الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «الطهور شطر الإيمان..» إلى «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي باب فضل الوضوء أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: الطهور شطر الإيمان[1]، رواه مسلم.

وقد مضى الحديث بطوله في باب الصبر.

قال المصنف -رحمه الله- في باب حديث عمرو بن عبسة السابق في آخر باب الرجاء، فهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الخيرات.

فقوله ﷺ: الطهور شطر الإيمان الطهور -كما هو الظاهر المتبادر هنا- أي الطهارة، لكن بأي اعتبار كانت الطهارة شطر الإيمان؟ العلماء -رحمهم الله- لم يتفقوا في ذلك على قول، وإنما اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا، فبعضهم حمله على ظاهره، أي: أن الطهور هو الطهارة، لكن اختلفوا في تفسير قوله ﷺ: الطهور شطر الإيمان ما توجيه ذلك؟ شطر الإيمان أي: نصف الإيمان، فبعضهم قال: إن الإيمان هو الصلاة، والله قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، قالوا: هذا هو الإيمان هنا، إذا فما المعنى؟ قالوا: يعني أن الطهارة شطر الصلاة فهي مفتاحها، ولا تصح إلا بها.

ومن أهل العلم من قال: بأن ذلك غير مراد، وأن الإيمان ليس المقصود به الصلاة، وإنما هو الإيمان المعروف، فمنهم من قال: بأن الإيمان لما كان ينقسم إلى قسمين:

الأول: من باب التخلية.

والثاني: من باب التحلية.

قالوا: فالطهور هو شطر الإيمان بهذا الاعتبار، فالطهور يعني الطهارة، تشمل طهارة القلب وطهارة البدن، فطهارة القلب من الشرك وما تفرع عنه من كل ما يسخطه الله ويكرهه من الذنوب والمعاصي، كالحسد والغل، وسوء الظن، وما أشبه ذلك، فكل هذه الأمور وغيرها هذا التنزه منها شطر.

والقسم الثاني: هو ما يكون من باب التحلية، يعني أعمال الإيمان: التوكل، والخوف من الله، والرضا، والشكر، ومحبة الله، ومحبة رسوله ﷺ، وما إلى ذلك من أعمال القلوب، وأعمال الجوارح.

فالشطر الأول هو ما يتصل بالتخلية الواقعة في القلب من التخلي عن الشرك والأدناس، وأما ما يتعلق بالجوارح فيكون بالتخلي من المعاصي والذنوب، وما أشبه ذلك، فقالوا: هذه طهارة معنوية.

والثاني: الطهارة الحسية، وهي التي تكون بالماء، أو ما يقوم مقامه من التراب، فقالوا: الطهارة تأتي بمعنى النظافة، فهي تأخذ شق التنزه، ويبقى جانب التحلية.

ومن أهل العلم من قال: بأن الطهور شطر الإيمان لما كان الإيمان منه ما يتعلق بالطهارة المعنوية، ومنه ما يتعلق بالطهارة الحسية، فالطهارة أصلاً تنقسم إلى هذا وهذا، معنوية وحسية، فالطهارة التي تكون للصلاة هي الطهارة الحسية، وبقي الشق الآخر -النصف الآخر-، وهؤلاء وغيرهم نظروا إلى الشطر، قالوا: ليس معناها النصف بالتمام والدقة، وإنما المراد أنه جزء من الإيمان، كما يقال مثلاً الفرائض نصف العلم، باعتبار أن النصف الأول يتعلق بالأحكام المتعلقة بالحياة، والفرائض تتعلق بالأحكام التي تكون بعد الممات، وهي أحكام التركة، فقالوا: الفرائض نصف العلم بهذا الاعتبار؛ لأن الأحكام المتعلقة بالحياة أكثر، فقالوا: ليس المقصود بالشطر هنا النصف، بحيث إنه يكون مساويًا للشق الآخر، لا، وهؤلاء منهم من قال: الطهور شطر الإيمان إذا كان بهذا الاعتبار إذًا هو جزء من الإيمان! باعتبار أن الصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والطهارة إيمان، والصلاة إلى بيت المقدس إيمان، فكل هذه من أعمال الإيمان، فقوله: شطر الإيمان قالوا: إذًا نقول: هو جزء من الإيمان، إذا خرجنا هذا التخريج قلنا: لا يلزم أن يكون الشطر بمعنى النصف هنا، إذًا نقول: هو جزء الإيمان، هكذا قال بعض أهل العلم.

وبعضهم قال: إن الطهارة تبلغ عند الله من الأجر والثواب مبلغًا؛ لكنها لا تتجاوز ما ذُكر، وهو شطر الإيمان، بمعنى أنها تبلغ ذلك في الأجر والثواب كحد أعلى، لكن هذا الكلام لا دليل عليه.

وهكذا تخريجات وتوجيهات كثيرة لأهل العلم غير ما ذكرتُ.

والحافظ ابن رجب -رحمه الله- أطال الكلام جدًا على هذا في شرحه للأربعين النووية، ومن أراد مطالعة مزيدًا من من الأقوال والتفصيلات ومناقشة هذه الأقوال، والحكم عليها، والترجيح، فليطالع شرحه الموسع جامع العلوم والحكم[2].

فالمقصود: أن قوله ﷺ: الطهور شطر الإيمان يدل على منزلة الطهارة، ومكانتها في الدين، فالنبي ﷺ أخبرنا بأن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن[3]، فهنا الطهور أيضًا شطر الإيمان، وما قال النبي ﷺ مثلاً أن الصيام شطر الإيمان، أو الزكاة شطر الإيمان، وإنما قال: الطهور شطر الإيمان وبعض أهل العلم قال: العبادات نوعان:

منه ما يكون من قبيل الأمانات لا يعلم به إلا الله، ومنه ما يكون شعائر ظاهرة.

فالطهارة بأنواعها؛ من الاغتسال من الجنابة ومن الحدث الأكبر، والطهارة الصغرى، هذه لا يطلع عليها إلا الله، فلو صلى بغير طهارة ما علم أحد.

والنوع الثاني: الذي هو المشاهدة، كصلاة الجماعة، والأذان، وما أشبهها.

ثم ذكر الحديث الأخير في هذا الباب، وهو حديث عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ قال: ما منكم من أحد يتوضأ، فيبلغ أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء[4]، رواه مسلم، وزاد الترمذي: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين[5].

قوله: فيبلغ تفسرها الرواية الأخرى فيسبغ يعني: أنه يبلغ بالطهارة إلى حد التمام والكمال، من غير نقص، ولا إخلال، فتأتي طهارته كاملة على الوجه المشروع.

ثم يقول: أشهد أن لا إله الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء لاحظ هنا ذكر الطهارة، وذكر هذا القول، فيكون ذلك سببًا لفتح أبواب الجنة؛ ولهذا بعض أهل العلم ربطه مع حديث: الطهور شطر الإيمان[6]، فقال: الطهارة مع الإيمان سبب لدخول الجنة، والمقصود: طهارة القلب، وطهارة البدن سبب لدخول الجنة، كما أنه إذا قال هذا القول مع الطهارة، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، فيدخل من أيها شاء.

فأبواب الجنة ثمانية، وكما جاء في حديث عتبة بن غزوان، وقد علقتُ عليه في رمضان: أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام[7]، وبينت هناك سعة ما بين المصراعين بالكيلو مترات تقريبًا، فإذا قلنا: إن مسيرة اليوم تصل إلى أربعين كيلو متر على الجمال بالسير القاصد المعتدل، كما يحسبه الفقهاء، فإذا ضربت أربعين في أيام السنة (345) يوما، يخرج لك كم تقطع الإبل في سنة، بهذا المشي القاصد المعتدل، فإذا ضربتها بأربعين ظهر لك عدد الكيلو مترات تقريبًا التي تقطعها الإبل في أربعين سنة في سيرها المتواصل، هذا باب واحد، وجاء في رواية أخرى: إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وحمير -أو كما بين مكة وبصرى-[8]، وجاء في بعض الروايات غير هذا، لكن مهما يكن فكما بين مكة وهجر هذه مسافة بعيدة، وهجر المقصود بها في هذا الحديث التي في هذا الساحل الشرقي من جزيرة العرب، فهذا من أجل أنه تطهر، وقال هذا الكلام القصير: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، تفتح له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء.

وكما في حديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر : أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر : أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر : أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر : أنا، فقال رسول الله ﷺ: ما اجتمعن في امرئ، إلا دخل الجنة[9].

فالشاهد: أن الأبواب الثمانية هذه يدخل من أيها شاء، مع أنه جاء في أن باب الريان للصائمين، لا يدخل معهم غيرهم، ولا منافاة، فهي تفتح له، لكن لا يعني أنه سيدخل من هذا الأبواب كلها، هو سيدخل الجنة، لكنه تفتح له أبوابها، وهذا هو الفضل العظيم، يعني حينما يتصور الإنسان الناس وهم يريدون دخول الجنة، كما في حديث عتبة بن غزوان: أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام[10]، مع هذه المسافات الشاسعة الهائلة، ومع ذلك يزدحم، فتصور الإنسان حينما ينادى عليه بشيء من المكاسب، وأنه نجح، أو ظفر في مناقصة تجارية، أو أنه حصل له شيء يحبه، فإنه يفرح كثيرًا، وكانت نتائج الطلاب في المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية تذاع في الإذاعة قديمًا، ولا تسأل عن حال السامعين، والناس يتجمعون عند أجهزة المذياع، فهذه تسقط مغمى عليها من الفرح، وهذا تسقط مغمى عليها من الحزن، وتلك تولول وتبكي، وتلك تطير وتصرخ من الفرح، وتصور طلاب الجنة لما تفتح هذا هو الفرح الحقيقي، لا بما يفرح به بعض الناس قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء برقم (223).
  2. جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (2/5).
  3. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد برقم (5015) ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد برقم (811).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء برقم (234).
  5. أخرجه الترمذي في أبواب الطهارة، باب ما يقال بعد الوضوء برقم (55) وصححه الألباني.
  6. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء برقم (223).
  7. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق برقم (2967).
  8. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3] برقم (4712) ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها برقم (194).
  9. أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة، وأعمال البر برقم (10289).
  10. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق برقم (2967).

مواد ذات صلة