الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
مقدمة الباب
تاريخ النشر: ٢٤ / رجب / ١٤٢٥
التحميل: 1554
مرات الإستماع: 1739

مقدمة باب التفكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الباب التاسع وهو "باب في التفكر في عظيم مخلوقات الله تعالى، وفناء الدنيا، وأهوال الآخرة وسائر أمورهما، وتقصير النفس وتهذيبها، وحملها على الاستقامة".  

التفكر باب كبير من أبواب العبودية لله ، وحقيقته: إجالة النظر في المعاني، وإعمال القلب، فيكون ناظرًا متقلبًا في الأمور التي ينبغي أن يتوجه نظره فيها، فتقليب النظر في المعاني يقال له: التفكر، وتقليبه في الأمور المحسوسة يقال له: التخيل، وإذا حصل هذا التفكر للإنسان وأعمل نظره في مثل هذه الأمور وأجاله فإنه يحصل له من جراء ذلك ما يُعرف بالتذكر، فإنما يكون الإنسان متذكرًا طاردًا للغفلة إذا كان متفكرًا فيما يعنيه وفيما ينفعه، والإمام النووي -رحمه الله- ذكر أمورًا هنا يتفكر فيها الإنسان كعظيم مخلوقات الله تعالى من السموات والأرض والجبال والأفلاك، والله يقول:أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ[الغاشية:17]، وقد تحدثنا طويلا عند الكلام على اسم الله "الخالق" ومعانيه عما يتعلق بجملة من الأمور التي تدل على عظمته وقدرته ودقة خلقه ، ومن ذلك تحدثنا عن الإبل، وعن خلقها وما تحويه من العجائب في ظاهرها وباطنها، وكيف تكون صابرة على الجوع والعطش مددًا وأزمانًا متطاولة، وكيف أن هذا الوبر الذي فيها يبردها في الصيف، وكيف أنه يكون سببًا لدفئها في الشتاء، وتحدثنا عن أمور أخرى في عجيب خلق الله -تبارك وتعالى- مما يدل على علمه النافذ وقدرته الكاملة وعظمته التي لا يقادَر قدرها، أشياء كثيرة جدًّا تدل على هذه المعاني، هناك أشياء تتعلق بهذه الدقة إذا نظر إليها الإنسان فيما يتعلق مثلاً بالنحل، وكيف ترتب الخلية، وكيف توزع الأعمال توزيعًا دقيقًا.

وهناك أشياء تتعلق بمخلوقات أخرى دقيقة من ديدان قد لا نبصرها بالعين المجردة، وما يتعلق أيضاً بالنمل والحيوانات وكيف تكتسب، وكيف تحصل أرزاقها، إلى غير ذلك من أمور ذكرنا طرفًا منها عند الكلام على اسم الله "الخالق".

فالمقصود أن مثل هذه الأشياء كالإبل: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۝ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ۝ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ [الغاشية:17-19] بعض العلماء -رحمهم الله- يقولون: إن العرب أصحاب أسفار وهم يحتفون بالجمل، وهو وسيلتهم في السفر، فأول ما يشاهدون أول ما يحتكون به هو الجمل، بعظيم خلقه، وامتداد عنقه، وما فيه من طول القوائم، وما أشبه ذلك، فأرشدهم إلى النظر إليه، ثم إذا خرجوا في أسفارهم شاهدوا السماء والأرض، وشاهدوا الجبال العالية العظيمة المنصوبة إلى غير ذلك.

يقول: وفناء الدنيا وزوالها، وهذا أمر مشاهد يتفكر فيه الإنسان بأمور كثيرة، الناس الذين خلوا من قبلنا، الأجيال التي مضت الآباء والأجداد أين هم؟ أين بقاياهم؟ أين آثارهم؟ الناس الآن لربما يفرحون إذا وجدوا شيئًا يسيرًا من فتات ينسبونه إلى القدماء أنهم عثروا عليه في الحفريات، أو ما أشبه ذلك، أين العواصم؟ وأين المدن؟ وأين الدول التي كانت ظاهرة قائمة؟ زال ذلك جميعًا، وسيزول كل ما نشاهده، الإنسان يبدو صغيرًا يخرج من بطن أمه، ثم لا يزال يتقدم به السن ويكبر ثم يبدأ بعد ذلك يشب ويقوى، ثم بعد ذلك يبدأ بحال الضعف، هكذا يصعد حتى إذا اكتملت قواه العقلية والبدنية يبدأ بالنزول والهبوط شيئًا فشيئًا، قد لا يلاحظ ذلك هو لأول وهلة، لكن من غاب عنه مدة ثم نظر إليه وجد آثار الزمان على وجهه، ووجد الشعر الأسود قد تحول إلى بياض، ووجد نضارة الشباب ورونقه وماء الشباب والحياة قد زال ذلك وانكمش، وتغير الحال إلى لون آخر، هذا شيء مشاهد، ينوء إذا ما رام القيام ويُحمل، ثم تبدأ تتلاشى قواه البدنية مع القوى العقلية، فتبدأ خلايا المخ تموت، ويبدأ يضعف، ثم بعد ذلك يبدأ يفقد ذاكرته في أشياء وأشياء حتى إنه لربما لم يعرف ولده، وزوجته مع أنه يأكل ويشرب ويذهب ويجيء مع هؤلاء، هذه طبيعة هذه الحياة الدنيا، يصير إلى حال لا يعلم من بعد علم شيئًا، كل العلوم التي حازها والمعارف وما أشبه ذلك تتلاشى وتضعف، ثم بعد ذلك تضمحل.

وهكذا إذا نظر الإنسان إلى البيوت التي يسكنها يجد الإنسان أول ما يسكن في بيته وهو جديد لربما أعجبه بهيئته وجودته وحسن بنيانه، ثم بعد ذلك يبدأ بالقدم يتقادم شيئًا فشيئًا حتى يمله أهله، ويزهدون فيه، ويبحثون عن مكان آخر، يبدأ الحي جديدًا، ثم بعد ذلك يتحول إلى حي قديم، لربما يترفع الإنسان من سكناه، والبقاء فيه، الأشجار تبدو صغيرة جميلة ثم بعد ذلك ما تزال تكبر حتى تصير كبيرة لربما لا تسر الناظرين إليها، ثم يعدو إليها أصحابها ويقطعونها ويتخلصون منها.

الثياب يلبسها الإنسان جميلة تزينه ويتزين بها، ثم بعد ذلك ما تلبث أن تتغير شيئًا فشيئًا، ثم بعد ذلك تصبح قديمة بالية يستحي الإنسان أن يلبسها، وأن يخرج بها أمام الآخرين، وقل مثل ذلك في المراكب المتنوعة الكبار والصغار، هذه السيارات التي نشاهدها نحن لربما نبذل أموالاً كثيرة فيها، ولكن ما تلبث بعد مدة أن تصير قديمة لا يلتفت إليها أحد، ولا تنجذب إليها الأنظار، وانظر إلى المتع واللذات التي نزاولها صباح مساء كيف تنقضي، لذة الطعام والشراب، ولذة النوم، لذة الراحة إنما يجدها الإنسان في لحظتها، ولربما مع بعض التنغيص ثم بعد ذلك تتلاشى، أين لذة الطعام الذي أكلته في الظهر اليوم أقرب مثال؟! أين لذة الطعام الذي أكلته بالأمس في الليلة الماضية حينما سهرت سهرة مع أحبائك وأصحابك وسررت؟!، أين ذلك؟! أصبح في طي الزمن، وأصبح شيئًا يتذكره الإنسان فحسب لكنه لا يجد من طعمه شيئًا.

وهكذا تفنى الحسرات والآلام والمنغصات والأتعاب كل ذلك يزول ويتلاشى ويبقى ذكرى من الذكريات، وهكذا فيما يستهوي الناس من الجمال في النساء والأولاد وما أشبه ذلك، زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14] أحضِرْ لي أجمل نساء الدنيا قبل مائة سنة قبل سبعين سنة، وإذا نظرت إليها الآن إن كانت موجودة حية فلا ينظر إليها أحد تغير حُسنها إلى قبح، وصارت الأنظار تنكرها، تلك الفاتنة التي كانت توضع صورتها على صدور المجلات على أغلفة المجلات على أنها ملكة الجمال في الدنيا بعد مرور السنين عليها كيف تصبح؟ تصبح شمطاء لا ينظر إليها أحد، ولا يلتفت إليها أحد، فحري بنا أن نتفكر وأن نعتبر، وألا نغتر بشيء مما نراه ونشاهده، كل ما ترونه يفنى، نحن نفنى، وهذا البناء الذي ترونه يتغير ويتلاشى ويصبح بعد مدة قديمًا يحتاج إلى إعادة بناء وهدم وإصلاح وما أشبه ذلك، وكل ما تشاهده، والعجب أن المقبرة أمام المكان الذي ترمى فيه السيارات التالفة "التشليح"، هذا شيء عجيب جدًّا كم أنفق أصحابها في شرائها، وكم ذهبوا وجاءوا من أجل أن يتخيروها ثم بعد ذلك رُكنت في مكان ورُكنوا في مكان تحت طبقات الثرى والتراب، كل ذلك نمر به ونشاهده لكن قل من يعمل فكره في مثل هذه المشاهدات، فهي الحياة كلها تمضي بما فيها من خير وشر، والمسألة مسألة وقت ثم بعد ذلك نوافي جميعًا كما وافى الذين قبلنا، والعاقل هو الذي يستغل اللحظات والأنفاس فيما يقربه إلى الله .

والكلام في التفكر كلام طويل، والحديث له بقية، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتفكرين المعتبِرين، وأن يهدي قلوبنا وأعمالنا، وأن يصلح أحوالنا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة