بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ففي باب تحريم الظلم أورد المصنف -رحمه الله- حديث معاذ قال: بعثني رسول الله ﷺ فقال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب[1] بعثه النبي ﷺ في أواخر السنة التاسعة من الهجرة، إبان مرجعه ﷺ من غزوة تبوك، بعثه قاضيا في اليمن، وبقي فيها، وما رجع إلا في خلافة عمر ثم وجهه عمر -رضي الله عنه وأرضاه- إلى الشام حتى توفي في طاعون عمواس كما هو معروف، قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب... وذلك في اليمن حيث إنه في ذلك الوقت كان الغالب على أهل اليمن هم أهل الكتاب، أكثر من المشركين.
وفي هذا فائدة، وهو أن من توجه ليدعو إلى الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يعرف، أو أن يُعرّف حال أولئك الذين يقدم عليهم، وهكذا من وجه قاضيًا إلى ناحية من النواحي كما ذكر الفقهاء -رحمهم الله- في آداب القضاء أنه ينبغي له أن يعرف حال الناس، حتى أعرافهم، فقد يتقاضون إليه في أشياء لربما تكلموا بشيء له محمل على عرفهم، مغاير للمعنى المعروف في كلام العرب، فعلى سبيل المثال لو أن الإنسان سافر إلى بلد، وجاءه أحد، واستفتاه، وقال: إنه حلف ألا يأكل لحما، وكانوا يطلقون اللحم على اللحم الأحمر خاصة، فبماذا يجيبه؟
ينبغي أن يعرف عرف هؤلاء الناس، فيحمل كلامه على عرفهم، عرف المتكلم، وهكذا لو أن أحدا من الناس تزوج امرأة، قال: تزوجتها على عشر من الإبل، فطالبته المرأة بعشر من الإبل، فأبى، وأعطاها قيمة عشر من الإبل فبماذا يحكم؟
ينبغي أن يرجع إلى العرف، ما هو عرف هؤلاء الناس في هذا البلد، فإن كانوا يقولون: على عشر من الإبل، ويقصدون القيمة، قيمة عشر من الإبل، فإنها لا تستحق الإبل، ولا يحق لها أن تطالب بذلك، ولا يقضى لها به.
وهكذا في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- يعرف الإنسان حال هؤلاء الناس، وما هي المنكرات الشائعة عندهم، وما هي الأشياء التي يجب أن يبتدئ بها، وما لهؤلاء من العلوم، والمعارف، وما أشبه ذلك ليستعد، أما أن يذهب الإنسان على وجهه، وهو لا يعرف من يقابل، ثم بعد ذلك يتعلم من أخطائه، فهذا غير صحيح، فإن هذه الأخطاء قد تسبب صدودا عند هؤلاء الناس، ورفضا لهذه الدعوة، وقد يعجز عن دعوتهم؛ لأنه لم يتأهل لذلك، وهذا فيه عبرة لمن يجترئون في الدعوة إلى الله ويسافرون يمنة ويسرة، ويشرقون ويغربون، وليس لهم نصيب من العلم، ويحتجون بأن النبي ﷺ كان الرجل يسلم، ثم ينطلق يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا غير صحيح.
فالنبي ﷺ أرسل معاذا ومعاذ من علماء الصحابة، ومن فقهائهم، ومن قرائهم، أرسله قاضيا، ومعلما كما أرسل أبا موسى الأشعري، وهكذا أولئك الذين يبعثهم النبي ﷺ لتعليم الناس.
عمر أرسل عبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وأبا الدرداء، كل هؤلاء أرسلهم إلى الشام ليدعوا إلى الله، ويعلموا الناس، وهؤلاء الثلاثة من علماء الصحابة، فالذي يذهب للدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يكون ملمًا بما يحتاج إليه من العلوم الشرعية، أن يكون ينطلق من خلفية علمية صحيحة، لا سيما الذي يسافر إلى بلاد يخاطب فيها أهل الكتاب، ويخاطب فيها طوائف الناس حتى المسلمين، عندهم من المشكلات، والمعضلات، والقضايا التي يحتاج أن يجتمع لربما إليها أهل بدر، ولربما أعضلتهم، وتوقفوا فيها فيأتي إنسان ليس عنده شيء من العلم، ويتكلم في القضايا الكبار التي كان ينبغي له أن يتلبث، وأن يتمهل قبل أن يخوض فيها.
فالإنسان يدعو جاره، يدعو قريبه، يدعو من حوله بما يعلم، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يعلم الناس من الخير الذي تعلمه، أما أن ينفرد للدعوة، ويسافر لها، ويشتغل بها، ويكون ذلك من عمله وشأنه وتخصصه، وهو ليس أهلاً لذلك أصلا، لم يتعلم شيئا من دين الله -تبارك وتعالى- فهذا غير صحيح، هذا قد يفسد أكثر مما يصلح، فالحاصل أن النبي ﷺ قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، وهم اليهود، والنصارى، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله.
وهذه أجل كلمة، وأعظم كلمة على وجه الإطلاق؛ كلمة التوحيد، وهي أول ما يدعى إليه الناس، وهي أول واجب على المكلف، أول ما يجب على الإنسان شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهي الكلمة التي كان النبي ﷺ يبعثها مع أمرائه، وقادة الجيوش أن يخاطبوا الناس بها قبل القتال، وأن يدعوهم إليها، فإن لم يقبلوا فإنهم يخيرون إما الجزية، وإما القتال، فأول ما نخاطب به الناس في الدعوة إلى الله هو التوحيد، أول ما ندعوهم إليه هو التوحيد.
يمكن أن نشترك مع الناس في قضايا نتفق معهم عليها، يمكن أن نتحدث معهم عن الإنسانية، وعن حقوق الحيوان، ويمكن أن نتحدث مع الناس عن خطر المخدرات، ونتحدث مع الكفار عن قضايا تتعلق بالفواحش، والأمراض المستعصية، وانفلونزا الطيور، والبيئة، وتلوث البيئة، وخطر الأشياء التي تلوث البيئة، ونتحدث عن قضايا تتعلق بالأخلاق الجميلة، والصدق، والأمانة؛ مما يوافقون عليه، لكن هل هذا هو المنهج الصحيح لا، المنهج الصحيح أن ندعوهم إلى لا إله إلا الله، إلى الإسلام هذه الكلمة لا شك أنها ستفرق الناس، سينقسم الناس إلى فريقين إلى مؤمنين، وإلى كفار.
فنحن ليس المقصود هو أن نجمع الناس جميعا على أي شيء، لا، أن نجمع الناس على الحق، وأن نجمعهم على كلمة الحق، وهي كلمة التوحيد، وهي أعظم كلمة، وأجل كلمة، وهكذا في البيئات التي تنتسب إلى الإسلام.
قد يوجد في بعض البيئات من يعبد القبور، ويطوف بها، ويقدم لها النذور، ويدعو غير الله -تبارك وتعالى- وقد ينصرف بعض الدعاة إلى الله إلى الحديث عن الأخلاق الجميلة، والتحذير من الفواحش، والموبقات، والكلام على الفقر، والجهل، والمرض الثلاثي الذي يهدد المجتمعات، كما يقال، ويتركون أعظم تهديد، وهو الإشراك بالله -تبارك وتعالى- وهو أعظم جريمة وقعت على الإطلاق إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فالمنهج، والطريق الصحيح طريق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما أرسل الله نبيا، أو رسولاً إلا أمره بهذه الكلمة أن اعبدوا الله، واجتنبوا الطاغوت، وإن أنكرت قلوب المردة هذه الكلمة، ونفرت منها.
والنبي ﷺ كان بالإمكان أن يجتمع مع أهل مكة على قضايا تتعلق بالبر، والصلة، وإطعام الفقراء والجوعى، ونصر المظلوم، وما أشبه ذلك مما كانوا يقرون به، ويعترفون به، لكن النبي ﷺ خاطبهم بالتوحيد.
وهكذا ينبغي أن يوجه ذلك إلى الناس، وأن ندعوهم إلى هذا، قال: فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة... إذا ما أجابوا إلى لا إله إلا الله لا تنفعهم الصلاة، لا يخاطبون بالصلاة، ولا يخاطبون بشيء آخر، وإنما يقال: لهم إما أن تقبلوها، وإما أن تدفعوا الجزية، وإما أن تستقبلوا السيف صلتا.
قال: افترض عليهم خمس صلوات، وهذا يدل على منزلة الصلاة بعد شهادة أن لا إله إلا الله يخاطبون بها، ويدعون إليها، فكيف بالذي لا يصلي، عفيف الجبهة لا يرفع لذلك رأسا، وقد يكون بيته بجوار المسجد، يسمع الأذان صباح مساء، ولا يجيب داعي الله، الله يقول: الله أكبر، علمنا أن نقول: حي على الفلاح، فلا يأتي للفلاح.
يقول: فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم يعني الزكاة، والله قال في سورة براءة فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ وقال في الموضع الآخر من سورة براءة فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين.
ومفهوم المخالفة" أنهم إن لم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوان لنا في الدين، وأبو بكر الصديق حارب قوما بعد وفاة النبي ﷺ امتنعوا عن أداء الزكاة فقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة، والزكاة" وقال: "والله لو منعوني عقالاً [2] -وفي رواية: عناقا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها"[3].
يقول: تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم قد يفهم من هذا أن الزكاة لا يجب أن يستوعب بها الأصناف الثمانية، مصارف الزكاة الثمانية إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60] فهذه ثمانية مصارف هذه المصارف الثمانية هل يجب على الإنسان أن يستوعبها جميعا؟
بمعنى إذا أراد أن يخرج الزكاة يجعل سهما لهذا، وسهما لهذا، وسهما لهذا، قولان للعلماء، والراجح أن ذلك لا يجب، ومما يدل على أنه لا يجب هذا الحديث تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فذكر الفقراء، وما ذكر باقي الأصناف يمكن أن يقال إنه ذكر الفقراء؛ لأنهم الغالب في ذلك الوقت، في اليمن طبعا.
وفيه أيضا فائدة أخرى، وهي: أن الزكاة هنا استدل به من قال: إنها لا تخرج من البلد تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، ما تخرج إلى فقراء آخرين.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن هذا لا يدل على هذا المعنى، وإنما هو في مقام البيان والدعوة، يريد أن يقول لهم: إن هذه الزكاة لا يدخل جيوبنا منها شيء، هي تؤخذ من الغني، ويواسى بها الفقير، لكن كانت الزكوات تنقل إلى النبي ﷺ كما هو معلوم إلى المدينة من اليمن، ومن غير اليمن.
ولما بعث علي إلى النبي ﷺ بذهيبة، وقسمها بين رجال جاءه الرجل الذي قال له: هذا قسمة ما أريد به وجه الله.
فالحاصل، قال: فإن هم أطاعوا لك فإياك، وكرائم أموالهم هذا هو الشاهد يقول: إذا قبلوا، وأخرجوا الزكاة إياك، وكرائم الأموال، كرائم الأموال: النفائس، إذا كان هذا عنده إبل، أو بقر، أو غنم ما نأخذ الأفضل، والأجود، والأغلى ثمنا، والأسمن، لا، وإنما يؤخذ الأوساط، ما يؤخذ للزكاة الرديئة.
وكذلك في الثمار ما يؤخذ الأفضل، أفضل الأنواع، ولا يؤخذ من الرديء، وإنما من الأوساط من الوسط، وهذا هو العدل، إرفاقا بهم، وإرفاقًا أيضًا بالفقراء، لو أخرجنا للفقراء الرديء؛ لضاع حقهم، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يعني: أن تأخذه على إغماض، يعني: تغض الطرف، وتجامل تأخذه حياء، ثم إذا ذهب ألقيته من الناحية الأخرى إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ.
والنبي ﷺ لما دخل المسجد، فوجد رجلا قد علق عذق شيص، وهو البسر، أو الرطب الذي لم يؤبر، يعني: ما لقح، يخرج مستطيلاً ضعيفًا، لا يصلح للأكل، فقال: إن صاحبه يأكله شيصا يوم القيامة، يقول: وإياك، وكرائم أموالهم قال: واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها، وبين الله حجاب[4] متفق عليه اتق دعوة المظلوم كيف يتقي دعوة المظلوم؟
يتقي دعوة المظلوم باتقاء الظلم، إذا ظلمه سيدعو عليه، فإنما يكون اتقاؤها باتقاء سببها، وهو الظلم الذي يصدر من الإنسان، فتصدر دعوات الناس تجاهه، وهذا لا يختص بهذه القضية، وإنما في كل شيء، استأجرت أجيرًا، عاملاً، أعطه قبل أن يجف عرقه.
اشتريت من أحد، أو شاركته في تجارة، أو نحو ذلك، لا تماطل.
إنسان سكن في بيت، استأجره، ثم بعد ذلك جعله كالفقير الذي يشحذ حينما يطالبه بالإيجار، فقد يدعو عليه اتق دعوة المظلوم هذا الإنسان الذي قد يكون وضع أشياء باسمك، قد تكون امرأتك، قد يكون هذا قريبك، قد يكون هذا رجل من الناس لسبب أو لآخر وضع كل أملاكه باسمك، ثم لما جاء يطالب بها قلت: ما عندي شيء، اثبت، هو سيثبت في يوم لا درهم فيه ولا دينار.
اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها، وبين الله حجاب أي أنها تصعد إلى الله والله -تبارك وتعالى- يجيبها، فهو يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، لا تحجب، ويجيب المظلوم فيتقيها الإنسان.
وقد سمعت أشياء عجيبة في دعوة المظلومين لولا أن يعرف أصحابها لذكرت بعضها لكم الآن، يرفع يديه يدعو، والآخر مباشرة تظهر الدعوة فيه.
فالمسألة ليست سهلة، فينبغي للإنسان أن يحذر من السهام التي قد توجه إليه، وهو نائم يتقلب في فراشه، وأولئك يدعون، وكم سمعنا من أناس فقراء، من أناس مساكين، من نساء أرامل يشكون شكوى مرة على من أخذ أموالهم وضيعها، يدعون دعاوى حارة من قلوبهم.
كيف ينعم هذا الإنسان، ويأكل، وينام، ويضحك، ويمشي، والناس يدعون عليه -نسأل الله العافية- فكل إنسان يحذر الظلم، وأسباب الظلم، ودعاء الناس عليه، فإنه قد يعلق بدعوة تضيع عليه دنياه، وآخرته.
هذا، وأسأل الله أن ينفعنا، وإياكم بما سمعنا.
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، برقم (4347)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم (19).
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، الزكاة، باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزكاة، برقم (7284)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم (20).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، برقم (1399).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، برقم (1496)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، برقم (19).