الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي باب فضل الأذان، أورد المصنف -رحمه الله- حديث معاوية قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة[1]، رواه مسلم.

قوله ﷺ: أطول الناس أعناقًا فسّره بعض أهل العلم بأنهم أكثرهم تطلعًا وتشوفًا إلى الثواب عند الله -تبارك وتعالى- وذلك أن الذي يتشوف ويتطلع إلى شيء يمد عنقه، ويتطاول لذلك، هكذا قال بعض أهل العلم، ولا يخلو من بُعد.

ومن أهل العلم من قال: أطول الناس أعناقًا بمعنى: أن الناس يعرقون في أرض المحشر، فمنهم من يلجمه العرق إلجامًا، وأما المؤذنون فهم أطول الناس أعناقًا في ذلك الموقف، فلا يحصل لهم مثل هذا، هكذا قال بعض أهل العلم.

وبعضهم قال: أطول الناس أعناقًا أي: أكثرهم أتباعًا، وأن ذلك استعمال عربي، فيُعبر به عن هذا المعنى.

ومن أهل العلم من قال: أطول الناس أعناقًا أن ذلك لشرف مكانتهم، ورفيع منزلتهم، فإن العرب تقول للسيد: طويل العنق -يصفون السادة بذلك- فقالوا: أطول الناس أعناقًا يوم القيامة، يعني: أنهم أصحاب الشرف والمنزلة والمحل والمكانة الرفيعة، فهم أطول الناس أعناقًا بهذا الاعتبار.

وبعضهم يقول غير هذا.

وعلى كل حال بعض هذه التأويلات قريبة، وبعضها لا يخلو من بُعد، والله تعالى أعلم.

لكن المقصود من هذا هو أمر يشرفهم، ويكون لهم فيه مزية على غيرهم من الناس، سواء قيل: إن هذا الطول هو طول حسي، أو قيل: بأنه طول معنوي؛ لأن هذه الأقوال التي ذكرت منها ما يرجع إلى أنه طول حسي، وهو طويل العنق، إما أنه يترفع يتشوف أكثر الناس تشوفًا، وهذا يمكن أيضًا أن يرجع إلى المعنى، أو أنه طويل العنق، بحيث لا يصل العرق منه إلى ما يصل إليه العرق من بعض الناس، فيلجمهم، أو كان المعنى أو المراد من الأمور المعنوية، كأن يكون الشرف والمنزلة الرفيعة، وكثرة الأتباع، أو ما إلى ذلك، وإن كان بعض هذه التفسيرات أبعد من بعض.

ثم ذكر حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، وهو من التابعين، أن أبا سعيد الخدري قال له: إن أراك تحب الغنم والبادية -والبادية معروفة خلاف الحاضرة- فإذا كانت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة[2] قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله ﷺ. رواه البخاري.

قوله أبي سعيد لعبد الله بن أبي صعصعة -رحمه الله-: إذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء هذا يدل على ما ذكرته في الليلة الماضية، وهو أن النداء -الأذان- لا يقصد فقط للإعلام بدخول وقت الصلاة؛ لأنه إذا كان منفردًا في باديته، فإنه يعلِم من؟ فلا يقال: إنه إن كان وحده فإنه لا يؤذن؛ لأن المقصود بالأذان هو الإعلام بوقت الصلاة، ولا يوجد من يعلمه، نقول: لا هو عبادة أيضًا؛ ولهذا المؤذنون في المساجد في البلد الواحد يقال: الأذان الذي يجب أن تتوافر فيه الشروط ينبغي أن يوجد في البلد من يؤذن، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: لو امتنع أهل بلد عن شيء من شرائع الإسلام، أو شعائره كالأذان، فإن الإمام يقاتلهم على ذلك[3].

ما الذي يسقط الوجوب؟ وجود أذان واحد في البلد، طيب وبقية المؤذنين؟ يقال: إن أذانهم ليس بواجب، إذا وجد في البلد من يؤذون حصل المقصود، بمعنى: لو أن الناس قالوا: صلينا، ثم اكتشفنا أنه ما أذن أحد، نقول: لا شيء عليكم، ولو قالوا: صلينا ولم نؤذن قصدًا؛ لأن المؤذن تأخر، فقلنا: لا داعي للأذان فصلينا، نقول: صلاتكم لا إشكال فيها، طيب لو أنهم قالوا: أذن صبي صغير عند من يشترط في المؤذن أن يكون أهلاً للتحمل والأداء، قالوا: إذا أذن طفل عمره ست سنوات أذانًا صحيحًا هل يحصل به المطلوب؟ عند جماعة من أهل العلم: أن هذا لا يصح أذانه؛ لأنه لا يؤذن إلا من يكون معتبرًا في التحمل والأداء، يعني بمعنى أنه يوثق بقوله بأنه يعلم بوقت الصلاة؛ ولذلك اختلفوا حتى في أذان الأعمى هل يصح أو لا؟ باعتبار أنه لا يرى، ولا يعرف الوقت، هذا قديمًا لكن الآن توجد ساعات، يعرف بها الأعمى، والناس أيضًا في بعض الأماكن مثل في الحجاز وفي مكة والمدينة يؤذنون أصلاً على المذياع، فكل مسجد فيه مذياع، فالأعمى والمبصر سواء، فإذا سمعوا أذان الحرم في مكة أو المسجد النبوي في المدينة إن كانوا من أهل المدينة أذنوا، ولا ينظرون إلى الساعة، فالأعمى لا إشكال، ما الفرق بينه وبين البصير؟!

فأقول: لو أذن صبي صغير عند من يرى أن الأذان لا يصح إلا ممن يصح منه التحمل والأداء، فلا إشكال إذا كان أذن في البلد، فما دام أذن في البلد حصل المقصود.

ولو أخطأ المؤذن فترك جملة من جمل الأذان، فلم يقل مثلاً: حي على الصلاة، أو ما قال: حي على الفلاح أصلاً، فالأذان هنا إن كان ذلك في البلد يعني لا يوجد من يؤذن سوى هذا، فيقال له: أعد الأذان بارك الله فيك؛ لأن الأذان هذا ناقص، أو أذن إنسان لا يحسن، وجاء بعبارات تغير المعنى، كأن يقول: الله أكبار، الله أكبار، فأكبار يعني: الطبل، تعالى الله .

فلو مدها بهذه الطريقة (أكبار) ولم يقل: الله أكبر، كما يقول بعض المؤذنين من العامة، فمثل هذا يقال له: أعد الأذان؛ لأنه لا يجزئ، لكن إن وجد من يؤذن في البلد فلا إشكال.

فالمقصود أن حديث أبي سعيد هذا يدل على أن الأذان ليس لمجرد الإعلام، فهو يعلم من؟ هو في غنمه.

ثم قال: فارفع صوتك في النداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة جن وإنس هم أهل التكليف، ولكن ولا شيء، يعني: حتى الحيوانات، وظاهره: أنه حتى الجمادات؛ لأن شيء هنا نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء يسمع من الحجر والشجر، كلما وصله صوت المؤذن، فإن ذلك يشهد له يوم القيامة لا يسمع مدى صوت المؤذن يعني: آخر ما يصل إليه، وما قرب من باب أولى، فكل ذلك يشهد.

لاحظوا المنافسة التي في الحديث الذي في الليلة الماضية: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا[4]، يقترعون لماذا؟ لأن كل من سمع سيشهد له.

ثم أيضًا قال: "قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله ﷺ" سمع ماذا؟ بعض أهل العلم يقول: سمع هذا الأخير، وهو قوله: فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة هذا الذي سمع، وهذا الذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر[5]، وجماعة.

ومن أهل العلم من يقول: سمع ذلك جميعًا، يعني: وصيته لابن أبي صعصعة، وهي إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء ومع ما بعده، فكل ذلك جميعًا سمعه من النبي ﷺ، وبهذا قال أيضًا بعض أهل العلم، فعلى هذا القول يستشهد بأوله باعتبار أنه من كلام النبي على ما ذكرت، ويوجد أدلة غير هذا أيضًا.

وإن كان على قول الحافظ ابن حجر: إن الجملة الأخيرة هي التي من قول النبي ﷺ، فلا محل للاستشهاد هنا بما ذكرتُ، والله تعالى أعلم.

الأذان طبعًا فيه مسائل كثيرة، ولسنا بصدد الكلام عليها، وإنما يُذكر ما يتصل ببعض هذه الأحاديث.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه برقم (387).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب رفع الصوت بالنداء برقم (609).
  3. مجموع الفتاوى (28/503).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الاستهام في الأذان برقم (615) ومسلم في الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول... برقم (437).
  5. فتح الباري لابن حجر (2/89) حيث قال: "فالظاهر أن ذكر الغنم والبادية موقوف والله أعلم".

مواد ذات صلة