الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين..»، «تبلغ الحلية من المؤمن..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب فضل الوضوء، ومضى الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] الآية، وأن ذلك من تيسير الله ولطفه بعباده، حيث خفف عنهم وأحالهم إلى التيمم إذا عجزوا عن استعمال الماء، أو كانوا عادمين له، وهذا هو حقيقة يسر هذه الشريعة، وأن الله ما جعل علينا في الدين من حرج، وأن الدين يسر، فالمشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، وليس اليسر كما يفهمه بعضهم: أن الإنسان يتخفف من شرائع الإسلام، ويجترئ على حدود الله -تبارك وتعالى-، ويقارف ما حرم عليه، أو يترك ما أوجب عليه، بحجة أن الدين يسر، ويرمي من أقام حدود الله ، وعمل بما أوجبه الله عليه، واجتمع ما حرم عليه بالتشدد والتنطع، ليس هذا هو التشدد والتنطع، فالتشدد والتنطع -أيها الأحبة- أن يحرم الإنسان ما أحل الله، هذا هو التشدد، وهذا هو الغلو في الدين، أما الذي يلتزم شرع الله ، فيحل الحلال، ويحرم الحرام، ويقف عند ما أوجبه الله ، فإن هذا هو المسلم، وهذا هو حقيقة دين الإسلام، وأما يسر الشريعة فهي كما في هذا المثال: أن الله ما جعل علينا في الدين من حرج، عجزنا عن استعمال الماء، أو تضررنا باستعماله، فإننا نلجأ إلى التيمم، وقل مثل ذلك إذا كان الإنسان مسافرًا، فإنه يباح له الفطر في رمضان، فإذا كان مريضًا، فإنه يباح له الفطر أيضًا، وما شابه هذا.

ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل[1].

قوله ﷺ: إن أمتى يدعون يوم القيامة غرًا محجلين فالغر جمع أغر من الغرة، وهي البياض الذي يكون في ناصية الفرس، يقال له: غرة، ويجمع على الغر، والمراد بذلك أن في وجوههم من البياض والنور والضياء ما يكون أثرًا للوضوء، وهكذا يكون هذا البياض في أطرافهم، في الأيدي والأرجل.

قال: من آثار الوضوء فدل على أن هذه الغرة التي تكون في الوجه، مع التحجيل الذي يكون في الأطراف، وأنه من آثار الوضوء.

وقد جاء في حديث آخر قال فيه النبي ﷺ: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غرٌ محجلة بين ظهر خيل دُهم بُهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون غرًا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض[2]، رواه مسلم، فالنبي ﷺ قرب لهم المعنى، وبينه وجلاه بمن دخل في حظيرة فيها خيل بُهم دُهم، يعني سوداء لا يخالط سوادها لون آخر، وفيها فرس أغر محجل، يعني في ناصيته بياض، وفي أطرافه بياض، أما تعرفه من بينها؟ فقال السائل: بلى، فبيّن له النبي ﷺ أنه يعرف أمته بهذا.

طيب هذا الذي لا يصلي -عفيف الجبهة- نسأل الله العافية، ومن ثم فهو لا يتوضأ، فكيف يعرفه النبي ﷺ يوم القيامة؟ وكيف يُدعى؟

النبي ﷺ يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء الذي لا يتوضأ، ولا يصلي، هل يُدعى مع هؤلاء؟ وهل يتميز عن اليهود والنصارى والبوذيين وعباد الأصنام وغيرهم؟

فهذا الإنسان الذي لا يسجد لله سجدة، عفيف الجبهة، كيف يُعرف؟ هل يمكن لهذا الذي لا يصلي ولا يتوضأ أن يأتي يوم القيامة وهو أغر محجل؟ هذا لا يمكن؛ لأن النبي ﷺ قال: من آثار الوضوء فالذي لا يتوضأ أصلاً يأتي بهذه الصفة، ولا يأتي بهذا إطلاقًا، وهذا يكفي لوحده فقط، في بيان أهمية الوضوء، وأهمية الصلاة، وهذه موعظة عظيمة جدًا، فينبغي أن يقف الإنسان عندها، فإذا كان مفرط في الصلاة، وإذا كان عنده أولاد لا يصلون، وعنده بنات لا يصلين، وزوجة لا تصلي، فهؤلاء كيف سيدعون يوم القيامة؟ وكيف ستميزون عن بقية الخلائق؟ مع كثرة الأدلة الدالة على عظم شأن الصلاة، وما يطلب لها من الطهارة، ثم إن قوله ﷺ في هذا الحديث: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء يعني جعل الغرة والتحجيل من آثار الوضوء، وفي حديث آخر ذكر فيه النبي ﷺ: أمتي يوم القيامة غر من السجود، محجلون من الوضوء[3]، فجعل الغرة من آثار السجود، والتحجيل من آثار الوضوء، وفي هذا الحديث جعل الغرة والتحجيل كلاهما من آثار الوضوء، والجمع بين هذا وهذا أن يقال -والله تعالى أعلم-: إن الغرة تحصل من آثار السجود، ويحصل البياض والإشراق والنور في الوجه من أثر السجود، وحاصل أيضًا من آثار الوضوء، فيجتمع نور مع نور، وقد مثل أهل العلم هذا بمن دخل بسراج، فأضاء له المكان، فإذا جيء بسراج آخر ازداد المكان إشراقًا وإضاءة، فإذا جيء بسراج ثالث ورابع، فإن ذلك لا يزاحم الأول، ولا يناقضه، ولا يعارضه، وإنما يكون زيادة في الضياء والنور، فيزداد لهذا إشراق على إشراق، إشراق السجود، مع إشراق الوضوء.

وقد ذكرتُ في مناسبات سابقة: أن قوله -تبارك وتعالى-: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29] أنه ليس المقصود به السواد الذي يكون في الجبهة، فإن هذا قد يقع بأثر السجود، وقد يقع تكلفًا، وقد يقع لبعض أهل البدع من الرافضة ونحوهم، وإنما المراد بذلك -والله تعالى أعلم- إشراق الوجه، فإن الوجه مرآة للقلب، فإذا زكى القلب أشرق الوجه، وإذا زكى القلب وأشرق بالإيمان أشرق الوجه؛ ولهذا قال عثمان : "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه"[4]، وإنك لتعرف المرء بصلاحه واستقامته غالبًا من وجهه، ولا أعني بذلك أن يكون له لحية، أو لا يكون له لحية، مع أن اللحية من الدين، ومن الشرع، لكن كم من إنسان له لحية ووجهه مظلم أسود، ولا تستطيع أن تنظر إليه، هذا موجود، وإنما أقصد إشراق الوجه بسب إشراق القلب، بسبب العمل الصالح، وبسبب الحال التي عليها هذا الإنسان، وبسبب صلته بربه -تبارك وتعالى-، وتعرفون الأثر المنقول عن شريك بن عبد الله -أحد رواة الحديث- وقد جاء ذلك مدرجًا في الحديث، ولكنه ليس من قول رسول الله ﷺ لما دخل داخل من الباب فرآه، وهو في مجلس التحديث، قال: "من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار"[5]، وهذا صحيح.

فالنبي ﷺ هنا يقول: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ما معنى هذا؟ فهم منه بعض أهل العلم، وهو الذي فهمه أبو هريرة أن المقصود: الإطالة على حد الفرض، الفرض مثلاً عرفنا إنه في غسل اليدين إلى المرفقين، وأن المرفقين داخلان مع اليدين، فبعض أهل العلم فهم أنه يزيد إلى العضد، حتى يصل إلى المنكب، أو الإبط، هكذا فهم بعض أهل العلم  من قوله: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل وبعض أهل العلم قال: المراد بذلك إسباغ الوضوء، من غير زيادة.

وبعضهم قال: إن هذه الزيادة: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل مدرجة، وليست من قول النبي ﷺ، وإنما هي من قول أبي هريرة ، هذا الذي يسمونه المدرج، يعني: ذكر الحديث وذكر بعده كلامًا توهم السامع أنه من قول النبي ﷺ.

فعلى كل حال يقال: لا يشرع الزيادة على موضع الفرض، والدليل على ذلك هو فعل النبي ﷺ وصفة الوضوء المنقولة عنه، وقد واظب على ذلك، وما نقل أنه زاد، ففعله هو المشروع، وما زاد عليه فهو نوع من التكلف والغلو، والله تعالى أعلم.

هذا الحديث والحديث الآخر قصير يتعلق به، وهو قوله حديث أبي هريرة سمعتُ خليلي ﷺ يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء[6]، وجاء في رواية أخرى عند ابن حبان بإسناد صحيح: تبلغ حلية أهل الجنة مبلغ الوضوء[7]، فدل أن ذلك يكون في الجنة، يعني حلية أهل الجنة، أين تكون؟ حيث بلغ الوضوء، فمعنى ذلك أن هذا كله في اليد، فكل هذا حلية، فهذا ما يدل عليه ظاهر الحديث، والله تعالى أعلم، هذا الحديث يرويه مسلم.

وأيضًا يقال- كما سبق-: هذا الذي لا يتوضأ، ولا يصلي كيف تكون حليته؟ والنبي ﷺ يقول: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر[8].

والله المستعان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء برقم (136) ومسلم في الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل برقم (246).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء برقم (249).
  3. أخرجه الترمذي في أبواب السفر، باب ما ذكر من سيماء هذه الأمة يوم القيامة من آثار السجود والطهور برقم (607) وصححه الألباني.
  4. الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/136).
  5. أخرجه ابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل برقم (1333).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء برقم (250).
  7. أخرجه ابن حبان برقم (1045) وقال محققوه: "حديث صحيح".
  8. أخرجه الترمذي في أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة برقم (2621) وابن ماجه في أبواب إقامة الصلوات والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة برقم (1079) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة