما تلفت نظره، إذا أردت أن تعرف هذا انظر إلى بيتك أنت هل تلفت نظرك الأشياء كلما دخلتَ مثل ما كانت أول مرة دخلتَ فيها بيتك؟

الجواب: لا، تصير مألوفة، لا تستهويك، ولا تشدك؛ ولهذا الطموح لا ينتهي، إنما منتهاه في الجنة، مهما أعطي الإنسان من الدنيا الطموح لا ينتهي، -والله المستعان، ولذلك تجد الناس بدأوا يبحثون عن أماكن أخرى، استراحات، شاليهات، صار لهم مرافق أخرى، يذهبون إليها كل أسبوع، أو بعض أيام الأسبوع من أجل تجديد اللذات والسرور، وطرح الهم عن أنفسهم، فالعاقل يتفكر ويعتبر ولا يغتر، ويقبل على ما ينفعه.

فأسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر الشيطان وشركه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي ﷺ خديجة وفضلها -ا، برقم (3819)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة أم المؤمنين -ا، برقم (2432).

مواد ذات صلة