بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده الإمام النووي -رحمه الله- في باب تحريم الظلم، حديث أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي عبد الرحمن بن سعد الساعدي، الخزرجي، الأنصاري، والأنصار الأوس، والخزرج، كلهم يرجعون إلى الأزد، من قبائل قحطان، من أهل اليمن، استوطنوا المدينة، وأكرمهم الله بنصرة نبيه ﷺ ولقبوا بهذا اللقب الشريف.
وأبو حميد -رضي الله عنه وأرضاه- هو راوي الحديث المشهور في صفة صلاة النبي ﷺ وله أحاديث أخرى كثيرة بلغت عشرين ومائة، وقد اتفق الشيخان على ثلاثة، وانفرد الإمام مسلم بواحد، وانفرد البخاري بواحد، وكانت وفاته متأخرة في أواخر عهد معاوية -رضي الله عن الجميع-.
يقول: "استعمل النبي ﷺ رجلاً من الأزد" استعمل النبي ﷺ أي أنه ولاه عملاً من الأعمال، مصلحة من المصالح العامة، ويقول استعمل رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية، قيل: إن اسمه عبد الله، وعلى كل حال ذكر هنا أنه من الأزد، ولا فائدة في معرفة اسمه، والأزد كما أشرت هم قبيلة واسعة من قبائل اليمن، يرجع إليهم هؤلاء من الأوس والخزرج وخلق كثير سواهم، وممن يرجع إليهم أيضًا من القبائل المشهورة المعروفة غامد، وزهران، وقد خرج منهم كثير من الفضلاء من قادة المسلمين، وعلمائهم، وأئمة السنة، وأئمة اللغة، كالخليل بن أحمد الفراهيدي، والجبال في الحفظ والرواية، كشعبة بن الحجاج، الإمام المعروف، وخلق لا يحصيهم إلا الله بل قد جمع أحد المعاصرين فيمن نبل من الأزدي من قبائل غامد وزهران فقط جمع خلقا كثيرًا في ثمان مجلدات، من بين قادة، وعلماء، وأئمة في الرواية، أو في اللغة، أو في غير ذلك.
فالحاصل أن هذا الرجل يقال له: ابن اللتبية استعمله على الصدقة، يعني الزكاة يعني: بعثه النبي ﷺ يجمع الزكوات من القرى، ومن البوادي من أهل المواشي، وأهل الزروع، فما قدم ذهب، وجمع الزكوات، ورجع إلى النبي ﷺ ليدفع له ما جمع، قال: "هذا لكم، وهذا أهدي إليّ".
يعني معه أموال دفعها للنبي ﷺ وقال هذا ما جمعناه لكم من الزكوات، وهذا القسم الآخر لا علاقة لكم فيه، فهو يختص بي؛ لأنه قد أهدي إليّ، فقام النبي ﷺ على المنبر فحمد الله، وأثنى عليه كعادته ﷺ في افتتاح الخطب.
وكان النبي ﷺ لا يقتصر على يوم الجمعة، وإنما كان يخطب إذا دعت الحاجة، ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل يعني أوليه ولاية مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت إلي، ينكر النبي ﷺ هذا الصنيع، أفلا جلس في بيت أبيه، أو أمه حتى تأتيه هديته، إن كان صادقا....
الحديث ما انتهى، لكن هذا القدر مما ذكره النبي ﷺ يعطي معنى في غاية الأهمية، وهو هدايا العمال، أحكام هدايا العمال، من موظفين، ومدراء، ومسؤولين في أي مجال من المجالات، فإن تحصيلهم للمصالح سواء كانت من المصالح العينية، أو كان ذلك من المنافع التي يتحصلون عليها عن طريق هذه الوظيفة منظور فيه إلى ناحيتين اثنتين:
الجانب الأول: وهو جانب الرشوة، وذلك أن هذا المدير قد يعطى من أجل استمالة قلبه؛ ليمرر المعاملة، وقد يكون معلمًا، فيعطيه الطالب، أو معلمة، فتعطيها تلميذة، من أجل استمالته ليقفزه، أو يعطيه أكثر مما يستحق، فهذا له تعلق بباب الرشوة.
وهناك ملحظ آخر أيضًا، وهو أن هذا الإنسان كما يسأل كثير من الناس، يقول: هذا المعلم سيغادر الآن المدرسة، سيودع إلى مدرسة أخرى، سينتقل، أو أن هذا الطالب سيتخرج الآن من السادسة الابتدائية، يذهب إلى مدرسة أخرى، تخرج، أخذ الشهادة، تخرج من المتوسطة، أو الثانوية، أو الكلية، هل يجوز له أن يدفع، أو يقول لن يدرسني في العام القادم، هذا يدرس المستوى الفلاني، وقد جاوزته، لن يدرسني، ما فيها رشوة.
نقول: ينظر فيه إلى الملحظ الثاني، وهو أن هدايا العمال غلول، والغلول كما قلنا: هو الذي يؤخذ من مال الغنيمة خاصة، أو ما يؤخذ من الأموال العامة، هدايا العمال غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، بمعنى باختصار أن هذا الأموال التي حصلها إنما حصلها بسبب ماذا؟
بسبب الوظيفة، الضابط في هذا هلّا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟
وهذا نقوله للناس، كثير من الناس يقول: أنا لن أدرسه في السنة القادمة، هذا الطالب تخرج الآن، نقول: لو جلست في بيت أبيك وأمك هل تأتي هذه الهدية؟ فيضحك، ويقول: لا، إذًا حصلتها عن طريق هذه الوظيفة، قد يكون هذا الإنسان موظف في الخطوط، وتأتيه هدايا، ولو كان ما يشتغل، ولا يحتاجون الناس إلى حجوزات، يمكن ما أعطاه أحد شيئا.
هذه المرأة مديرة في المدرسة، ويعطونها المعلمات، والطالبات، تقول: والدة، ولدت، لو كانت في بيت أبيها وأمها هل ستأتيها هذه الهدايا، أو لا؟
لماذا لا توجهون هذه الهدية لفلانة في الحي عندكم ولدت، وما أعطيتموها هذا كله؟
فيضحكون، إذًا لأجل منصبها، ولذلك تجد الإنسان إذا تولى ولاية لحقته الكنية، أبو فلان، وأبو فلان، وتأتيه العطايا، وطلاقة الوجه، والهدايا، وإذا أدبرت عنه الدنيا، وتقاعد، أو ذهب عنه ذلك، ما تجد من يمر عليه، أو يسلم عليه إلا إذا كان عنده مآثر أخرى، وعنده من رجل أياديه بيضاء على الناس، والناس يحبونه، ونحو ذلك، وإلا هو مرفوع بهذا المنصب، فلما راح الكرسي سقط.
تجد الرجل يقدّم، وإذا تقاعد يأتي لنفس المكان بعد سنة، أو سنتين الذي يقيم فيه الحفل السابق، ولا يجد مكانا يجلس فيه، يذهب إلى أواخر الصفوف، بعدما كان الناس كلهم يقومون، كل إنسان يريد أن يقدمه في أول.
فهذه الهدايا تأتي بسبب هذه الوظيفة، فكل عمل يتوصل به إلى هذه الأمور فهو محرم، لا يتوصل إليها، يعني لا تجعل مصالح المسلمين العامة سببًا يتوصل به إلى تحصيل المصالح الخاصة، قد لا يأخذ مالاً، لكن يكون علاقات، ويحرص على هذا أحسن عنده من المال، يتعرف على فلان، وهذا يعطيه كرت، وهذا يعطيه كرت، وهذا أي خدمة، نحن حاضرون، من أجل ماذا؟
من أجل وظيفته، فهو يحرص على هذه الأشياء، قد يحتاج إليها في يوم من دهره، فيتصل، وبعضهم لربما له حيل، وطرق، يرسل دائمًا تهاني، وعبارات رسائل بالجوال، يعني: اذكرني، لا تنس هذا الاسم، فقد أحتاج إليك في يوم من الأيام، نعم، فيبقى على اتصال، فإذا احتاج اتصل عليه.
فالمقصود أن الإنسان لا يجوز أن يتسلق بهذه الوظائف ليتوصل إلى منح، وعطايا عينية، ولا معنوية عن طريق العلاقات تتسهل له معاملات في جهات أخرى، ويخدم، وما أشبه ذلك، لا، هذه مصالح المسلمين العامة، يأخذ عليها أجرًا، أما من كان يعمل متطوعًا، متبرعًا، معلم يعمل متبرعا، تحفيظ القرآن، فأعطي، يجوز له أن يأخذ، يجوز، لا بأس، من غير استشراف نفس، ولا اشتراط، ولا شيء من ذلك.
لاحظتم هذا المعنى، فيلحظ فيه إلى الأمرين، بعض الناس يسأل عن الرشوة دائما، يقول: هذا ليس برشوة، نقول: لكن هذا تأتيك هذه لو كنت في بيت أبيك وأمك؟
سيقول: لا، إذًا لا تأخذها.
وهذا يحصل حتى الأطباء، تأتيهم شركات الأدوية، ويعطونهم حقائب، يعطونهم أجهزة، يعطونهم أشياء ثمينة، أحيانا حقيبة محمول، حاسوب، وأحيانا حاسوب، وأحيانا هاتف جوال، وأحيانا غير ذلك، فيسأل هذا الطبيب، يقول: هل يجوز لي أن آخذ هذه الأشياء.
نقول: لا، ما يجوز لك، لماذا؟ لأن هؤلاء يعطونك ماذا يريدون منك؟
يريدون أن تكتب للمرضى هذا الدواء، وبعض من لا يخاف الله من الأطباء حتى لو كان المريض ما يحتاج، يكتب لكل من جاءه هذا الدواء؛ من أجل أن يسوق لهم أكبر قدر منه.
فهذا يشترى فيه الذمم هذه العطايا، أضف إلى ذلك إلى أنه كان سببا لتحصيل.. بخلاف الأشياء التي توزع على الجميع بلا فرق، يأتون، ويوزعون تقويم على الطلاب، والأساتذة، ومن جاء أخذ، ولو كان جالسا في بيت أبيه وأمه استطاع أن يأخذ، من جاء أخذ، فهذا لا بأس به، لا إشكال فيه، إنما الذي يعطى لمن كان في هذه الوظيفة خاصة.
ومن أراد أن يخرج من الحرج، فكيف يصنع؛ يقول: أنا لا آخذ شيئا عندكم الإدارة أعطوها ما تريدون، ثم هي تنظر كيف تعطيه للموظفين، أما أنا فلا آخذ من أحد شيئا، يبقى نظيفا نزيها متجردا، الطبيب أحيانا قد يعمل عملية دقيقة جدا، ويمتلئ قلب هذا الإنسان الذي عملت له العملية من العرفان، والشكر، والتقدير لهذا الطبيب.
وكذلك ذووه من قرابته يريدون أن يقدموا شيئا لهذا الإنسان، ماذا يصنعون، نقول: ما تعطونه، وإن أعطيتموه لا يجوز له أن يأخذ، لكن ممكن تعطونه شيئا يدل على الشكر، بطاقة، أو نحو ذلك فيها عبارات جميلة.
المعلمة تعطونها بطاقة تشترك فيها الطالبات، يكتبون أسماءهم، أو يكتبون طالبات الفصل، أو نحو هذا، دون أن تعطى هدية.
أحيانا بعض الناس؛ المعلمة أو المعلم يقول: أنا أحرجت هذا طالب طفل صغير، ومتحمس، وما أردت أن أرده، يبين له، يقول له: أنا أحب أن آخذ منك، لكن لا يحل لي هذا.
إذا كان أخذ الإنسان من قبل، وهذا الطالب تخرج، وذهب ما يستطيع يصل إليه، ماذا يصنع؟
نقول ضعها في الإدارة، ضعها في المصلحة العامة، هذه تحفة ضعها في المدرسة، لا تأخذها لك، لا تذهب بها إلى بيتك، هي مزهرية ضعها في الفصل لهؤلاء الطلاب جميعا.
فالحاصل أن النبي ﷺ قال هذا الكلام، ثم قال: والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله -تعالى- يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء....
وكنت أشرت قبل أيام إلى هذا المعاني، ولا حاجة إلى شرحه، لكنه يعني هذه المعاني التي ذكرت لربما اختيرت قصدًا، البعير، والبقرة، والشاة، ما قال شيء آخر مثل: السيف، أو الدرع، أو الثوب، هذه فضيحة، إنسان تصور أخذ هذه الأشياء خلسة، ولا يريد أن يشعر بها أحد، ويأتي يوم القيامة، وهذا البعير يرغي، وهذه البقرة تخور، وهذه الشاة تثغي، فتفضحه أمام الخلائق شيء يستتر به، لا يريد أن الناس يعرفون ما أخذ، فيأتي، وقد افتضح مثل الإنسان الذي سرق.
مثلاً معزة صغيرة، أو نحو ذلك عناقا وضعها في كرتون، وجاء يحمله خلسة، فصاحت بين الخلائق، فمثل هذا تكون فضيحة لمثل هذا الإنسان، فالحاصل أن النبي ﷺ قال: أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر[1] ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، فقال: اللهم هل بلغت، متفق عليه.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، برقم (1832).