الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب (1-2)
تاريخ النشر: ١٢ / شوّال / ١٤٢٧
التحميل: 665
مرات الإستماع: 2445

مقدمة باب ملاطفة اليتيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:  

فهذا باب جديد عقده المصنف -رحمه الله- في هذا الكتاب المبارك، وهو: "ملاطفة اليتيم والبنات، وسائر الضعفة، والمساكين، والمنكسرين، والإحسان إليهم، والشفقة عليهم، والتواضع معهم، وخفض الجناح لهم"، وذكره بعد باب "فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين"، وهذا الباب الذي أورده مما تلوته آنفاً متناسب مع الباب الذي قبله، فإذا بيّن فضل الضعفة، وأن الله -تبارك وتعالى- جعل هؤلاء هم أكثر الجنة، وما إلى ذلك مما جاء في فضلهم فإن القلب ينعطف عليهم، ويميل إليهم، ويرتفع عن الإنسان ما قد يجده من النفرة، ولربما شيء من التعالي والترفع على هؤلاء الناس، وعرفنا أن العبرة هي بما ينطوي عليه هذا القلب من الإيمان، وليست العبرة بما يحمله الإنسان من المؤهلات أو الوظائف، أو غير ذلك مما يتكثر به المتكثرون، فإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان لا يترفع، ويتواضع، ويلاطف هؤلاء الضعفة؛ لأنهم بحاجة إلى هذه الملاطفة، ملاطفة اليتيم، وهو من فقد أباه دون سن البلوغ، قبل أن يبلغ، فهو منكسر القلب ضعيف، يشعر أنه في هذا العالم من غير حماية، ونحن قد لا نتصور قلب الضعيف -قلب اليتيم- ونظَرَ اليتيمِ إلى مَن حوله، وإذا أردت أن تعرف هذا فانظر إلى الصغار حينما يكونون بحضرة الكبار، فإن الواحد منهم إن كان مع أبيه فإنه ينطلق ويتحرك ولربما يعلو صوته ويذهب ويجيء، وإن حضر من غير أبيه فإنه يبقى مطرقاً صامتاً، لا يتحرك كما يتحرك الصغار، ولا يعبث كعبثهم، ولا يلعب، وإنما هو منطوٍ على نفسه؛ لأنه يشعر بالخوف، لا يشعر بالأمان.

والصغير يتحرك قلبه إذا تأخر أبوه، فهو يترقب مجيئه في الوقت الذي اعتاد به هذا المجيء، فإذا تأخر عنه بدأ قبله يتحرك ويضطرب، وبدأت أمارات الخوف تظهر على وجهه، وبدأ يفقد الشهية للطعام والشراب، وتجف شفاهه ولسانه، فإذا رآه كأنما نزل عليه شيء يغسل ذلك جميعاً.

فأقول: هذه مشاعر قد لا نشعر بها نحن، لكن يشعر بها هذا الإنسان الضعيف، وهكذا كل ضعيف، الغريب حينما يأتي للبلد لأول وهلة ما هي مشاعره؟ هذا إنسان حصل له عقد بهذه المؤسسة، وجاء من بلد بعيد إلى بلد لا يعرف أحداً فيها، فكيف يكون شعوره؟، لا شك أن شعور الغريب لا يمكن أن يتصوره غيره ممن لا يعيش ما يعيشه هذا الإنسان من الظروف والأحوال، وكذلك هذا الطالب الذي يكون في المدرسة هو ضعيف، فهو يشعر بالخوف، لا يشعر بالأمان في كثير من الأحيان، ولربما يشعر أن مستقبله بيد هذا الأستاذ أو هذا المعلم، فيتخوف من ظلمه، ولذلك تجد هذا الطالب في الغالب -حتى في طلاب الجامعات- يخاف أن يبدي شيئاً يلحظه على هذا الأستاذ من خطأ وقع فيه ولو كان واضحاً ظاهراً، وإنما يسكت ويُعرض عن ذلك كله خوفاً من الظلم، ملاطفة اليتيم والبنات، البنت جناحها مهيض عند أهل الجاهلية، يدفنونها أحياناً وهي حية، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۝ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ [النحل:58-59]، يختفي؛ لأنه محرج، أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ، يمسكها على هوان وإذلال، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، فهؤلاء من البنات، وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين كل هؤلاء بحاجة إلى رعاية وحنو وإحسان.

قوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}

ثم أورد جملة من الآيات في صدر هذا الباب كعادته.

قال الله -تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، الجناح يكنى به عن جانب الشيء، فهو بالنسبة للطائر معروف، والطائر إذا أراد أن يضرب، أو أن يدافع عن نفسه فإنه يضرب بجناحه، فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك في الإنسان بمثابة الطائر، فإن يده إذا أراد أن يبطش رفعها، ولذلك قال الله في حق الوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [الإسراء:24]، اخفض لهما جناحك الذليل، ويعبر به أيضاً عن جانب الشيء، يعني "اخفض جناحك للمؤمنين": كن لين الجانب للمؤمنين، وقد تحقق ذلك في رسول الله ﷺ، فالله يقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159].

قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...}

وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، وهؤلاء من الفقراء كأهل الصُّفة ونحوهم، ممن قعدوا، أو يجلسون الأوقات الطويلة في المسجد، لم تشغلهم التجارات والمكاسب، ولذلك فإن الوقت عندهم كثير، فهم يجلسون يقرءون، ويصلون ويتعبدون الله ، فالله يأمر نبيه ﷺ بأن يصبر نفسه مع هؤلاء الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ أي: يعبدونه بالغداة والعشي، يصلون الفجر ويذكرون الله ، ويصلون صلوات العشي، ويذكرون الله   -تبارك وتعالى.  

قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}

وقال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ يعني لا تغلبه على حقه، وفي قراءة غير متواترة فلا تكهر وهو الإغلاظ عليه وزجره، فإن اليتيم بحاجة إلى جبر القلب ليس بحاجة إلى تعنيف، وجرح للمشاعر وإيذاء، فيكفيه ما هو فيه من انكسار القلب، فإذا كان يُدفع عن حقه فهو لا يستطيع أن يدافع عنه، ولذلك جاءت النصوص في الوعيد لمن تعدى على اليتامى وأخذ أموالهم، كما قال الله : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ۝ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:9-10] السائل: هو المستعطي الذي يطلب العطاء، فهذا لا يحتاج، يكفيه ذل المسألة، فقلبه منكسر، من جملة الضعفاء، فيحتاج إلى شيء من الملاطفة، ولهذا قال الله : قَوْلٌ مَعْرُوفٌ تقول له: إن جاءنا شيء أعطيناكم، ما يكون إلا خير بإذن الله ، تجد ما يسرك، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ حتى لو ما أعطيته، وَمَغْفِرَةٌ تعفو عنه؛ لأنه قد لا يوفق في طريقة السؤال، قد يأتيك في وقت ما هو مناسب، يطرق الباب في نحر الظهيرة، الناس أخلدوا إلى الراحة ويأتي ويطرق الباب، من؟ قال: سائل، أو أنه لا يُحسن بأن يأتي ويُلحف في المسألة ويلح، وتعتذر إليه، ويلح عليك، فقد يضجر الإنسان ويزجره، فالله يقول: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، أحسن من أن تعطيه ثم تزجره وتقول: اذهب، لا تأتِ، لا أراك بعد اليوم، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:10]، ويدخل في السائل أيضاً أن يسأل عن العلم، فإنه أيضاً يبقى مستوحش النفس، هذا الإنسان الذي يتصل ويسأل يستفتي، أو يأتي لإنسان يستفتيه، هو مستوحش لا يدري ماذا سيقول له هذا الإنسان، ويهاب -يخاف، قد يُزجر، قد يعنف، فيحتاج إلى شيء من الصبر والتلطف

الإنسان الذي يتصل ويسأل يستفتي، أو يأتي لإنسان يستفتيه، هو مستوحش لا يدري ماذا سيقول له هذا الإنسان، ويهاب -يخاف، قد يُزجر، قد يعنف، فيحتاج إلى شيء من الصبر والتلطف، وبعضهم قد لا يحسن السؤال، ويتصل في أوقات لا تصلح للاتصال، أو يلح مرة بعد مرة بطريقة عجيبة.

وأحياناً يتكلم بطريقة لا تصلح، وأحياناً يخرج الإنسان عن طوره من أسئلة في أشياء لا تعنيه ولم يكلف بها من التقعر والتعنت، والسؤال عن المسائل التي هي من جملة الأغاليط مما لا يترتب عليه عمل، أو لربما يسأل عن أشياء كالذي يقول: ما هو العمل الصالح؟، هو ما يحبه الله ويرضاه، طيب ما هو الذي يحبه الله ويرضاه؟ الذي يحبه الله ويرضاه مثل الصلاة والصيام، طيب ثم ماذا؟ ثم الزكاة، الحج، ثم ماذا؟ طيب تريدني أن أعدّ لك إلى الفجر كل الأعمال؟ قال: نعم عدّها، هكذا يقع، هذا موجود وحصل، نعم عدها، يعني هذا عقله، أو يأتيك ويعيد السؤال بصيغ كثيرة، بعد كل ثلاث دقائق، أربع دقائق يتصل مرة ثانية، ويعيد السؤال، رجل زنى قبل سبع سنين ثم بعد ذلك اغتسل هل يكفيه هذا أو ما يكفيه؟ نعم يكفيه، لكن عليه التوبة من الزنا، يتصل مرة ثانية، طيب ثيابه غسلها هل طهرت من المني؟ المني طاهر، ثم بعد ذلك، وربما أصابها شيء من المذي؟، طيب هو غسلها بالماء انتهى، طهرت، يتصل مرة ثانية، طيب هو غسلها بالبخار في المغسلة؟، أنا أتحدث عن أشياء واقعية، هكذا نسمع، غسلها مرة ثانية في المغسلة بالبخار، طهرت أو ما طهرت؟ يا أخي طهرت من المرة الأولى، ثم يتصل بعدها بقليل، طيب الآن قد يكون البخار تجفيفًا، هل هذا التجفيف فعلاً ترتفع به النجاسة أو لابد أن يتأكد من أن عينها قد زال؟، لا يُحسن السؤال، بهذه الطريقة مرة بعد مرة، فهذا نوع من التعذيب، أو الذي يرسل برسالة ويقول عن مسألة طويلة فيها تفاصيل يقول: أرجو أن تذكر لي ذلك بالتفصيل والأدلة، برسالة جوال، بالأدلة والتفصيل كيف هذا؟!، الجواب: بنعم أو لا، يصح أو لا يصح، جائز أو لا يجوز، أمّا بالتفصيل والأدلة أشرح لك، أكتب لك صفحات فهذا ما يمكن، فمثل هؤلاء قد يتضايق الإنسان بسببهم، ولكن ينبغي على الإنسان أن يجاهد نفسه.

قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ...}

وقال الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۝ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۝ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3].

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ يعني: بيوم القيامة، يوم الجزاء والحساب، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] أي: يوم الجزاء والحساب.

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ فإن تكذيبه بيوم القيامة يحمله على فعل ما لا يليق، فهو لا يرجو لقاء الله ولا الحساب، فهو لا ينتظر عائدةً من إعانة هؤلاء الضعفة أو الكف عن أموالهم وحقوقهم ومصالحهم، فيعتدي عليها، ويسطو عليها؛ لأنه لا يوقن بأن يوماً سيعاد فيه إلى الله، ويحاسب على أعماله جميعاً، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، الدعُّ: هو الدفع بقوة، يدعُّه يدفعه عن حقه، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ؛ لأنه قاسي القلب، لا يهمه إلا مصالحه ونفسه، وأما الآخرون فإنهم لو ماتوا فإن هذا أمر لا يعنيه، كما سبق أن ذكرنا بعض هؤلاء الذي يقول: لست وكيلاً على ولد آدم، والثاني الذي حينما تُذكَر له جائحة زلزال نزل ببعض المسلمين، يقول: لماذا تجمعون لهم مالاً تواسونهم فيه؟، الله أنزل بهم العقوبة عن علم، فهل أنتم أعرف من الله؟، تستدركون هذا وتعطونهم مساعدات، اتركوهم، الله أنزل بهم العقوبة عن علم بهم وحكمة، فالله المستعان.

هذا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة