الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب الدعاء للميت بعد دفنه، والقعود عند قبره ساعة؛ للدعاء له، والاستغفار، والقراءة.
فرغ من دفنه بمعنى: أنه قد دفن، وفرغ من ذلك بالكلية، بمعنى: أن تراب القبر بأجمعه قد أعيد عليه، فلم يبقَ شيء من ذلك، يعني: من أعمال الدفن.
وقف عليه، والوقوف هنا المقصود به على القبر، يعني: من قام على قبر فإنه يكون قد وقف عليه، ولو كان جالسًا، ولكن الظاهر هنا من السياق -والله تعالى أعلم: القيام والوقوف، وإن كان المعنى أعم من ذلك في أصل الاستعمال، والله -تبارك وتعالى- يقول لنبيه ﷺ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا يعني: المنافقين، وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] يعني: للدعاء له، ولا يشترط في ذلك الوقوف، بل لو جلس يدعو فإنه يكون قد قام على قبره، فهنا قال: وقف عليه.
وقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، استغفروا يعني: اطلبوا له المغفرة، وعرفنا من قبل أن الغفر يتضمن معنيين: الأول: الستر، والثاني: الوقاية، ومنه المِغفر الذي يلبسه المقاتل على رأسه، يستره، وفي الوقت نفسه أيضًا يقيه من ضرب السلاح والحديد.
استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل يعني: يسأله الملكان الأسئلة الثلاثة، فهو بحاجة إلى هذا، ومن ثَمّ فإن من المشروع أن الإنسان يقول: اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، اللهم اغفر له، يدعو له بالمغفرة، ويسأل له التثبيت، اللهم ثبته، اللهم ثبته، اللهم ثبته، وأولى الناس بذلك هم أهله، وللأسف فإن ذلك يحصل به الإخلال كثيرًا، والسبب في هذا -والله تعالى أعلم- من جهتين: تارة يكون ذلك -كما أشرت في بعض المناسبات السابقة، في مسألة مضت- بسبب أن الإنسان لربما يعرف المسألة من الناحية النظرية، ولكنه إذا كان في الموقف ذهل عن كثير من معلومه، فيقع له شيء من الإخلال، والتخبط، لربما يكون الإنسان يعرف كيف يدفن الميت، وكيف يوضع في لحده، وكيف يبنى علي اللبِن، إلى آخره، ولربما إذا نزل في القبر -وقد يكون من طلاب العلم- فإنه قد يحتاج إلى توجيه العامة، اعمل كذا، ضع كذا، لا تضع كذا، فالموقف والمقام العملي غير المعرفة النظرية، فالشاهد أنه بحاجة للتذكير.
فالإخلال يقع: إما من جهة أن الإنسان في ذلك المقام يحصل له نوع اضطراب، فيذهل، وينسى هذا المعنى، ويذهب مباشرة؛ ليقف؛ وليستقبل المعزين، وأحيانًا -وهو الغالب- أن الناس لا يمهلونه، بل إنه يُسحب سحبًا، من أجل أن يقف ليعزوه، وذلك أن الكثيرين على الأغلب يريدون أداء هذا الواجب، وإسقاط هذا العبء، والتخلص من هذه التبعة، بالتعزية في أسرع وقت، ثم بعد ذلك ينصرفون، فهذا الميت يُحرم كثيرًا، فأولاده وهم أولاده لا يقفون في أحرج اللحظات التي هو أحوج ما يكون، ويسمع تمامًا غاية السمع، يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، وهو بحاجة إلى دعوة، فينبغي للإنسان أن لا يستجيب للناس حينما يُجرجر من القبر؛ ليوقف للتعزية، إنما يقف ويدعو.
وهذا الدعاء ما مقداره؟ ما مقدار هذا الوقوف؟ يوضحه الحديث الآخر بعده، وهو:
يقول: فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، الجزور هي: ما نحر من الإبل، سواء كان جملًا، أم ناقة، يقال لها: جزور، فالمنحورة يقال لها: جزور، قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، إذا كان الذي ينحر الجزور جزارًا -يعني: صاحب صنعة، وحذق، ومهارة- فإن ذلك يستغرق ما يقرب من عشرين دقيقة، يعني: نحر الجزور، وتقطيع لحمها، يعني: يسلخ، ويبدأ يقطع، هذا الماهر، يحتاج ما يقرب من عشرين دقيقة، إذن يحتاج الإنسان أن يقف على القبر بهذا المقدار تقريبًا.
قال هنا: حتى أستأنس بكم؛ وذلك لأن الإنسان يكون في غاية من الوحشة، فتجدون أن الإنسان إذا كان في موقف شديد عصيب، فهو بحاجة إلى قرب الناس منه، قرب من يحب، فإنه يأنس بهم، وتجد الإنسان إذا ذُهب به إلى المستشفى، ولربما هو في حالة من التعب والإعياء، لكي تُجرى له عملية، أو نحو ذلك، أحيانًا يتشبث ببعض أهله، لا تذهبوا عني، ابقوا هنا، ابقوا عندي، بل المريض في البيت أحيانًا إذا اشتد به المرض لربما يستوحش، ولا يريد من أهله أن يفارقوه في ليل أو نهار، هذا مشاهد، وموجود، فكيف بالإنسان إذا وضع في القبر؟ فهو بحاجة إلى أن يأنس، فإذا جرجروهم، وذهبوا، ووقفوا للعزاء، وتركوه وراء ظهورهم، فهذا ليس من البر، ولا من الإحسان إلى الميت، ولا من حسن العهد والوفاء له، ومجاملة الناس لا ينبغي أن تكون على حساب مصلحة هذا الميت، فهؤلاء الأحياء إنما يريدون الذهاب إلى أهليهم، وأعمالهم، ودنياهم.
يقول: وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي، يعني: لا أنفرد في هذا المكان الموحش، وما عندي أحد، كونوا قريبين، كونوا حولي.
فهذا الموقف يحتاج الإنسان إلى أن يتأمله، وأن يراجع نفسه في مثل هذه المقامات، ولا يختص هذا بأهل الميت، بل ذلك يشمل الجميع، فلا يستعجلون في العزاء، يقف الناس على القبر هذه المدة تقريبًا.
يقول الشافعي -رحمه الله: ويستحب أن يُقرأ عنده شيء من القرآن، وإن ختموا القرآن عنده كان حسنًا.
هذا قول لبعض أهل العلم، وهنا المصنف -رحمه الله- في ترجمة هذا الباب قال: للدعاء له، والاستغفار، والقراءة، هذا قول النووي، والمسألة فيها كلام معروف لأهل العلم، وخلاف، وكل ذلك مقيد حال الدفن، يعني: كلام أهل العلم في هذه المسألة في قراءة القرآن، وما جاء عن ابن عمر -رضى الله عنهما- في ذلك إنما هو بعد الدفن، يعني: مباشرة، لا أن يذهب الناس، ويختم ختمة، أو أكثر، أو يستأجر قارئاً على القبر، أو كل جمعة، أو نحو ذلك، لا، فهذا من البدع المحدثة، إنما قول من قال من أهل العلم المعتبرين ومن السلف إنما قصدوا بذلك بعد الدفن مباشرة، أن يُقرأ عليه شيء من القرآن، فهذا قول لبعض السلف، قال به بعض الصحابة، وقال به طوائف من أهل العلم، ومنهم الإمام الشافعي -رحمه الله، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحم الله الجميع، ولكن الأقرب -والله تعالى أعلم- هو: أن ذلك لا يشرع مطلقًا، والنبي ﷺ ما فعله، ما قرأ قرآنًا على قبر، ولا علّم ذلك أصحابه، ولم يكن من عادتهم، لكن من قرأ على القبر بعد الدفن مباشرة فإن هذا لا يشدد فيه؛ لثبوته عن ابن عمر، وبعض السلف، ولكن الأقرب أنه غير مشروع، وإنما يُكتفى بالدعاء، والاستغفار، والله تعالى أعلم، نسأل الله أن يرحم موتانا، ويشفي مرضانا، وأن يعافي مبتلانا، وأن يجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، رقم: (3221)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (2/ 865)، رقم: (4760).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، رقم: (121).