الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟..»
تاريخ النشر: ٢٠ / شوّال / ١٤٢٧
التحميل: 518
مرات الإستماع: 4362

يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "ملاطفة اليتيم، والبنات، وسائر الضعفة والمساكين" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هُبيرة عائذ بن عمرو المُزنيِّ، وهو من أهل بيعة الرضوان ، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: "ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها،  فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي ﷺ فأخبره، فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك فأتاهم فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي"[1].

أبو سفيان كان كبير قريش ومقدمهم، وكان أكبر بني عبد مناف، وهو الذي قاد حربهم يوم أحد، فلما كانت الهدنة التي وقعت بين النبي ﷺ وبين المشركين عام الحديبية أمن الناس وصاروا يتنقلون، فجاء أبو سفيان إلى المدينة، وكانت ابنته أم حبيبة تحت النبي ﷺ، فمر بسلمان وصهيب وبلال، سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وهؤلاء ليسوا من العرب، ليسوا من الأشراف، ليسوا من الكبراء، فلما رأوه قالوا: "ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها"، يعني ما عملت فيه سيوف المسلمين، ما لقي جزاءه وحتفه على يد أُسد الله، يحتمل أنهم قالوا هذا وهو يسمع، ويحتمل أنهم قالوه بينهم حينما مر بهم، فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟.

إن كانوا قالوه وهو يسمع -أعني أبا سفيان، فيتوجه الجواب الذي ذكره بعض أهل العلم من أن أبا بكر قال ذلك تأليفاً لأبي سفيان، ليستميله إلى الإسلام، فلا يسمع ما يُنفره، أراد أن يكسب قبله ربما، وإذا كانوا قالوا ذلك وهو لا يسمعهم فلربما يكون أبوبكر قال ذلك؛ لأنه كره أن يقال ذلك في حق رجل يُعد من كبراء قريش التي هي قبيلة النبي ﷺ، وهي قبيلة عريقة لها من الصفات والمنزلة والخلال ما ليس لغيرها، فلا شك أن أفضل العرب قريش، وقد صح عن النبي ﷺ ما يدل على أن عقل الواحد منهم -أي من القرشيين- برجلين. 

وذكر النبي ﷺ أيضاً نساء قريش، وما فيهن من الأوصاف الجميلة، "أحنى على الولد"[2]، أضف إلى ذلك أنها قبيلة نزل القرآن بلغتها، فالقرآن نزل على لغة قريش في نزوله الأول حينما كان ينزل بمكة، واستمر على ذلك ثم نزلت الأحرف الستة، فكأنه كره أن يقال ذلك لرجل هو سيد هؤلاء، وإن كان جاهليًّا لكن لعل الله أن يهديه، فالحاصل أنه قال لهم هذا الكلام، تقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي ﷺ فأخبره، هذا يدل على فضل أبي بكر الصديق ، وأنه ما كان يسترسل مع الشيء الذي يفعله، ولربما يكون عليه فيه مؤاخذة، قال هذه الكلمة كأنه تحسس وتوجس منها، خشي أن يكون فيها شيء، ومباشرة: فأتى النبي ﷺ فأخبره، هل هذا الكلام عليّ فيه حرج؟.  

فقال له النبي ﷺ: يا أبا بكر، لعلك أغضبتَهم، لئن كنتَ أغضبتهم لقد أغضبت ربهم[3]، إن كنت أغضبتهم، لماذا؟ لأن هؤلاء من أولياء الله، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، والله يقول: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب[4]، فمن أغضب أولياء الله فإنه يغضب الله، وهذا يدل على فضل هؤلاء، فقد شهد لهم النبي ﷺ بهذا، فيدل على صدق إيمانهم، وكمال يقينهم، ومنزلتهم عند الله وعند رسوله  ﷺ، يغضب الله لهم، يغضب الله لغضب من؟ لغضب أناس هم عند أهل الجاهلية، أو من لم يهذبهم الإسلام في عداد الأعبُد الذين لا قيمة لهم ولا شأن ولا اكتراث، لئن كنتَ أغضبتهم لقد أغضبت ربهم، من الذي يصل إلى هذا المستوى، هذه المنزلة، إذا أغضبه أحد غضب الله لغضبه؟، فماذا فعل أبو بكر؟ ما قال: على كيفهم، ما قال: أنا ما فعلت غلطًا، على جلالته وقدره ومنزلته وشرفه، فأتاهم فقال: يا إخوتاه، أغضبتُكم؟، أأغضبتكم؟ هل الكلمة التي قلت سببت لكم حرجاً وغضباً وضيقاً؟، يريد أن يعتذر إن كان حصل ذلك، قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي، وهذا فيه ما يدل على كمال نفوسهم المهذبة التي هذبها الإسلام، من الناس من إذا سمع كلمة صحيحة حملها على أسوأ المحامل وهو من المسلمين، ويذهب إلى أودية في الأوهام، ويفسر ذلك بحسب ما يروق له، ويكبر ذلك في نفسه، ويأتي الشيطان وينفخ فيه، وأنت صباح مساء لا تدري هو غضبان أو راضٍ، وإن كان غضبان ما سبب الغضب، يوم يتوهم أنك مررت وما سلمت عليه، وأنت تقول: ما رأيته سائر اليوم، ويوم يقول: إنه اتصل وإنك ما رددت، مشغولون، مرضى، لا نعرف رقمك، لأي سبب من الأسباب، هؤلاء مباشرة قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي.

وهذا هو الواجب على الإنسان ألا يقف عند الكلمة التي يسمعها، ثم بعد ذلك يرتب على هذا مواقف من إخوانه المسلمين، لا، كلمة قيلت، وجهة نظر، اجتهاد، ثم هاهو جاء أيضاً يتلمس العذر ورضاهم، فما قالوا: اذهب، لا نسامحك، نعم أغضبتنا، واستغلوا الفرصة، قالوا: هذا ممتاز، الآن جاء هو يريد أن ينظر هل أغضبنا أو لا؟ لا، أغضبتنا، ولا يمكن أن نعفو عنك، ولا نسامحك، وأبداً وبيننا وبينك الله في الموقف، ما في شيء يحتاج إلى هذا، لا، يغفر الله لك يا أخي، رواه مسلم. 

فمثل هذه الأحاديث تدل على هذا المعنى الكبير، وهو أن الإنسان يتواضع لإخوانه المسلمين وإن كانوا من الضعفاء، فهؤلاء قد تكون لهم منزلة عند الله ، وكم سمعت كثيراً من أحوال أناس قد دعوا في حالة واجهوا فيها ظلماً وبهتاناً دعوا على من وقع منه ذلك، فأصابه في ليلته أو في صبيحة يومه الآخر، ولولا خشية أن يُعرف هذا أو يُركَّب على أحد لذكرت لكم أخباراً خلال أسبوع فقط من الدعاوى التي وقعت لأناس يستغفرون الله منها، بأشياء عجيبة وأحوال في حال ظلم واضح، وقهر ومصادرة للحقوق وما أشبه ذلك، فيرفع يديه يدعو، فيقع كما دعا، ثم هو يتأسف ويتندم، ويقول: أنا سببت لهم مشكلة وحرجاً، وسببت لهذا الإنسان في حياته عاهة مستديمة، فالإنسان يتوقى مثل هذه الأمور ويُحسن، ولا يزدري أحداً ولا يحتقر أحداً، فهذا قد يكون له عند الله منزلة، قد يكون ذا أطمار مدفوعًا بالأبواب، لا يُكترث به لو أقسم على الله لأبره.

فأسأل الله أن يلطف بنا، وأن يغفر لنا جميعاً، وأن يهدينا لأحسن الأخلاق، ويرزقنا وإياكم الإخلاص والتواضع.

وصلى الله على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل سلمان، وصهيب، وبلال ، برقم (2504).
  2. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران:45]، برقم (3434)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل نساء قريش، برقم: (2527).
  3. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل سلمان، وصهيب، وبلال ، برقم (2504).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم: (6502).

مواد ذات صلة