الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب تحريم الظلم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: "كان على ثقل النبي ﷺ" يعني على أهله، وعياله، ومتاعه، وما يحمله -عليه الصلاة والسلام- الثقل ما يحمله الإنسان في الأسفار، وما وراءه من أهل، ومتاع، ونحو ذلك "كان على ثقل النبي ﷺ رجل يقال له كركرة" وضبطه بعضهم بفتحتين كركرة، وذكر النووي -رحمه الله- أنهم متفقون على أن الكاف الثانية مكسورة، واختلفوا في الأولى كِركِرة، أو كَركِرة مع أنه اختلف في الثانية على كل حال.
وهذا رجل قيل: إنه رجل من النوبة رجل كان رقيقا، يقال: إن الذي أهداه للنبي ﷺ هو صاحب اليمامة، ثم بعد ذلك أعتقه النبي ﷺ وبعضهم يقول: إنه مات على الرق.
فهذا الرجل يمسك دابة النبي ﷺ في القتال هو رقيق، مملوك لرسول الله ﷺ رجل من المسلمين، وقريب جدا منه، كان على متاعه، وحمل رسول الله ﷺ وعلى أهله، وهو الذي يمسك دابته في القتال.
فالحاصل أن الرجل مات، فقال رسول الله ﷺ: هو في النار.
والنبي ﷺ لا ينطق عن الهوى "فذهبوا ينظرون إليه" يبحثون عن السبب الذي أدخله النار "فوجدوا عباءة قد غلها"[1] من الغنيمة، والغلول هو أخذ المال من الغنيمة قبل أن تقسم، والعباءة هو ثوب أسود مخطط، وقيل له غلول ما يؤخذ من الغنيمة قبل أن تقسم؛ لأن صاحبه يحرص على إخفائها عن الناس.
فهذا الرجل بهذه المثابة، قريب جدا من النبي ﷺ وهو الذي يمسك دابته في القتال، ويقوم على هذا الأمر الخاص من قيامه على أهله، وعلى متاعه الخاص، ومع ذلك قال -عليه الصلاة والسلام- هو في النار، وهو مجاهد مع النبي ﷺ غل عباءة، ما قيمة هذه العباءة، ماذا تساوي هذه العباءة، وهذه العباءة الغالب أنها ملبوسة؛ لأنها لأحد هؤلاء المقاتلين قتل، فنزعت منه، أو أنه فر، وتركها، فهي مستعملة كما نقول الآن، ثوب مستعمل لو عرض على أحدنا لما نظر إليه، وأخذه هذا الرجل، فقال النبي ﷺ هو في النار، فكيف بمن أخذ الأحمر والأصفر، وكيف بمن أخذ نفائس الأموال، أو التحف، أو المتاع، أو الأجهزة، أو العقارات، أو غير ذلك من الأمور التي لها قيمة، وشأن عند الناس.
هو في النار على شملة! رجل مجاهد مع النبي ﷺ وهذا مصيره، فقد يتقال الإنسان بعض الأعمال، وهي من الظلم، فتودي به، فيهلك بسببها، وهناك كثير من المزاولات، والأعمال الدقيقة التي قد لا نعدها من الظلم، وهي في الواقع من الظلم، وما أكثرها مما لا يتصور الناس، بل مما قد يتقربون به إلى الله وهي من الظلم.
الآن الرجل الذي يأخذ المصحف من المسجد، ويذهب به إلى بيته هذا من الظلم، وهو سرقة، فالمصحف يسرق، وقد يقصد بهذا التقرب إلى الله القراءة بهذا المصحف، أليس كذلك؟ هذا من الظلم، انظروا إلى صور دقيقة من الظلم.
الإنسان الذي يتحجر مصحفا من مصاحف المسجد، لا يأتي به من بيته، ثم يضع عليه خرقة، لا يستعمله، ولا يقرأ به أحد سواه، هذا ماذا يسمى، يسمى تحجر للمصحف، وظلم بغير حق.
الذي يتحجر مكانا في المسجد يضع فيه سجادة بغير حق، ويضع هذه السجادة، ويأتي، ولو جاء متأخرًا هو الذي يصلي فيه.
في المسجد الحرام الذي يأخذ الفرش الذي وضع لأجل أن يصلي عليه الناس، ويضعه في آخر المسجد، فيجلس، ويشرب عليه الشاي، وينام عليه، ويتوسده، وينازع، ويقاتل إذا قيل له اترك هذا للمصلين، كأنك قلت له: نكرى هذا من الظلم.
هناك صور من الظلم لا نتصورها، ونحن نريد التقرب إلى الله أنا أذكرها لدقتها مما يقصد به الناس التقرب إلى الله فضلاً عن غيره مما يدركون أنه ظلم.
الناس يصفون طوابير للوضوء في سطح المسجد الحرام في رمضان، أليس كذلك، ثم يأتي إنسان من الخلف، ويسارقهم الماء، والناس ينتظرون، ويصطفون، ويأتي هذا له حكم الغصب، وفي صحة وضوئه نظر؛ لأنه قد غصب هذا الماء، أخذه بغير حق، الناس سبعة ثمانية واقفين في الطابور، وهو جاي من وراء يتبسم، ويضحك، ويسارقهم مسارقة، هذا ماذا يسمى، ما حكم وضوؤه، هو يتقرب إلى الله أم يتباعد منه.
هناك أشياء كثيرة نحن نريد التقرب بها إلى الله أحيانا، وهي في الواقع من المظالم، فضلاً عن غيبة الناس، فضلاً عن الأشياء الواضحة من أذيتهم، أذية الجار، أذية الصاحب في العمل، الصاحب بالجنب مما أوصى الله الصاحب في السفر، أذية الناس في الوقوف أمام أبوابهم، أذيتهم برفع الأصوات المزعجة، كل هذا من المظالم.
وهناك أشياء دقيقة تخفى على كثير من الناس، ممن يتحرى الخير، ويطلبه، ومسألة الظلم ليست بالشيء السهل انظروا إلى هذا الرجل غل هذه العباءة، فقال النبي ﷺ: هو في النار فكيف بمن غل ما هو أعظم من العباءة.
وكثير من الناس أيها الأحبة يأتي أبناءهم يسألون بعد موتهم، يقولون: بأن أباهم أخذ قبل أربعين سنة من العمل كذا، وكذا، والدتنا تقول: إن أباكم أخذ قبل خمسين سنة من العمل أسلاكًا، أو أخذ فأسا، أو مطرقة، أو نحو ذلك من الأمور التافهة، لكنه قد يكوى بها في قبره.
وهكذا ما يحصل بين الناس من لحن القول -كما سيأتي في الحديث الآخر- كل إنسان ألحن بحجته من بعض، يصدم أعجمي، ويستطيع بطلاقة لسانه أن يتكلم مع المرور بطريقة يوحي بها، أو يفهمهم، أو يقنعهم أنه هو صاحب الحق، وأن هذا مخطئ عليه، وذاك مسكين، لا يكاد يبين، فهو يأخذها قطعة من نار، وهكذا أيها الأحبة في صور كثيرة تتكرر، وتقع.
يأتي إنسان، ويصدم إنسانا آخر، وقد يقال له: أنت عندك تأمين؟ يقول: لا، أنت عندك تأمين؟ نعم، إذن نضعك أنت المخطئ، أو تضع فلان هو صاحب السيارة، هو الذي كان يقودها، معه تأمين، إنسان آخر هذا يجوز؟
هذا يأخذه نارًا قطعة من النار لا يحل له أخذه، وهكذا في صور كثيرة يظن كثيرون أنها شطارة، وحذق في معاملاتهم، وبيعهم، أو شرائهم، أو غشهم، أو غير ذلك من الأمور، وهي من الظلم -فالله المستعان-.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب القليل من الغلول، برقم (3074).